أقلام وأراء

د. عبد المنعم سعيد: إستراتيجية الأمن القومي الأميركية

د. عبد المنعم سعيد 17-12-2025: إستراتيجية الأمن القومي الأميركية

أصبح معتاداً أن تكون إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية موضوعاً هاماً للفحص من قبل المراقبين والخبراء في العلاقات الدولية، وبالطبع في البحث عن توجهات السياسة في واشنطن إزاء العالم. تواجد الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض يضيف للشغف بالتقرير الذي جاء في عهد وإن مر عليه تسعة شهور فقط، فإنه دائماً يضيف أربع سنوات سابقة (2017- 2021) من التجربة الرئاسية. ولكن الواقع هو أن صدور التقرير جاء من قيادة أميركية تختلف في مكوناتها عما كانت عليه من قبل حينما كانت اختيارات الرئيس في مجلس الأمن القومى الأميركي من المحترفين الذين يتماشون مع التقاليد والتصورات التي توالت عبر رؤساء أميركيين تقلبوا بين الجمهوريين والديمقراطيين. هذه المرة فإن التقرير جاء بعد سيطرة كاملة للرئيس ترامب على الحزب الجمهوري، وعلى فريق الحكم الذي يعمل معه؛ ولم يفلت من هذه الحالة الفكر الاستراتيجي الذي جعل التقرير «ترامبياً» من أوله لآخره ويقوم على عمودين: أولهما فساد السياسة الخارجية الأميركية وسياسات الأمن القومى طوال الإدارات الأميركية السابقة؛ وثانيهما ولعله الأهم هو أن السياسات جرت بتأثير من الرئيس ترامب الذي كان تدخله المرحب به «ضرورياً». والفساد جاء من «الفكرة الليبرالية» في جذورها وأصولها وما فعلته من خسائر للولايات المتحدة تحت ادعاءات شتى جعلت دول العالم تتلاعب بالسياسة الأميركية والتدخل فيها.

الدرس «الترامبي» الأول هو أن العالم يتلاعب كثيراً بالأيديولوجيات، بينما يجب على أميركا أن تتبع السياسات التي تنتج عوائد للولايات المتحدة وتكون فاعلة في نفس الوقت. «أميركا أولاً» هو الشعار الحاكم للسياسة الأميركية، عليه فإن أولويات الاهتمام الأميركي هي التي تضع أميركا اللاتينية (أميركا الوسطى والجنوبية) في مقدمة الاهتمام والتركيز الأميركي. هنا يعود ترامب إلى «مبدأ مونرو» الذي أعلنه الرئيس الخامس «جيمس مونرو» في رسالة للكونغرس في 2 كانون الأول 1823 بضمان استقلال كل دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي. الآن فإن الرئيس 47 يعود إلى فرض هذا المبدأ ولكنه لا يمنع فقط دولاً أخرى من اختراق هيمنة وسيطرة أو استخدام النطاق الغربي لتهديد الولايات المتحدة. الأمر على هذا النحو يعطي إشارة للصين ذات النفوذ التجاري ومضافاً لها مصادر التهديد المباشر للدولة الأميركية من خلال الهجرة والمخدرات والجريمة المنظمة. ومن أجل ذلك، وطبقاً للتقرير – فإنه على الولايات المتحدة عليها أن تقيم من السياسات الاقتصادية والعسكرية ما يردع ويمنع هذه التهديدات.

الأولويات الأميركية بعد ذلك تمتد إلى آسيا حيث توجد الصين ذات العلاقات المعقدة مع الولايات المتحدة والتي بسبب السياسات الليبرالية التي أعطت لبكين القدرة على تحقيق فائض تجاري يكفيها وهو ما يجب تصحيحه من خلال النهضة الاقتصادية في الداخل، والتحالف مع الهند واليابان وأستراليا. القاعدة التي يتبناها ترامب في هذا المجال هو أنه على الولايات المتحدة أن تربح المستقبل الافتصادي وتمنع المواجهة العسكرية مع الصين. أوروبا تأتي في المكانة الثانية، وهنا يعود التقرير إلى ما يسميه الضعف الأوروبي بعد قيادة تاريخية للثروات الصناعية والقوة العسكرية والقدرة الاقتصادية التي جعلت القارة تقدم قرابة 25٪ من الناتج العالمي. الآن فإن أوروبا التي وقعت في أسر الليبرالية والمنظمات متعددة الأطراف التي تغول على الدولة القومية مثل الاتحاد الأوروبي فإن نصيبها تراجع إلى 14٪. من هذه المعادلة فإن التقرير يبدو غامضاً إزاء الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يقرر أنه على أوروبا أن تكون أكثر واقعية للتعامل مع هذه الحرب.

في المكانة الرابعة يأتي الشرق الأوسط الذي كما يقول التقرير كانت أهميته تنبع من النفط والغاز والمضايق الحاكمة في حركة التجارة العالمية. والآن تغير الموقف عندما عادت الولايات المتحدة إلى مكانتها في قيادة أسواق الطاقة النفطية والنووية؛ كما أنه من الواجب الأميركي أن تعتمد على حلفاء إقليميين لحل معضلات الإقليم وفي المقدمة منهم توجد دول الخليج العربية. وبعد ما يراه التقرير أن الولايات المتحدة نجحت في تقليم أظافر الراديكالية في المنطقة بدءاً من إيران وحتى ميليشيات المنطقة، فإن الولايات المتحدة مع شركائها يمكنهم التوصل إلى تحقيق التعايش والاستقرار. المعايير ذاتها يستخدمها ترامب والقائمة على الشراكة مع شركاء إقليميين، يطبقها ترامب على أفريقيا التي أفرط الديمقراطيون في التداخل معها، بينما على واشنطن الانتقاء للشركاء والحصول على مكاسب اقتصادية وموارد طبيعية نادرة والنفط ومصادر الطاقة الأخرى.

ما يقف وراء ذلك منذ بداية التقرير حتى نهايته أساسيات القوة الأميركية المعروفة التي تجعلها في موقع «جيوسياسي» فريد بين محيطين؛ والتي تبدأ بقوة اقتصادية هائلة حجمها 30 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي؛ وهو الاقتصاد الذي لا يزال في مقدمة الابتكار والإبداع والتمتع بقوة عسكرية تقع في المقدمة العالمية مع قوة ناعمة غزيرة الإنتاج والتي تصل إلى العالم عبر شبكات وشركات أميركية واسعة النفوذ. العملة الأميركية – الدولار – لا تزال عملة التعامل العالمية، وهو الوضع الذي لن تقوم الولايات المتحدة بالتنازل عنه.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى