أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: حصاد 2025: صراعات ممتدة وجغرافيا سياسية متغيرة

د. عمرو حمزاوي 30-12-2025: حصاد 2025: صراعات ممتدة وجغرافيا سياسية متغيرة

شكّل عام 2025 لحظة كاشفة في مسار السياسة الدولية، ليس لأنه شهد اندلاع أزمات جديدة كبرى، بل لأنه رسّخ اتجاهات كانت تتبلور منذ سنوات، وأخرجها من طور الاحتمال إلى طور الواقع. بدا العالم خلال هذا العام أقل ثقة في قدرته على إدارة الصراعات، وأكثر انكشافًا أمام اختلالات عميقة في توازنات القوة، سواء على مستوى العلاقات بين القوى الكبرى أو في إدارة النزاعات الإقليمية الممتدة. وفي القلب من هذه التحولات، برزت ثلاث ساحات رئيسية عكست بدقة ملامح النظام الدولي الراهن: أوكرانيا، فلسطين، والتنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين على موقع القيادة العالمية.

في الحالة الأوكرانية، دخل الصراع مع روسيا مرحلة يمكن وصفها بالاستنزاف الاستراتيجي المتبادل. لم تعد الحرب، كما بدت في سنواتها الأولى، ساحة لمفاجآت عسكرية كبرى أو لاختراقات حاسمة، بل تحولت إلى اختبار طويل لقدرة الأطراف المعنية على الصمود السياسي والاقتصادي قبل الصمود العسكري. روسيا واصلت رهاناتها على الزمن، وعلى إنهاك أوكرانيا وحلفائها الغربيين، بينما وجدت كييف نفسها أمام معضلة مزدوجة: الحاجة إلى استمرار الدعم العسكري الغربي، في مقابل تراجع الحماسة السياسية في عدد من العواصم الأوروبية والأمريكية لتحمل كلفة حرب مفتوحة الأفق.

الأهم في عام 2025 لم يكن ما جرى على خطوط التماس، بل التحول التدريجي في الخطاب الغربي من لغة الحسم والانتصار إلى لغة التسوية والواقعية السياسية. بدأ الحديث يتزايد، خصوصًا في الولايات المتحدة، عن ضرورة البحث عن مخرج تفاوضي يضع حدًا للحرب، حتى وإن استلزم ذلك تنازلات مؤلمة من الجانب الأوكراني. هذا التحول عكس إدراكًا متناميًا بأن الحرب، بصيغتها الحالية، باتت تستنزف الموارد وتُضعف وحدة المعسكر الغربي، وتفتح في الوقت ذاته مجالاأوسع أمام الصين لتعزيز نفوذها العالمي مستفيدة من انشغال واشنطن وأوروبا.

في المقابل، لم تكن أوكرانيا مستعدة للقبول بتسوية تُشرعن المكاسب الروسية، إدراكًا منها أن أي اتفاق من هذا النوع سيقوّض فكرة الأمن الأوروبي الجماعي، ويبعث برسالة خطيرة مفادها أن تغيير الحدود بالقوة يمكن أن يصبح أمرًا واقعًا. وهكذا ظل المشهد الأوكراني في عام 2025 معلقًا بين حرب لا تُحسم وتسوية لا تنضج، بما يعكس عجز النظام الدولي عن فرض حلول عادلة أو حتى مستقرة.

أما في فلسطين، فقد كان عام 2025 امتدادًا لمأساة مفتوحة، لكن مع تغيّر في طبيعة التعاطي الدولي معها. بعد سنوات من الحرب والتدمير في قطاع غزة، تصاعدت محاولات دولية، تقودها الولايات المتحدة، لبلورة ترتيبات توقف القتال وتفتح الباب أمام إعادة الإعمار. غير أن هذه الجهود اصطدمت، مرة أخرى، بجوهر الأزمة الفلسطينية: غياب أفق سياسي حقيقي قائم على إنهاء الاحتلال وضمان الحقوق الوطنية الفلسطينية.

ما طُرح من مبادرات خلال العام ركّز في جوهره على إدارة الصراع لا حله. وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، ترتيبات أمنية مؤقتة، وإعادة إعمار مشروطة، دون معالجة جذور الصراع المتمثلة في استمرار السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وتآكل حل الدولتين بفعل السياسات الاستيطانية والوقائع المفروضة بالقوة. وفي هذا السياق، برزت الدبلوماسية العربية متعددة الأطراف كعنصر إيجابي في معادلة الحرب والسلام في الشرق الأوسط بينما بدا الانحياز الأمريكي لإسرائيل عاملا مُقيدًا لأي مسار تفاوضي جاد، حتى وإن حاولت واشنطن تقديم نفسها كوسيط لا غنى عنه.

