منوعات

محمد قاروط أبو رحمه: العقلية الاستكشافية دروس من تجربة ملكة سبأ

محمد قاروط أبو رحمه 28-12-2025: العقلية الاستكشافية دروس من تجربة ملكة سبأ

 

(الملخص: عقدنا لقاءا ثريا في مكتبة بلدية اريحا مساء يوم الاثنين الموافق 8/12/2025، ضم الأستاذ ماهر عطية والدكتور إبراهيم غروف. كان أحد محاور النقاش العقلية الاستكشافية واهميتها، وقد عرض الأستاذ ماهر رأيا لزملائه عن كتابنا بعنوان المفاوضات والحكم والقيادة دروس من تجربة ملكة سبا، وهذا المقال هو تعميم للفائدة.)

 

تُعرّف العقلية الاستكشافية بأنها منظور أو توجه ذهني يتسم بـ الفضول، والرغبة في المعرفة، والاستعداد لتحمل المخاطر والخروج من منطقة الراحة. هي عقلية تدفع الفرد إلى الملاحظة، وطرح الأسئلة، والبحث عن المعلومات، والتفكير النقدي والإبداعي لحل المشكلات، والنظر إلى التحديات كفرص للتعلم والنمو.

العلاقة بين العقلية الاستكشافية والقصد والقصدية

العلاقة بين العقلية الاستكشافية والقصد والقصدية هي علاقة جوهرية وتكاملية:

القصدية كدافع: القصدية هي الخاصية التي توجه حالاتنا الذهنية وأفعالنا نحو هدف أو غرض معين. العقلية الاستكشافية ليست مجرد سلوك عشوائي، بل هي مدفوعة بقصد واعٍ وهدف محدد (مثل فهم عالم جديد، حل مشكلة، أو التحقق من معلومة). القصد هو الذي يحدد كيفية إدراكنا للعالم؛ فمن لديه قصد الاستكشاف يرى فرصاً للتعلم حيث يرى الآخرون عقبات.

القصد ك أسلوب: السلوك الاستكشافي هو التعبير العملي عن القصد. عندما يكون لدى الفرد “قصد” للتعلم، فإنه ينخرط في “سلوك استكشافي” (كالبحث والكتابة وطرح الأسئلة) لتحقيق هذا القصد.

التمحور حول الهدف: كلتا العقلية (الاستكشافية) والخاصية (القصدية) تتمحوران حول التوجه نحو شيء ما. القصدية تمنح السلوك الاستكشافي معناه وهدفه وتزيد من الدافعية والانتباه لتحقيق الهدف المنشود.

العقلية الاستكشافية عند ملكة سبأ:

تجلت العقلية الاستكشافية والحكيمة لملكة سبأ في القصة المذكورة في القرآن الكريم في عدة مواقف:

الاستجابة للرسالة بذكاء: عندما وصلتها رسالة النبي سليمان عليه السلام التي تدعوها وقومها إلى عبادة الله وحده، لم تتجاهلها أو ترفضها فوراً، بل تعاملت معها بجدية وحكمة وفكر رشيد.

الاعتماد على الشورى: جمعت مستشاريها وقادتها (الملأ) للتشاور وأخذ الآراء، مما يدل على عقلية قيادية منفتحة قادرة على تقييم الموقف من جميع جوانبه.

الحذر والتأني: أظهرت فطنة سياسية وعسكرية عندما قالت: “إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا”. هذا يدل على تحليلها العميق للمخاطر المحتملة ورغبتها في تجنب الحرب والدمار.

التحقق الاستكشافي: اتخذت قراراً استكشافياً حكيماً بإرسال هدية إلى سليمان وجنوده. كان القصد من هذه الهدية هو التحقق من نيات سيدنا سليمان عليه السلام وقوته وطبيعة دعوته، وليس مجرد رشوة لصرفه عن الدعوة.

المبادرة بالرحيل والحوار: عندما رفض سليمان الهدية وأكد موقفه، قررت الذهاب إليه بنفسها. كان هذا القرار نابعاً من عقلية استكشافية قوية ورغبة في المعرفة المباشرة والتحقق من الحقائق بنفسها بدلاً من الاكتفاء بالتقارير.

الانفتاح المعرفي وقبول الحقيقة: عند رؤيتها لعرشها وقد أحضر إليها بطريقة إعجازية، ورؤيتها للصرح الممرد من قوارير (الذي حسبته لجة ماء)، أدركت عظمة وقدرة الله والمعجزات التي أيد بها سليمان، فأسلمت وآمنت. هذا يمثل ذروة العقلية الاستكشافية التي قادتها إلى الحقيقة وتغيير معتقداتها السابقة.

ملكة سبا قادتها عقليتها الاستكشافية، المدفوعة بـ قصدية البحث عن الحقيقة وتأمين مملكتها، إلى رحلة معرفية انتهت بالتحول والإيمان.

فيما يلي مواضع العقلية الاستكشافية عند ملكة سبأ كما وردت في كتيب المفاوضات والحكم والقيادة دروس من تجربة ملكة سبأ مع النصوص ورقم الصفحات:

  • الاستكشاف بالمشورة وجمع المعلومات (صـ25–26)

قال تعالى: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي)

النص

(القيادة الجماعية تجعل اتخاذ القرارات أكثر صحة لأن عدة عقول تشارك في إبداء الرأي والحوار للوصول إلى أفضل القرارات.)

التحليل:

هذا أول دليل على عقلية الاستكشاف المنهجي؛ فهي لا تكتفي بمعلومة واحدة، بل تستكشف الموقف من زوايا مختلفة عبر الحوار والتفكير الجماعي؛ سلوك يدل على فضول عقلي منضبط بالمسؤولية.

  • الاستكشاف من خلال تحليل الرسالة وفهمها (صـ27–28)

(وصفت رسالة سليمان بأنها كتاب كريم، وكانت صادقة ودقيقة في عرضها.)

(قالت: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم…)

التحليل:

تقرأ الرسالة بعناية وتصفها وصفًا موضوعيًا؛ فهي لا تحكم فورًا، بل تستكشف النيات والمضمون، وتبدأ بتحليل النص بعقل هادئ.

هذا سلوك القائد الذي يستكشف المعنى قبل الرد، أي استكشاف دبلوماسي ومعرفي.

  • الاستكشاف بتجريب الوسائل الدبلوماسية (صـ37–38)

(قررت إرسال هدية إلى سليمان لتختبر نواياه.)

(الحكمة في تجنب الحرب وأنت قادر على خوضها وليس في خوضها.)

التحليل:

الهدية هنا ليست فقط مبادرة سلمية، بل أداة استكشافية؛ أرادت أن تعرف: هل سليمان نبي أم ملك دنيوي يسعى للمال؟

وهذا تجسيد لعقلية الاختبار قبل المواجهة، أي البحث العملي قبل الحكم.

  • الاستكشاف العقلي أثناء اختبار سليمان لها (صـ45–47)

(قال سليمان: نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون.)

(تجاوبت الملكة وأظهرت كفاءة في التصرف.)

التحليل:

حين دخلت الملكة في اختبار معرفي أمام سليمان، تعاملت معه بذكاء وتحليل:

أهكذا عرشك؟ لم تجب بنعم أو لا، بل قالت: “كأنه هو”.

هذه إجابة تدل على التفكير الاستكشافي المفتوح؛ لا تنغلق على نتيجة واحدة حتى تتأكد، ما يعكس مرونة فكرية واستعدادًا للتعلّم من الموقف.

  • الاستكشاف الميداني عند زيارة سليمان (صـ47–48)

قِيلَ لَهَا ٱدْخُلِي الصَّرْحَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً، وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا.»

النص

(أظهرت ثقتها بنفسها وقدرتها على مواجهة الموقف الجديد.)

التحليل:

الملكة تستكشف المكان بنفسها؛ تدخل القصر، تختبره، وتتفاعل مع الموقف عمليًا بدل الهروب أو الخوف.

هذا يبرز الاستكشاف التجريبي، التجربة المباشرة لفهم الواقع بدل الاكتفاء بالتصور.

  • الاستكشاف العلمي والأخلاقي (صـ49–50)

(قال سليمان: إنه صرح ممرد من قوارير…)

النص

(يريد أن يظهر لها قوته العلمية والنبوة، لا الإبهار المعماري فقط.)

التحليل:

الملكة تواجه دليلًا علميًا جديدًا وتعيد تقييم قناعاتها بناء عليه، أي أنها تستكشف الحقيقة بالمنطق والتجربة لا بالعادات والتقاليد.

وهذا الاستكشاف قادها في النهاية إلى الإيمان، لا بالتقليد، بل بالقناعة المكتشفة.

  • لاستكشاف الذاتي (صـ50–51)

(قالت: ربي إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.)

التحليل:

هنا تصل إلى أعمق درجات الاستكشاف: الاستكشاف الداخلي للنفس.

تتأمل ذاتها، وتدرك خطأها، وتعيد تعريف هويتها وقناعتها.

هذا هو قمة “عقلية الاستكشاف”؛ اكتشاف الحقيقة عبر رحلة الوعي الذاتي.

  • الاستكشاف المعرفي للأجيال (صـ54–55)

(الله وثق سيرتها بلسانها ولسان سليمان والهدهد… لتكون لنا عبرة جيلًا بعد جيل.)

التحليل:

الاستكشاف هنا يمتد عبر التاريخ؛ تجربة الملكة نفسها أصبحت منهجًا لاستكشاف الحكمة لكل جيل لاحق، أي أنها جعلت من تجربتها مصدرًا دائمًا للتعلم والاكتشاف.

الخلاصة العامة:

ملكة سبأ جسّدت عقلية الباحث القائد، فكانت:

  • تراقب قبل أن تحكم،
  • وتفكر قبل أن ترد،
  • وتختبر قبل أن تصدّق،
  • وتكتشف قبل أن تُسلم.

وقد لخّصة في الكتيب هذه الروح في قوله:

«لقد اجتهدت لاستخلص الدروس من سيرة ملكة عربية وثق الله سيرتها… لنتعلم منها جيلًا بعد جيل.» (صـ55)

كتيب المفاوضات والحكم والقيادة، دروس من تجربة ملكة سبا، اصدار دار البيرق العربي للنشر والتوزيع رام الله فلسطين 2024. تأليف محمد قاروط أبو رحمه

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى