ترجمات عبرية

هآرتس: في مصر التجارة في جهة والسياسة في جهة أخرى

هآرتس 19/12/2025، تسفي برئيلفي مصر التجارة في جهة والسياسة في جهة أخرى

صفقة الغاز الضخمة التي رافق المصادقة عليها احتفال مغطى اعلاميا على نطاق واسع، التي فيها صافح بنيامين نتنياهو وزير الطاقة ايلي كوهين – كما لو انهما من يملكان شركة الغاز الإسرائيلية والأمريكية – حظيت بتغطية إعلامية على نطاق واسع في إسرائيل. هذه الصفقة تناولتها وسائل الاعلام المصرية كخبر عادي. وقد كتبت صحيفة “الاهرام”: “هذه الصفقة هي استكمال لاتفاقية الغاز الموقعة في آب”. بدون ان تكلف نفسها عناء توضيح سبب الحاجة الى مراسم أخرى بعد تأخير رئيس الوزراء الموافقة على الصفقة. في المقابل، احتدم النقاش في الشبكات الاجتماعية بين من اعتبروا الصفقة خطوة أخرى تربط مصر بإسرائيل التي تشن حرب إبادة في غزة وبين من قدموا ارقام مفصلة عن عشرات المليارات التي ستوفرها مصر من هذه الصفقة. وأشاروا أيضا الى انه “لم يوجد ولن يوجد أي مصدر آخر لتوقيع مثل هذه الصفقة معه.

رئيس تحرير “الاهرام” اشرف العشري، اكتفى بتعليق واحد مستعجل. حيث اكد على أن “صفقة الغاز مع إسرائيل هي مسالة تجارية بحتة ولن تؤثر على القرارات السياسية في مصر وعلى موقفها من قضية غزة”. ولكن صفقات الغاز بين مصر وإسرائيل كانت دائما قضية سياسية معقدة، وليس فقط “صفقات تجارية”، ومثلها أيضا هذه الصفقة التي حسب بعض التقارير تم  اخذها من نتنياهو بضغط كبير من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ربما هي أيضا من شانها ان تثمر لقاء قمة في البيت الأبيض بين نتنياهو والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي لم يقم بزيارة واشنطن منذ العام 2019.

في الظروف العادية كان يمكن توقع توقيع اتفاقية بمبلغ 35 مليار دولار في القاهرة أو في القدس بحضور الرئيس المصري ورئيس حكومة إسرائيل، أو على الأقل بمشاركة وزيري الطاقة في الدولتين، بدون الحاجة الى وساطة مباشرة من قبل الرئيس الأمريكي. ولكن الظروف غير عادية، والاتفاقية هي وليدة مفارقات تتضارب فيها المصالح وتتداخل فيها التهديدات المتبادلة. فقد واجهت مصر في حرب غزة ما وصفته بانه التهديد الأكبر لامنها القومي. ورغم تأجيل فكرة ترحيل 2 مليون غزي تقريبا الى مصر والى دول أخرى، وإقامة ريفييرا تحت سيطرة أمريكية في القطاع، الا أن الخوف لم يتبدد أبدا، لا سيما في ضوء استعداد إسرائيل لفتح معبر رفح، لكن فقط من اجل خروج الغزيين.

مهم أيضا التذكير بانه في الوقت الذي كان فيه الرئيس الأمريكي ترامب يفكر بمشروع غزة العقاري، اتهم السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة يحيئيل لايتر، مصر بخرق اتفاق كامب ديفيد، بزعم انها كانت تعد نفسها عسكريا في شبه جزيرة سيناء وبناء قواعد “لا يمكن استخدامها الا لنشاطات هجومية، ووضع سلاح هجومي”. ربما نسي لايتر ما حدث قبل بضع سنوات عندما كانت مصر تخوض حرب دامية ضد التنظيمات الإرهابية الإسلامية (خاصة فرع داعش في شبه جزيرة سيناء”. إسرائيل هي التي سمحت للقاهرة في حينه بخرق بنود الاتفاق، وزيادة انتشارها العسكري حتى في المناطق التي كان من المفروض ان تكون منزوعة السلاح، بل وحتى استخدام سلاح الجو. أيضا إسرائيل لم تظهر أي اعتراض على خرق الاتفاق عندما قام الجيش المصري بتسوية شريط يمتد على طول 3 كم بين قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، وقام بتدمير انفاق حماس ونسق اغلاق وفتح معبر رفح بناء على طلب من القدس.