إقليميًا، زادت تعقيدات المشهد الفلسطيني بفعل تشابك الصراع مع حسابات أوسع تتعلق بإيران، وأمن إسرائيل، واستقرار الإقليم، ما جعل القضية الفلسطينية جزءًا من لعبة توازنات أكبر، لا قضية تحرر وطني قائمة بذاتها. وفي الداخل الفلسطيني، ورغم محاولات إعادة ترتيب البيت السياسي، ظل الانقسام وضعف المؤسسات عاملين يحدّان من القدرة على استثمار أي تحرك دولي لصالح مشروع وطني جامع.

لكن الصورة الأشمل لعام 2025 لا تكتمل دون النظر إلى السياق العالمي الأوسع، حيث شكّل التنافس بين الولايات المتحدة والصين الإطار الناظم لمعظم التحولات الدولية. لم يعد هذا التنافس مجرد صراع اقتصادي أو تكنولوجي، بل أصبح تنافسًا على تعريف قواعد النظام الدولي ذاته. الولايات المتحدة سعت، خلال العام، إلى إعادة تأكيد دورها كقوة مهيمنة، مستخدمة أدوات متعددة تشمل التحالفات العسكرية، القيود التجارية، والسيطرة على مفاصل التكنولوجيا المتقدمة. في المقابل، واصلت الصين تقديم نفسها كقوة صاعدة تسعى إلى نظام دولي أقل خضوعًا للهيمنة الغربية، وأكثر انفتاحًا على التعددية القطبية.

اللافت في عام 2025 أن هذا التنافس لم يتخذ طابع المواجهة المباشرة، بل طابع الصراع الطويل على النفوذ والمعايير. واشنطن ركزت على تحصين سلاسل الإمداد، وتقليص الاعتماد على الصين في القطاعات الحيوية، وربط الأمن الاقتصادي بالأمن القومي. بكين، من جهتها، عمّقت حضورها في العالم النامي، وقدمت نفسها شريكًا اقتصاديًا بديلًا، مستفيدة من تراجع ثقة كثير من الدول في عدالة النظام الدولي القائم.

في هذا السياق، لم تكن أوكرانيا وفلسطين مجرد أزمات منفصلة، بل ساحتين تعكسان حدود القوة الأمريكية. ففي أوكرانيا، اختُبرت قدرة الولايات المتحدة على قيادة تحالف واسع في مواجهة قوة كبرى أخرى. وفي فلسطين، اختُبرت قدرتها على التوفيق بين تحالفاتها التقليدية ومزاعمها الدفاع عن القانون الدولي وحقوق الإنسان. وفي الحالتين، بدت واشنطن أقل قدرة مما كانت عليه في السابق على فرض رؤيتها دون كلفة سياسية وأخلاقية متزايدة.

عام 2025، بهذا المعنى، لم يشهد انهيار النظام الدولي، لكنه كشف بوضوح عن تصدعاته. نظام لم يعد أحادي القطبية، ولم يستقر بعد على تعددية واضحة، بل يعيش مرحلة انتقالية مضطربة تتسم بتكاثر الأزمات وتراجع فاعلية المؤسسات الدولية. مجلس الأمن بدا عاجزًا عن لعب دور حاسم، والقانون الدولي خضع، مرة أخرى، لانتقائية القوى الكبرى، بينما تُركت الشعوب الواقعة تحت النزاع تدفع الثمن الأكبر.

في التحليل الأخير، رسخ عام 2025 إدراكًا متزايدًا بأن العالم دخل مرحلة جديدة، لا تُدار فيها السياسة الدولية بمنطق الحلول الشاملة، بل بمنطق إدارة المخاطر وتجنب الانهيارات الكبرى. في هذا العالم، تستمر الحروب دون حسم، وتُطرح التسويات دون عدالة، ويتصاعد التنافس بين القوى الكبرى دون أفق واضح لنظام أكثر استقرارًا. وهو واقع يفرض على الفاعلين الإقليميين، خصوصًا في الشرق الأوسط، إعادة التفكير في أدواتهم وخياراتهم، بعيدًا عن الرهان المطلق على قوى خارجية باتت هي نفسها أسيرة تناقضاتها وحدود قوتها.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى