إميل أمين: حلف “الناتو” ومستقبل يشوبه الغموض
إميل أمين 15-12-2025: حلف “الناتو” ومستقبل يشوبه الغموض
هل بات موعدُ تفكّك التحالف الغربيّ بين جانبَيْ الأطلسيّ وشيكًا؟
يبدو التساؤل غريبًا وربّما خطيرًا، لا سِيّما في ضوء التغَيّرات الأمميّة الجارية على قدمٍ وساق حول العالم، وبنوع خاصٍّ في ظلِّ تصاعد ظاهرة التعدّديّة القطبيّة، بمذاقها الآسيويّ، ما يقتضي المزيد من التلاحم الأوروبيّ الأميركيّ، وليس الانفصال بين جانبَيْ الأطلسيّ.
هي السياسة في كلِّ الأحوال، حيث لا صداقةَ دائمةٌ، ولا عداوة قائمة إلى الأبد، وإنما مصالح مستقرّة ومستمرّة، وهذه تتغير وفقًا للحاجة تارةً، وللأهواء تارةً أخرى، لا سيما إذا كانت الأخيرة ممسوحة بمسحة دوغمائيّة.
في خطابه أمام الكونغرس عام 1947، وبعد النصر الكبير للحلفاء في الحرب العالمِيّة الثانية، قال الرئيس الأميركي هاري ترومان “يجب أن تكون سياسات الولايات المتحدة دعم الشعوب الحُرّة التي تقاوم محاولات إخضاعها من قبل الأقلّيّات المُسلَّحة أو الضغوط الخارجيّة”.
أعتبر مبدأ ترومان، كما عُرف هذا النهج، أن الدفاع عن الديمقراطيّة في الخارج أمر ذو أهمّيّة حيويّة للولايات المتّحدة، غير أنّ اليوم ليس هو الأمس، وما كان ترومان يؤمن ويعتقد فيه، بل يقاتل من أجله، لا يبدو أنّ الرئيس ترامب وأتباعه يحفلون به، بل إنّ الأمور تمضي في منظور مخالف، ما يفتح الباب أمام مستقبل حلف الأطلسيّ، ذاك الذي صمد قرابة ثمانية عقود أمام الأنواء والأهواء، وبعدما نجح في دَحْر الشيوعيّة.
الذين قُدِّر لهم قراءة استراتيجِيّة الأمن القوميّ الأميركيّة التي صدرتْ الأيّام القليلة الفائتة، ربما هالهم أو راعهم رؤية سيّد البيت الأبيض لمستقبل الناتو، ومسارات العلاقات الأميركيّة الأوروبّيّة.
“على المدى الطويل، من المعقول جدًّا أنّه خلال بضعة عقود على الأكثر، سيصبح بعض أعضاء الناتو أغلبيّة غير أوروبّيّة. وبالتالي، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانوا سيرون مكانتهم في العالم، أو تحالفهم مع الولايات المتّحدة، بنفس الطريقة التي ينظر بها أولئك الذين وَقَّعوا على ميثاق الناتو”.
هذا هو المنطوق الرئيس لرؤية ترامب للناتو، وفي متن وثيقة الاستراتيجيّة أحاديث مثيرة جدًّا، تتكلم بلغة اليمين القوميّ المتشدِّد إلى حَدِّ التطَرُّف، بل إنّها تستخدم بعضًا من مصطلحاته، من نوعيّة “الاستبدال الكبير”، أو الأفول الحضاريّ، وجميعها تفيد بأنّ دول القارّة الأوروبّيّة تواجه شتاءً ديموغرافيًّا، متعمَّدًا، سيقود حكمًا إلى تغيير طبيعة الهويّة الأوروبّيّة التاريخيّة، بهويّات شعوبيّة مغايرة، لا سِيَّما من سكّان شمال إفريقيا.
لم تكن تلك فقط رؤية سَيّد البيت الأبيض لأوروبّا، بل كانت هناك دعوات أكثر إثارة، معانيها الحقيقيّة غير ظاهرة للعَوَامِّ، بل تحتاج لقراءة من النخب المفكّرة، ومثال ذلك الدعوة إلى “تنمية مقاومة المسار الحاليّ لأوروبّا داخل أوروبّا”.
الكلمات المتقدّمة، تذكّرنا بالخطاب الأخير للسيد جي دي فانس، نائب الرئيس الأميركيّ في مؤتمر ميونيخ للأمن، والذي هاجم فيه سياسات حكّام أوروبّا، بل أدان ما رأى أنّه تضييق على الحرّيّات، وقد قصد وقتها الدفاع عن الجماعات الشعبويّة، ذات المرتكزات العرقيّة والإيديولوجيّة، المتنامية في المسارات والمدارات الأوروبّيّة في العقدَيْن الأخيرَيْن.
لم تكن خطوط استراتيجِيّة الأمن القوميّ الأخيرة وخيوطها، ما يرسم علامات استفهام حول مستقبل حلف الناتو، ذلك أنّ الرئيس ترامب، في لقائه مع مجلة بولتيكو الأميركيّة ذائعة الصيت، فتح الباب لما بعد المخاوف والهواجس، أي حد القطيعة ولو أدبيًّا وفكريًّا أوّل الأمر.
في اللقاء المذكور، نَدَّد ترامب بأوروبا ووصفها بأنّها مجموعة “متحلّلة” من الدول يقودها أشخاص “ضعفاء” لم يستطيعوا أن يتحَكَّموا في تَيَّارات الهجرة إلى بلادهم، كما لم يساعدوا في العمل على إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
هنا نحن ربّما أمام أكثر من منحى جديد في العلاقات بين واشنطن وبروكسل، الأوّل يتعَلَّق برؤية أميركا لإشكاليّة الهجرة في أوروبا، ويبدو الرفض الواضح للسياسات الأوروبّيّة خلال العقد الماضي، والذي استقبلت فيه دول القارة عدة ملايين من المهاجرين واللاجئين، دافعًا أساسيًّا لتعميق الخلافات.
المنحى الثاني موصول بتوَجُّهات الولايات المتّحدة خلال بقِيَّة سنوات هذه الإدارة لجهة الصراع الروسيّ الأوكرانيّ، وهو ما لم تخفه سطور الاستراتيجيّة والتي جاءت مخفَّفةً جدًّا تجاه روسيا، فيما حملتْ على قادة أوروبا، بوصفهم هم مَنْ يُحفِّزون أوكرانيا والأوكرانيّين لجهة المزيد من إشعال الموقف، وعدم النزوع إلى التهدئة، وإنهاء المشهد الدراميّ الذي يبدأ عامه الرابع خلال شهرَيْن.
الركيزة الثالثة تتمَثَّل في الإعلان المباشر عبر حوار بولتيكو، عن نوايا البيت الأبيض في تأييد المرشّحين السياسيّين الأوروبّيّين الذين يتوافقون مع رؤيته الخاصّة للقارّة، ما يعني دعم تيار اليمين الأوروبي بدءًا من يمين الوسط إلى يمين التشَدُّد والتعَصُّب، والعودة مرةً أخرى إلى حاضنة “مسكونِيَّة الكراهية” كما أطلق البعض عَمَّا يجري حول العالم في السنوات القليلة الماضية، أوروبا في القلب منها.
والشاهد أنه حالَ وَضْعِ استراتيجية الأمن القوميّ الأخيرة، بجانب تصريحات بولتيكو، يخلص المرءُ إلى أنَّ رؤية “أميركا أوّلًا”، ماضيةٌ بقوَّةٍ وبعمقٍ، إلى الحَدِّ الذي يمَثِّل قطيعةً تامّة مع نهج ترومان، ونظام ما بعد عام 1945 الذي صاغه الرؤساء الأميركيّون المتعاقبون.
معنى ذلك أنّه في المستقبل القريب جدًّا، لن تكون سياسة ترامب الخارجية مَبْنِيَّة على إيديولوجيّة سياسيّة تقليديّة، بل موجّهة بما يناسب أميركا، ويبدو أنّ ما يناسب أميركا كما يرى البعض، هو التماهي مع موسكو وبكين، وهو النقد الذي يوجّهه اليسارُ الأميركيّ لترامب وفريقه، ويقطعون بأن الولايات المتحدة أمام اختبار مخيف، فيه سيصعد المستبّدون حول العالم، سواء كانوا ثيوقراطيّين أو علمانيين.
على أنّ ما جاء في استراتيجيّة الأمن القوميّ الأخيرة تفتح البابَ واسعًا أمام علامة استفهام مخيفة بالفعل..”هل حقًّا ستنقلب واشنطن على حلفائها التقليدِيّين في خيانة عائلية مفاجئة كما يتساءل “جيمي ديتمر” محرّر الرأي وكاتب عمود في الشؤون الخارجيّة في بولتيكو أوروبّا؟
المؤكّد أنَّ نظرةً سريعة على ما يخُصُّ الشرق الأوسط، ومستقبل الرؤية الأميركيّة له، يشي بخوفٍ بالغ من عودة السياسات الانعزاليّة بعد أن كاد سكّان هذه المنطقة من العالم أن يقطعوا بعودة ديناميكيّة تبشّر بانفراجة كبرى ودعم مسارات السلام العالميّ، وإن كانت هذه الجزئيّة تستحقّ قراءةً قائمة بذاتها.
اليوم بات التساؤل الرئيس للأوروبّيّين: هل أدركوا أنّهم بمفردهم في ساحات الوغى مع بوتين؟
ربّما لم يمضِ المِخْيال الأوروبيّ ولا حتّى في أحلامه يومًا، أن يستيقظ على رئيسٍ أميركيٍّ، يكاد ولو بالالتفاف حول التضاريس، أن يضعهم بين المطرقة والسندان، أي الاستجابة مذعنين لرغبات العَمِّ سام، أو تركهم في العراء لصواريخ صاحب الكرملين التي لا تُصَدُّ ولا تُرَدُّ.
أوروبّا في واقع الأمر في موقفٍ عصيب وليس صعبًا، يحتاج إلى حكمة الفهماء للتعاطي مع المشهد الأميركيّ الجديد، ولا يغيب عن أعينهم أنّ هناك مقايضةً براغماتيّة تجري بها المقادير، لا سِيَّما مع الروس والصينيين في أميركا اللاتينيّة، مقاربة عُمْقها التاريخيّ حاضرٌ في “مبدأ مونورو”، حيث هيمنة نصف الكرة الغربيّ مقطوعةٌ تاريخيًّا لواشنطن من غير شريك أو منازع، أمّا النصف الآخر الشرقيّ فيمكن التفاوض من حوله.
هل يحق لنا، نهايةً، أن نتساءل ما إذا كانت العودةُ إلى مونرو تراجعًا عن خطّة القرن للمحافظين الجدد التي أقِرَّتْ العام 1997، ما يفيد بتراجع الهيمنة الأميركيّة ونجاح أقطابٍ أمميّةٍ أخرى في الصعود؟
إلى قراءةٍ مكمّلة ومتمّمة بأمر الله.



