معهد الأمن القومي الاسرائيلي: اليوم التالي لـ “الدولة الاسلامية”: الفراغ في النظام

بقلم: روف غايس بنفولد واوري ديكل، معهد بحوث الأمن القومي الاسرائيلي ١-٨-٢٠١٨
في ايلول 2014 تعهد الرئيس الامريكي براك اوباما بـ “قمع وفي النهاية تدمير” تنظيم الدولة الاسلامية (داعش). وهو التنظيم السلفي الجهادي الذي زادت قوته بسرعة. الآن تم تحرير معظم المناطق التي سيطر عليها داعش. بعد دحر التنظيم من العراق بقيت في أيديه جيوب مقلصة جدا في سوريا. في تموز 2017 اعلن الرئيس ترامب أن التحالف برئاسة الولايات المتحدة “ينجح في الحرب ضد داعش” وأن التنظيم “يسقط بسرعة”. مع ذلك دور القوات المدعومة من الولايات المتحدة لا ينحصر في هزيمة “داعش” فقط، بل ايضا في بلورة بنية تحتية لنظام حكم في المناطق المحررة. هذه المسيرة تتميز باحتكاك ومنافسة مع باقي اللاعبين، من منظمات سنية وشيعية وحتى دول مثل روسيا وايران وتركيا. في حين أن المراقبين يميلون الى نقاش مسألة كيف تتم هزيمة التنظيم الجهادي فان محللين، مقرري سياسيات ولاعبين محليين يركزون الآن على الفترة التالية لسقوط داعش. اسئلة كثيرة ترتبط بطريقة منع عودة المنظمات السلفية الجهادية الى المنطقة. في حين أن اللاعبين الآخرين يحاربون من اجل فرض النظام والصلاحيات في المناطق التي تم تحريرها من الدولة الاسلامية والمتمردين الآخرين.
هذا المقال يعرض علاقات القوى الآخذة في التشكل في سوريا التي فيها مؤيدو نظام الاسد وغيرهم يحاربون من اجل تحقيق السيطرة. ويفحص تداعيات التوجه المتواصل حيث تنتقل الصلاحيات الى جهات تحت دولاتية ولاعبين مستقبليين بدلا من فرض السيادة الفعلية من قبل الدولة السورية. بعد استعراض قصير للفراغ النظامي في سوريا سيتم وصف بنية السلطة الجديدة في المناطق المحررة من سيطرة داعش، وسيتم فحص علاقات القوى بين الحكام والمحكومين. وسيتم تشخيص توجهات محتملة لمستقبل النظام في سوريا، من خلال المقارنة بين القوات المؤيدة للنظام وبين نموذج حكم متعدد اكثر تمت تجربته من قبل المتمردين في العاصمة المحررة للدولة الاسلامية في سوريا، مدينة الرقة. باختصار، المقال الحالي يفحص التداعيات السلبية للتوجهين المتواصلين في سوريا. الاول، غياب نظام سيادي قوي وثابت. الثاني، تعزز نفوذ ايران في المناطق المحررة من داعش بواسطة استخدام المليشيات الشيعية. إن الدمج بين عدم الاستقرار وطائفية مناوئة للسنة التي تستغل من قبل قوات مؤيدة للنظام وايران من شأنها أن تؤجج الشعور بالاضطهاد للسنة بدل أن تؤدي الى مصالحة متبلورة توحد الطوائف.
سوريا بعد الدولة الاسلامية: استعراض
في ذروة قوته سيطر داعش على المنطقة الممتدة على كل مساحة العراق وربع مساحة سوريا وضمت نحو 6 ملايين نسمة. ومنذ ذلك الوقت فقد تقريبا كل معاقله الجغرافية. في حزيران 2017 تمت اعادة احتلال مدينة الموصل – التي فيها اعلن داعش عن خلافته في العام 2014 – على أيدي قوات المؤيدين للحكومة العراقية. في نهاية 2017 تم احتلال عاصمة الدولة الاسلامية في سوريا،الرقة، وهي مدينة سورية يعيش فيها 200 ألف نسمة، على أيدي القوات السورية الديمقراطية. هذه المنظمة مكونة بالاساس من محاربين اكراد ومتمردين من السنة غير محسوبين على الجماعات الجهادية المدربة والمدعومة والمشغلة من قبل الامريكيين. كل المنطقة التي تقع شمال وشرق نهر الفرات وحتى الحدود السورية العراقية يسيطر عليها الآن من قبل القوات السورية الديمقراطية بعد ان هزمت داعش، وقوات محلية عملت في المنطقة. في المقابل اعادت القوات الموالية للنظام السوري وبشار الاسد احتلال مدينة دير الزور التي يعيش فيها 100 الف نسمة تقريبا والتي تقع قرب بئر النفط الاكبر في سوريا “العمر”. اعادة التقسيم الجديد للسيطرة والصلاحيات في المناطق المحررة من داعش تطرح سؤال ما هي بنية النظام التي ستملأ الفراغ في نظام الحكم الذي بقي؟.
من الصعب الافتراض أن المناطق التي تم تحريرها من داعش ستعود للسلوك حسب المعايير التي كانت قبل الحرب: الحكومة السورية بقيت ضعيفة وعديمة القدرة على الحكم والشرعية، والنتيجة هي هبوط مستوى الخدمات الاساسية ومستوى المعيشة للسكان. في 2015 قدرت الامم المتحدة أن 80 في المئة من السكان السوريين يعيشون في حالة فقر، وأن معدل الحياة انخفض بمعدل عشرين سنة منذ العام 2011. على صعيد الاقتصاد الاجمالي فقد خلقت الحرب الاهلية في سوريا توجه فيه ينظر الاشخاص الى هويتهم اكثر فأكثر الى مفاهيم طائفية ومحلية وليس حسب هويتهم القومية. إن فشل الدولة في منح أمن وخدمات أدى الى بلورة مليشيات محلية غالبا على قاعدة عائلية، طائفية ودينية. هذا الامر يرمز الى خصخصة التزامات الدولة وعودة مراكز قوى تقليدية. رغم قوة المليشيات المحلية إلا أنها لا تشكل البديل عن الحكم في الدولة. بدل تعظيم الجاليات المحلية والحكام المحليين، فان تفكك النظام أدى بشكل كبير الى انتشار الفساد وشبكات الحماية سواء في مناطق المتمردين أو في اوساط مؤيدي النظام. الامر الذي أدى الى زيادة المخالفات للقانون والشعور بالفوضى والاغتراب.
المليشيات الشيعية التي تدار من قبل ايران في اطار التحالف المؤيد لنظام الاسد – برئاسة حزب الله – عززت الصفوف الضعيفة لقوات الاسد. من خلال تمويل وتدريب هذه المليشيات تقوم ايران بدور حاسم في حماية النظام في سوريا. ايران تريد تعظيم نفوذها في المنطقة عن طريق انشاء ممر بري من ايران عبر العراق وسوريا وحتى لبنان، الذي يسيطر عليه مبعوثوها وحلفاءها. رغم معارضة ايران لداعش، وباقي قوات المتمردين في سوريا، فان نشاطها الداعم لنظام الاسد من شأنه أن يمكن بسهولة من عودتهم الى الساحة وتعزيز الجهات السلفية الجهادية عن طريق التنكر للنظام ومبعوثيه واشعال الشعور بالاضطهاد في اوساط السنة. التقارير تتزايد عن تطهير عرقي وعن عداء سني بسبب قمع الشيعة السائد.
ملء الفراغ الحكومي في المناطق المحررة
رغم بقاء نظام الاسد بعد الحرب، فان الحرب الاهلية والوكلاء حولت سوريا الى دولة فاشلة فعليا، تتنافس فيها مليشيات وقبائل ومنظمات طائفية – دينية. الجيش السوري لم يعد قائما كقوة قتال مبلورة وفعالة، ونظام الاسد يعتمد على المساعدة الروسية وعلى مقاتلي المليشيات الشيعية بقيادة ايران. روسيا توفر للقوات الداعمة لنظام الاسد حماية جوية ودعم لوجستي، على الاقل 1200 جندي روسي يوجدون ايضا على الاراضي السورية. ايران نشرت حوالي 7 آلاف مقاتل من مقاتليها خلال المعركة على اعادة احتلال مدينة حلب من أيدي المتمردين، معظمهم اعيدوا الى ايران وبدلا منهم زاد عدد المقاتلين من المليشيات الشيعية حتى 50 ألف مقاتل شيعي اجنبي يعملون في سوريا في مليشيات مختلفة، بمن فيهم 8 آلاف تقريبا من مقاتلي حزب الله. يزداد ايضا تفضيل سوريين يؤيدون نظام الاسد للانضمام الى المليشيات المتماهية مع ايران بسبب الراتب الاعلى والتدريب الذي تقدمه ايران مقارنة مع الامكانيات التي تقدم لمن هم موجودين في صفوف بقايا الجيش السوري. بناء على ذلك فان مليشيات ذات علاقة ايرانية بسوريا تأخذ دور مركزي في السيطرة على مناطق واقامة حكم وادارة محلية. وبذلك هي تهدف الى ملء الفراغ الحكومي الذي خلفته الدولة الفاشلة.
القوات المؤيدة لنظام الاسد اتهمت بأنها وظفت موارد قليلة نسبيا في القتال ضد داعش. بدلا من ذلك، سوية مع التنظيمات المؤيدة لايران، هم يركزون بشكل عام على هزيمة منظمات المتمردين المعارضين لنظام الاسد وبالاساس الذين يحظون بدعم السكان السوريين، لذلك يعتبرون تهديدا للنظام، مثل الجيش السوري الحر. قوات مؤيدة للنظام ايضا تقوم بتطهير عرقي واسع في المناطق التي يوجد لايران والاسد مصالح فيها مثل منطقة الحدود مع لبنان وضواحي دمشق (فقط في شهر نيسان الماضي تم اخلاء وطرد آلاف السكان السنة من ضواحي دمشق والغوطة الشرقية). هذا السلوك يناسب هدف ايران الاوسع وهو تعزيز نظام الاسد وضمان طريق ثابت للوصول الى سوريا ولبنان بواسطة “ممر بري”. التطهير العرقي في سوريا تم بشكل منظم، وعلى الاغلب ظهر على شكل تبادل السكان. الشيعة والعلويون ينقلون من مناطق تعتبر اقل حيوية ويحلون محل السنة الذين يطردون من قبل مؤيدي النظام من المناطق التي تعتبر ذات اهمية استراتيجية. السنة يتم نقلهم على الاغلب الى جيوب متجانسة جغرافيا مثل منطقة ادلب. حسب ما قال لبيب النحاس، المتحدث باسم منظمة المتمردين السنة “احرار الشام”: “فصل كامل على خلفية طائفية يقف في مركز المشروع الايراني في سوريا. الهدف هو مناطق جغرافية يستطيعون فيها السيطرة بصورة كاملة”.
التطهير العرقي وفقا لذلك استراتيجي ويتوافق مع الاهداف الاقليمية للقوات المؤيدة للاسد. قوات التحالف المؤيدة للاسد اعتادت على فرض “وقف اطلاق نار” على متمردين مهزومين أو ضعفاء، الذي بشكل عام يؤدي الى اجتثاث سكان سنة من اماكنهم بالقوة. في حين يتم مصادرة بيوتهم واعطائها للسكان الشيعة والعلويين الجدد الذين يتم احضارهم الى هناك. على طول الحدود بين سوريا ولبنان عمل حزب الله بصورة منهجية من اجل تقليص عدد السكان السنة المحليين بواسطة احضار سكان شيعة من لبنان والعراق. وعن طريق اعادة توطين لاجئين سنة سوريين في سوريا لا يعارضون نظام الاسد هربوا الى لبنان. مواطنون سوريون سنة نقلوا الى مدن في عمق سوريا، حيث ما زال هناك يتواصل القتال الذي يعرض حياتهم للخطر.
لا توجد خطة متبلورة لاعادة اعمار وطنية، وبدل ذلك فان القوات الموالية لنظام الاسد اعتادت على طرح “مصالحة شاملة”، وهي اطار يشمل طرد معارضي النظام الكبار ودمج منظمات المتمردين في المليشيات المؤيدة للنظام. ورغم الاقتراح الذي يدمج العصا والجزرة فان المصالحة الشاملة المقترحة تعتمد على الاكراه، حيث أنه على الاغلب النظام يتنكر لوعوده باعفاء السكان المحليين من التجنيد ولا يوفر الخدمات العامة التي وعدوا بها. وهذا الامر يزيد حدة الاستياء. اعطاء افضلية لاستخدام القوة بدل نظام فعال يزيد حدة الحرب الاهلية المستمرة. بدلا من نظام اعمار سياسي حقيقي، تتولى السيطرة مليشيات محلية. خلال ذلك مقاتلون ومنهم من يعتبرون في صفوف داعش، يغيرون ولاءهم وينضمون الى جماعات جهادية اخرى، دون ترك طريق العنف. في الاراضي المحررة هناك مليشيات مؤيدة للنظام غارقة في الفساد والابتزاز. في حلب لا توجد سلطة حكم مركزية، وبدلا منها تتولى مليشيات معينة السيطرة الحصرية على الخدمات العامة المحدودة، وتتقاسم الارباح مع النظام. في اماكن اخرى تقدم السلطات المحلية التقليدية مثل الحمائل أو العائلات الخدمات التي لا تنجح الدولة في توفيرها، وتعيد بذلك الاعتبار للهويات المحلية. كل ذلك يبرهن على أن نشاطات التحالف المؤيد للاسد تؤثر سلبا على المصالحة وأن الحكم في المناطق التي تقع تحت سيطرتها يتميز بالتمييز العرقي والوحشية.
بمعيار اوسع فان العداوات في الدولة والتي وجدت تعبيرها في الساحات المحلية في سوريا تؤدي الى عدم الاستقرار. عدم القدرة المتواصل لروسيا وتركيا وايران والولايات المتحدة على الاتفاق على مناطق النفوذ، وعدم قدرتها على تحديد النشاطات العسكرية ضد قوات ليست “تنظيم الدولة الاسلامية” عملت لصالح التنظيم. هذا الامر وجد التعبير في الهجوم العسكري التركي المتواصل ضد قوات كردية في مدينة عفرين ومحيطها في شمال سوريا. القتال أدى بتنظيمات كردية الى اعادة قواتها التي حاربت ضد داعش، من اجل الدفاع عن اراضيها امام تركيا. رغم الاتفاق السائد بين كل اللاعبين الدوليين المتدخلين في النزاع، في نهاية المطاف فان مصلحتهم جميعا هي منع اعادة ظهور الدولة الاسلامية أو المنظمات السلفية الجهادية التي تشبهها. بناء على ذلك كان مطلوب القيام برسم حدود واضحة للنفوذ الاقليمي داخل سوريا بحيث يمنع زيادة عدم الاستقرار ومواجهات من شأن تنظيمات جهادية سلفية ان تستغلها. في نفس الوقت فان الضعف المتواصل لنظام الاسد يدل على أن المجتمع المحلي يجب أن يتولى مقاليد الحكم بنفسه، سواء في مناطق المتمردين أو في المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام. التحدي الحالي لكل اللاعبين هو ضمان أن بنية النظام الجديدة يجب أن تكون شاملة وتخدم مجتمعهم. كما سيعرض لاحقا فان هدف كهذا ليس هدف مباشر أو بسيط جدا.
دير الزور والرقة: مقارنة بين حكمين محليين
في حين أن وسائل الاعلام العالمية تبشر بنهاية الدولة الاسلامية فان رجال سنة كثيرين يرون بوجود المليشيات الشيعية وحتى بقوات الاسد تغييرا لمحتل وحشي وغير شرعي باحتلال آخر. السوريون السنة يشعرون بتدني علاقتهم مع النظام المركزي في دمشق، لذلك فقد انخفض احتمال تعاونهم مع النظام. مصدر أمني اسرائيلي حذر من أنه توجد تداعيا لوضع كهذا وقال “إن الانتصار على داعش لن يؤدي الى اختفاء السنة. فقط سيزيد رغبتهم في الانتقام”. هكذا، ذراع القاعدة في سوريا “تحرير الشام”، آخذ في التقوي وصفوفه تمتليء بالهاربين السنة من منظمات متمردة اخرى. التمييز ضد السنة هو لهذا غير مثمر ويغذي الشعور بالاضطهاد ويزعزع شرعية النظام المركزي، كما يوجد لها امكانية كامنة لمفاقمة النزاع الاثني – الديني. إن نشاطات على خلفية طائفية لمجموعات مؤيدة لايران تشجع بدون قصد عودة قوات سلفية جهادية رغم معارضة ايران للدولة الاسلامية.
في المعركة الاخيرة على دير الزور تبنت في البداية القوات المؤيدة للنظام نموذج “حكم اقل طائفية” كما أنها أهلت وعززت قبائل سنية محلية عانت من اليد القاسية للدولة الاسلامية. ولكن يبدو أن القوات المؤيدة للاسد في دير الزور باتت تخشى اكثر فأكثر من تشغيل القوة البشرية المحلية من اجل الحفاظ على الاستقرار. وهناك تقارير ترمز الى تخليد القمع على خلفية طائفية. هكذا، فان احتلال المدينة جرى في اطار مشابه لاعادة احتلال حلب: قادة حزب الله قادوا الهجوم في حين أن الشيعة الافغان والعراقيين قاتلوا في الجبهة. منظمة “انترناشيونال كرايسيس غروب” حذرت من أن استخدام مقاتلين شيعة اجانب في دير الزور “يراكم نقاط لدعم سني بالدولة الاسلامية، ويجدد شرعيتها في نظر السكان السنة”. اضافة الى ذلك، القوات المؤيدة للنظام والتي تسيطر الآن على دير الزور تضطر الى مواجهة تغييرات ديمغرافية كبيرة في المدينة، في حين يتدفق لاجئون اليها من مناطق اخرى في سوريا ويتسببون باقتلاع السكان المحليين، ويغلقون خط عودة سكان تم اقتلاعهم من اماكنهم. وبهذا فان المنطقة التي تقع حول دير الزور تضم الآن حوالي 1.2 مليون لاجيء معظمهم من السوريين السنة. هذا الميل يجسد الحاجة الى مصالحة شاملة تمنع الدولة الاسلامية من القدرة على تجنيد صفوفها واستغلال اشخاص يشعرون بأنهم متضررين. رغم ذلك، القوات المؤيدة للنظام لم تنجح في تجسيد نموذج متعدد للحكم المحلي، وبدل ذلك هم يخلدون ادعاءات الاضطهاد للمحليين واللاجئين معا.
ولكن هناك بديل للوضع الخطير وغير المستقر هذا، الآخذ في التفاقم. المحور المؤيد لايران من مؤيدي الاسد ليس التحالف الوحيد الذي يسيطر من جديد على المناطق التي تمت استعادتها من ايدي الدولة الاسلامية في سوريا. الاكراد السوريون ومتمردون “سنة معتدلون” اتحدوا وشكلوا “قوات سوريا الديمقراطية” بمساعدة ودعم وتعاون مع الولايات المتحدة ودول عظمى غربية اخرى. قوات سوريا الديمقراطية نجحت في ان تحرر من الدولة الاسلامية اجزاء كبيرة من المناطق في شمال شرق سوريا –بالاساس شمال نهر الفرات. في نفس الوقت استغلت هذه القوات احتلال مدينة الرقة في سوريا لخلق نموذج نظام حكم تعددي نسبيا الذي هو نموذج فريد في المنطقة المحررة. رغم أن هذه القوات هي كردية في معظمها، مليشيات عربية وقفت في جبهة القتال في المعركة على المدينة السنية الرقة من اجل اعطاءهم شرعية في نظر المحليين. وقد انشأت المجلس المدني للرقة آر.سي.سي بهدف الاشراف على عمليات الاعمار وتوفير خدمات عامة، عرب سنة محليين يحصلون على تمثيل كبير، سواء في شرطة المجلس أو المجلس نفسه. المجلس المدني للرقة جند مئات رجال الشرطة حتى قبل بدء المعركة على الرقة، حتى تكون متأكدة من أن أي فراغ في الحكم أو عدم الاستقرار سيكونان قليلين.
رغم ذلك فان القبائل الاربعة التي تشغل قوة رئيسية في الرقة بقيت متشككة اذا لم تكن معادية لـ اس.دي.اف بسبب شكوك ومخاوف من أن هذا التنظيم هو فعليا واجهة للاكراد. هذا الخوف هو امر مشترك لعدد من المحللين الغربيين. ايضا النظام السوري يحافظ على مستوى معين من الحماية في الرقة المدينية، وعمال بلدية كثيرون ما زالوا يعملون بأجر حكومي. في نفس الوقت فان نموذج اس.دي.اف لحكم محلي مراقب يقع مؤخرا تحت ضغط في المراكز المدنية مثل منبج رغم أنه اعتبر في البداية نجاح في مدن اخرى تمت استعادتها من داعش، حيث اللاعبين المحليين يشتكون من موارد غير كافية لاعادة الاعمار – وهو وضع يؤدي الى الفساد وعدم الاستقرار. وفي النهاية النخب السابقة التي نفيت والمحليين الذين بقوا سيضطرون الى ايجاد سبيل للحياة المشتركة مع السكان الجدد؛ مثلما في دير الزور، ايضا للرقة يصل تيار كبير من سوريين مقتلعين من باقي مناطق البلاد.
الجهود الامريكية لتهدئة المناطق اعيد احتلالها من ايدي الدولة الاسلامية تجري في ظل تهديد فوري. الرئيس ترامب اعلن مؤخرا عن توقه للانسحاب من سوريا سريعا بقدر الامكان. سياسة كهذه يمكن أن تعرض للخطر الشراكة التي تم التوصل اليها مع اس.دي.اف بغرض اقامة حكم محلي متعدد. روسيا التي تريد وجود شبه شرعي كما يبدو في سوريا ينبع من “استدعاء” رسمي لنظام الاسد (خلافا للولايات المتحدة) –تحاول تقليص تدخل الولايات المتحدة. ايضا تركيا رغم كونها حليفة للولايات المتحدة وعضوة في الناتو اظهرت قلق كبير من دعم واشنطن للاكراد، حتى أنها كانت مشاركة في المعركة مع القوات المتماهية مع اس.دي.اف في عدة مناطق مثل عفرين. مع ذلك وكما تبين من تطبيق نموذج الحكم للرقة، فان الولايات المتحدة تقوم بدور رئيسي في اعادة اعمار المناطق والاراضي التي كانت تحت سيطرة داعش في السابق. القوات الكردية التي تلقت الدعم من الولايات المتحدة اثببت النجاعة امام الجهاديين، وكذلك منعت قوات الاسد بدعم ايران من ملء أي فراغ في الحكم. إن خلق جزء من الاستقرار والقوة المحلية من خلال تقليص الفساد والطائفية من شأنها أن تمنع عودة داعش، وهذه مصلحة وطنية لكل الاطراف المشاركة. بناء عل ذلك فانه رغم موضوع طول الفترة الزمنية التي يستطيع فيها الامريكيون ويضطرون للحفاظ على وحدات مقاتلة ودعم على ارض سوريا، يجب على القيادة المركزية الامريكية التعاون مع قوس واسع من اللاعبين في فضاء سوريا.
الحاجة الى تنسيق تعدد الاطراف في سوريا
في مؤتمر صحفي مشترك عقد في 11 تشرين الثاني 2017 اظهر الرئيس ترامب والرئيس الروسي بوتين الرضا من انخفاض قوة داعش ومن الجهود متعددة الاطراف لخفض المواجهات. مع ذلك فان استقرار المنطقة التي حررت من سيطرة داعش واقامة سلطة محلية أو وطنية فعالة، بقيت تحديات ذات صلة. النضال ضد اللاعبين غير الدولاتيين الخطيرين في سوريا بعيد هو ايضا عن الانتهاء. منظمات سلفية جهادية مثل داعش ما زالت قادرة حتى الآن على ملء الفراغ الحكومي في حالات محلية. في نفس الوقت ستكون لذلك تداعيات خطيرة في اعادة احياء نظام الاسد الذي لم يسلم بالوضع الجديد وتأييد مليشيات مؤيدة لايران على العلاقة بين الشيعة والسنة. إن تخليد العنف على خلفية طائفية وغياب افق لمصالحة وطنية لن يعطي رد لانهاء الحرب الاهلية. وهناك احتمال اذا لم تتخذ خطوات ما لاصلاح هذه التوجهات، فان التطرف السلفي الجهادي سيواصل الهجوم.
رغم الفوارق بينها فقد عبرت الولايات المتحدة وروسيا عن تفضيلها لحكم متعدد وليس حكم طائفي في سوريا يهتم بالاطراف المحلية، ويحافظ على القانون والنظام ويوفر خدمات حيوية. روسيا تعرف أنه لا يمكن تشكيل نظام حكم مركزي قوي ويجب الاهتمام بعلاقات القوى الداخلية واعطاء صلاحيات للحكم المحلي. بناء على ذلك فانهما تستطيعان العمل معا لتخطيط وتنفيذ نموذج الرقة في سوريا، ووضع الاسس لنظام حكم غير مركزي في الدولة، من خلال تحديد مناطق نفوذ متفق عليها. رغم أن اعطاء خدمات مثل التعليم والرفاه والصحة يعتبر بشكل عام امر اعتيادي، فان هذه مصلحة امنية وطنية سواء للولايات المتحدة أو روسيا، ستمنع زيادة تقوي وعودة المنظمات السلفية الى المنطقة. هناك من سيقولون إن روسيا قامت بدور بناء اكثر من ايران وأنها ارادت اجراء تسوية سياسية بين المتمردين والقوات المؤيدة للنظام. كما كان يمكن رؤية ذلك من خلال الدور المركزي الذي لعبته روسيا في محادثات الاستانة وجنيف. رغم ان روسيا تؤيد نظام الاسد والولايات المتحدة تؤيد المتمردين، بالاساس الاكراد وجيش سوريا الحر، إلا انهما تستطيعان تأييد نموذج الرقة كل واحدة امام شركائها وحلفائها.
تحدي آخر بالنسبة للولايات المتحدة هو كيفية ترتيب منح رعايتها لـ اس.دي.اف مع الحلف طويل المدى لها مع تركيا. حتى قبل الهجوم في عفرين عملت تركيا من اجل ملء الفراغ الذي حدث بعد الدولة الاسلامية وفي المناطق ذات السكان السنة بواسطة تطبيق مخطط ناجح لاعداد رجال شرطة في شمال سوريا، مع اكثر من 5600 من الخريجين في 2017 فقط. رغم الفجوات بينهما إلا أن الولايات المتحدة وتركيا يمكنهما ويجب عليها العمل معا لمنع حالات من الفراغ الحكومي غير المستقر في شمال سوريا. على الولايات المتحدة وروسيا وتركيا الاتصال مع شركاء محليين وتشجيع اعادة توطين اللاجئين السنة في المناطق التي حررت من سيطرة داعش، شريطة التعهد بالتعاون مع موظفي الحكم المحلي. استراتيجية كهذه يمكنها العمل على منع قدرة منظمات جهادية من تجنيد اشخاص، وستشجع مصالحة في سوريا بعد الحرب.
على ادارة ترامب ان ترفض المطالب الروسية والسورية بنزع سلاح المتمردين المعتدلين من جيش سوريا الحر. الاردن عبر وبحق عن قلقه من أن هذه العملية ستخلق فراغ حكومي وستشجع اعضاء المليشيات على الانضمام لمجموعات جهادية. شبيها بذلك، على الولايات المتحدة مواصلة خطط الاعداد والتسليح للقوات الكردية رغم الضغط التركي. الهدف للولايات المتحدة من اعداد وتسليح “قوة حرس حدود” في المنطقة الكردية هو تطور هام يمكنه المساعدة في منع تسلل نشطاء داعش من العراق الى سوريا. وهكذا يتم قطع “الجسر البري” لايران الى سوريا عبر العراق.
رغم افضلية نموذج الرقة، الصعوبات التي تظهر في منبج تثبت أنه لا يوجد نموذج واحد مناسب يمكن تطبيقه في كل ارجاء سوريا دون علاقة بالتدخل الخارجي والديمغرافيا والخصائص المحلية. بدل ذلك، القيم التي توجد في اساس نموذج الرقة –التعميم، التعددية والتعزز المحلي – يجب أن تستخدم كمباديء موجهة لخلق جزر من الاستقرار الذاتي، التي هي ضرورية للنضال ضد داعش والجهات السلفية الجهادية الاخرى.
جنوب سوريا في عهد ما بعد الدولة الاسلامية: التداعيات على اسرائيل
على مدى الحرب الاهلية كان الجانب السوري من هضبة الجولان مستقر نسبيا، بعد أن سيطرت قوات المتمردين على معظم المنطقة وأجبرت اللاعبين المخلصين لنظام الاسد على الانسحاب. بصورة مثيرة للقلق من ناحية اسرائيل انتقلت السيطرة في هضبة الجولان السورية الى أيدي منظمات متمردين – سلفيين جهاديين – على غرار جبهة النصرة التي هي فرع محلي للقاعدة وشهداء اليرموك التي اعلنت الولاء للدولة الاسلامية. مع ذلك نجحت اسرائيل في ردع هذه المنظمات عن تنفيذ هجمات في هضبة الجولان الاسرائيلية. اسرائيل ايضا وفرت مساعدة انسانية واقتصادية وطبية لسكان الجولان السوري، التي خفضت دوافع منظمات المتمردين لمهاجمتها وساعدت على انشاء علاقات بين اسرائيل والمجتمعات المحلية. ولكن نظام الاسد وحلفائه استغلوا تفكك “الدولة الاسلامية” بالاساس من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، واحتلوا مؤخرا مناطق كبيرة من سوريا من أيدي قوات المتمردين. لهذا يجب على اسرائيل الاستعداد لجهد عسكري مركز من جانب القوات المؤيدة للاسد للسيطرة على هضبة الجولان – من خلال استخدام مليشيات شيعية مثل حزب الله بتوجيه من ايران. يمكن التقدير أنه اذا هزمت قوات المتمردين في جنوب سوريا فايران ستستغل الفراغ لزيادة نفوذها هناك بواسطة استخدام وكلائها، مع تداعيات سلبية على السكان المحليين الذين كما يبدو تعاملوا مع اسرائيل. السكان المحليون هم في الاصل من السنة، الامر الذي يشير الى أن العلاقات مع القوات الشيعية يتوقع أن تكون متوترة، وستبقى امكانية كامنة هامة للاحباط والمعارضة وعدم الاستقرار. في نفس الوقت ستحاول المنظمات السلفية الجهادية استغلال التوتر الطائفي لتجنيد سكان محليين الى صفوفها.
على خلفية هذه التهديدات يجب على اسرائيل العمل بصورة وقائية وتوسيع المساعدة للتجمعات المحلية في هضبة الجولان السورية من خلال تشجيع انشاء قوات مليشيا محلية معتدلة. يجب على اسرائيل ايضا التعاون مع حليفها الاردن بهدف مساعدة المليشيات المحلية وتطويرها، وهي تستطيع حتى فحص امكانية توفير سلاح للدفاع الذاتي. في نفس الوقت يجب على اسرائيل استغلال علاقتها الجيدة مع الولايات المتحدة وروسيا لضمان الهدوء والاستقرار في جنوب سوريا وفي هضبة الجولان، وفقا للاتفاق بين موسكو وواشنطن لتأسيس منطقة عدم تصعيد ومنع اختراق القوات الايرانية ووكلائها هذا الفضاء. عن طريق التعاون وزيادة قوة طبقة اللاعبين المحليين يجب على اسرائيل محاولة تقييد امكانية انزلاق الافكار المتطرفة للسلفية الجهادية الى مشاعر السكان السوريين في هضبة الجولان.
نموذج الرقة ليس اطار حكومي يمكن تطبيقه بصورة وحيدة، بل هو مجموعة مباديء يجب استخدامها على اساس كل حالة على حدة. على اسرائيل الحذر في تدخلها في هضبة الجولان السورية. هدف السياسة الاسرائيلية يجب أن يكون ايجاد تجمعات محلية مستقلة ترتكز على قوات محلية وتعارض السيطرة الايرانية، وليس كيان جغرافي واحد محكوم على أيدي اسرائيل نفسها. اسرائيل والاردن ولاعبين اقليميين آخرين يتقاسمون اهداف مشتركة يجب أن ترتبط معا بهدف خلق بنى حكومية مفتوحة وعامة ومدعومة بقوة محلية حقيقية بحيث تخلق جزء من الاستقرار في الفضاء الذي هو غير مستقر وغير متوقع.