أيضا العلاقات الدبلوماسية الرسمية مجمدة في الوقت الحالي، وتأجل تسليم أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي في القاهرة، اوري روتمان، “الى حين انتهاء الحرب”، ولم يتم تعيين سفير لمصر في إسرائيل حتى الآن. مع ذلك في نفس الوقت تنشط شبكة اتصالات وثيقة بين رؤساء المخابرات المصرية والإسرائيلية، وبين القيادات العسكرية العليا في مصر وإسرائيل، ليس فقط فيما يتعلق بقضية الوساطة في صفقة الرهائن أو تنفيذ المرحلة الثانية في خطة ترامب.

مصر تؤكد في كل مناسبة على تعهدها باتفاق كامب ديفيد واختيارها الاستراتيجي للسلام، وترى نفسها وبحق رائدة، التي بفضلها تم عقد اتفاق السلام مع الأردن وبعد ذلك اتفاقات إبراهيم. ولكن هذه المواقف لا تعني تبني مطلق وكامل لسياسة إسرائيل ومنع أي انتقاد للنظام المصري ضدها. من هنا فان الافتراض بان صفقة الغاز تنشيء تبعية مصرية كاملة لإسرائيل وتقمع أي معارضة أو انتقاد مصري لها وتفرض عليها قواعد سلوك مطيعة، هو افتراض خاطيء. في هذا السياق تجدر الإشارة الى ان المعاملات التجارية قد تتمتع أحيانا بـ “الاستقلالية” التي لا تخضع بالضرورة للسياسة الخارجية لتلك الدولة. مثلا، يستمر تدفق النفط من أذربيجان الى إسرائيل في الانبوب الذي يربط باكو بتبليسي، ومن هناك الى ميناء جيهان في تركيا، رغم ضغوط انقرة. والسبب: وفقا للاتفاقية الموقعة بين شركات النفط وائتلاف أنبوب النفط والدول “المضيفة” فان شحن النفط ومساره في خط الانابيب لا يخضع للقوانين أو اللوائح أو الأوضاع السياسية أو غيرها من الاتفاقات. يمكن الافتراض ان اتفاقية توريد الغاز مع مصر التي لم تنشر تفاصيلها بالكامل، تتضمن أيضا شروط “تحيد” تاثير “الظروف السياسية” على تنفيذها. يبدو ان هذا هو الأساس الذي استندت اليه مصر في بيانها الذي بحسبه الاتفاق لن يغير سياستها بشان القضايا الإقليمية ولن يؤثر عليها.

مصر وقعت على اتفاقية الغاز الحالية والسابقة بدافع الضرورة الاقتصادية التي تهدد استقرارها. يحتوي حقل الغاز الضخم “زوهر” على كمية غاز اقل مما تم تقديره في البداية. وقد أدى استغلاله السريع، رغم تحذير شركات الاستخراج المشاركة فيه، الى تسرب مياه البحر وتخفيف تركيز الغاز. وقد دفعت زيادة الاستهلاك نتيجة النمو السكاني والتوسع الهائل للصناعة (التي تستهلك الغاز أيضا)، دفعت الدولة الى شفا ازمة طاقة. وقد بدات الازمة في 2022 واشتدت حدتها في صيف 2023، حتى قبل اندلاع الحرب.

في ذلك الصيف اضطرت الحكومة الى اتباع سياسة “تقشف في الطاقة”: فقد امرت بتقليص ساعات انارة الشوارع، وفعليا أدى الى ظلام لمدة ساعتين في اليوم في أماكن كثيرة في الدولة، واغلاق المحلات التجارية والمجمعات التجارية في ساعات مبكرة، وتقييد تشغيل أجهزة التكييف في المكاتب وفي الشركات الحكومية، وحتى تخفيض حصة الغاز المباعة للمصانع. وانهارت وعود رئيس الوزراء مصطفى المدبولي، ان هذه الإجراءات مؤقتة وان مصر ستتمتع “قريبا جدا” بوفرة من الغاز، عند اندلاع الحرب في غزة وما تبعها من انقطاع مؤقت في امدادات الغاز من حقل تمار. وبعد ذلك تسببت الحرب مع ايران في انقطاع آخر للامدادات.

