د. منى أبو حمدية: غزّة خارج القوس في مهبّ الصفقات واختزال القضيّة
د. منى أبو حمدية 18-12-2025: غزّة خارج القوس في مهبّ الصفقات واختزال القضيّة
غزّة ليست ساحةً معزولة، ولا جرحاً طارئاً في جسد الجغرافيا الفلسطينية. ما يُطرح اليوم حولها من ترتيبات واشتراطات ومسارات إقليمية يتجاوز بعدها الإنساني، ليطال جوهر القضيّة ذاتها. فثمّة محاولات حثيثة لإعادة تعريف الصراع، لا بوصفه صراعاً على أرض وحقوق، بل كملفٍ قابل للتجزئة، تُدار أطرافه أمنياً، وتُسكن آلامه مؤقتاً، بينما يُؤجَّل السؤال الأساسي: سؤال الاحتلال والحرية.
“تفكيك القضيّة… سياسة الأجزاء”
تتقدّم المقاربات الإقليمية بخطابٍ يبدو براغماتياً، لكنه في جوهره يُعيد هندسة القضيّة الفلسطينية عبر تفكيكها إلى ملفات منفصلة:
إعمار هنا، تهدئة هناك، وسلاح يُناقَش بمعزل عن سببه.
في هذا المسار، تُفصل غزّة عن سياقها الوطني، وتُعالَج كحالة إنسانية طارئة لا كجزء أصيل من أرض محتلة. إنّ خطورة هذا الطرح لا تكمن فقط في نتائجه، بل في منطقه؛ إذ يُفضي إلى تجاوز الصراع بوصفه قضية تحرر وطني، واستبداله بإدارة أزمة طويلة الأمد.
“الوحدة المهدَّدة… حين يصبح الإعمار شرطاً”
حين يُربط الإعمار في غزة بشروط سياسية وأمنية، لا يعود فعلاً إنسانياً خالصاً، بل يتحوّل إلى أداة ضغط. هذا الربط لا يخفّف معاناة الناس بقدر ما يُرسّخ الانقسام، ويُعيد إنتاج الفصل بين الضفّة وغزّة، جغرافياً وسياسياً. فالحلول الجزئية، مهما بدت مغرية في لحظة الألم، تحمل في طيّاتها تهديداً لوحدة القرار والتمثيل، وتفتح الباب أمام مسارات تتجاوز الإطار الوطني الجامع، وتُضعف البنية السياسية التي تشكّلت عبر عقود من النضال.
“الإقليم كبديل عن العدالة”
في حركة المبعوثين والصفقات المقترحة، يلوح اتجاه لدمج غزّة في منظومة تفاهمات إقليمية أوسع، تتقاطع فيها مصالح دولية وإقليمية، دون ضمانات سياسية حقيقية تُفضي إلى إنهاء الاحتلال.
هنا، تُطرح غزّة كبوابة لصفقة كبرى، لا كقلب القضيّة. ويُعاد تعريف فلسطين من قضية شعب يسعى إلى الحرية، إلى بند تفاوضي في خرائط النفوذ والاستقرار. هذا التحوّل لا يخدم السلام، بل يُفرغه من معناه، ويحوّل الحقوق إلى تفاصيل قابلة للتأجيل.
“بين الرفض والقدرة”
يقف الموقف الفلسطيني في هذا المشهد على أرضية واضحة: لا حلول خارج الإطار الوطني، ولا تسويات تتجاوز الحقوق الثابتة. غير أنّ وضوح الموقف النظري يصطدم بتحديات واقعية، من ضغوط دولية متزايدة، إلى انقسام داخلي ما زال يلقي بظلاله الثقيلة. بين رفض مشاريع التصفية، والسعي إلى تخفيف الكلفة الإنسانية عن غزّة، تتشكّل معادلة دقيقة، لا تحتمل الانزلاق نحو شرعنة الحلول المؤقتة.
وحدها استراتيجية وطنية جامعة، تعيد وصل الجغرافيا بالقرار، وتُعيد الاعتبار للقضيّة كقضية تحرر لا إدارة أزمات، قادرة على إغلاق الطريق أمام تحويل غزّة إلى أداة في مشاريع لا ترى في فلسطين سوى هامشٍ قابل للتفاوض.
فالقضيّة، في جوهرها، أكبر من صفقة، وأبقى من كل الترتيبات المؤقتة.