انقطاع الكهرباء الذي فرض في صيف 2023 واستمر في الصيفين التاليين، تسبب باضرار اقتصادية جسيمة واجبر مصر على استيراد الغاز السائل لأول مرة. يضاف الى ذلك خسارة عائدات قناة السويس التي تضررت بسبب هجمات الحوثيين على حركة الملاحة في البحر الأحمر، التي لم تتعافى منها القناة حتى الآن. ونتيجة لذلك اضطرت مصر الى اقتراض مليارات الدولارات من صندوق النقد الدولي، الامر الذي زاد دينها الوطني، حيث يذهب تقريبا 87 في المئة من اجمالي إيراداتها من الضرائب لتسديد الدين. وقدمت دولة الامارات العربية (التي تعهدت باستثمار 35 مليار دولار في مشاريع سياحية) الدعم لمصر، وهكذا فعلت السعودية وقطر، اللتان تستثمران في البنى التحتية والعقارات. هذه الاستثمارات تساهم في تحقيق ارقام نمو متفائلة، وساهمت أيضا في خفض نسبة البطالة الى نحو 6.5 في المئة. مع ذلك، عند دخول 1.5 – 2 مليون طالب عمل الى سوق العمل سنويا فان معدل التنمية سيواجه صعوبة في مواكبة الطلب.

مصر في الواقع نفذت بعض الإصلاحات الاقتصادية المهمة مثل تعويم  الجنيه المصري وإلغاء بعض الدعم، بما في ذلك دعم الوقود، وهي خطوة اشعلت في حينه شرارة اعمال الشغب واجبرت الاحتجاجات الحكومات السابقة على التراجع. ولكن القاهرة ما زالت تفتقر الى استراتيجية اقتصادية واضحة، والأكثر أهمية من ذلك هو انها تواجه صعوبة في تنفيذ توصيات وطلبات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية.

في خطاباته للمواطنين يعد الرئيس السيسي بأن “الساعات العصيبة” ستمر، ويطالب المواطنين “التحلي بالصبر”. حيث يقترح عليهم وعلى من ينتقدونه مقارنة ظروف المعيشة للمواطنين المصريين مع ظروف سكان غزة، من اجل “فهم معنى المعاناة الحقيقية”، ولكن الخطابات الرنانة لا يمكن ان تحل محل سيطرة الاحتكارات الاقتصادية – خاصة سيطرة الجيش، الذي يسيطر على اكثر من نصف الاقتصاد في مصر – وسيطرة التكتلات وأصحاب المليارات الذين يستحوذين على الجانب الأكبر من الأرباح الخاصة.

في شهر أيلول نشرت الحكومة وثيقة طموحة تتكون من 500 صفحة، بعنوان “رواية وطنية جديدة للتنمية الاقتصادية”. ودعت فيها وزارة التخطيط والتنمية السكان الى ابداء آرائهم حول الوثيقة واقتراح تحسينات. ويظهر استعراض ملخص الوثيقة ان العبارات المبتذلة التي يتم ترديدها منذ سنوات ما زالت على حالها، لكن بصيغة جديدة. ويبدو انه بدلا من ان تنوي مصر التوجه نحو مسار تنمية جديد، نحو خصخصة حقيقية وخلق قطاعات دخل جديدة، هي ستعتمد على المقولة المالوفة وهي أن “مصر اكبر من ان تنهار”. بكلمات أخرى، سيكون هناك دائما من ينقذ اقتصادها.

مصر، التي كانت مصدرة للغاز وتطمح في ان تكون مركز إقليمي لتسويقه، أصبحت الان مستوردة تحتاج الغاز لانارة الشوارع وتشغيل آلات المصانع والورشات. وستستغرق المفاعلات النووية التي تقوم ببنائها بتمويل من روسيا سنوات قبل البدء في تزويد الكهرباء. ومن السابق لاوانه الحديث عن خطط مستقبلية للتحول الى الطاقة المتجددة. وفي نفس الوقت مهم التذكير بانه رغم الأهمية الاقتصادية للغاز الإسرائيلي بالنسبة لمصر، وكونه عنصر مهم في استقرار العلاقات بين الدولتين، الا ان مصر هي جزء لا يتجزأ من الكتلة العربية والإسلامية التي باتت الان العامل الأكثر تاثيرا في سياسة ترامب في الشرق الأوسط. هذه هي الكتلة التي يجب على إسرائيل التعامل معها، حيث يكون تاثير الغاز فيها هو تاثير هامشي.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى