شربل بركات: العلاقات الصينية الإسرائيلية “قدر محتوم” أم دبلوماسية برغماتية؟

شربل بركات، المجلة 13-12-2025: العلاقات الصينية الإسرائيلية “قدر محتوم” أم دبلوماسية برغماتية؟
شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي، وما رافقه من تلاشي الجدار الأيديولوجي الذي حكم النظام الدولي لعقود، نقطة تحوّل جوهرية في مسار العلاقات بين جمهورية الصين الشعبية وإسرائيل. فبعد قطيعة دبلوماسية امتدت منذ تأسيس الدولتين، وتخللتها مراحل من الخصومة العلنية كانت فيها بكين منحازة بوضوح إلى المعسكر العربي، فتح الطرفان صفحة جديدة، أعادت صياغة أولوياتهما في ضوء تحولات النظام الدولي.
غير أن الطريق إلى التطبيع لم يبدأ من فراغ، ففي أوائل خمسينات القرن الماضي، فُتحت نافذة ضيقة لإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، بعد اعتراف إسرائيل بجمهورية الصين الشعبية، لكن تردد الطرفين، والتطورات الدولية اللاحقة، بما فيها حرب كوريا والعدوان الثلاثي على مصر، سرعان ما أقفلت تلك النافذة.
وفي العقدين التاليين، شهدت الصين تحولات كبيرة بعد الاشتباكات الحدودية بين الصين وروسيا (1969) وزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بكين (1972). ومع انتقال ماو تسي تونغ، وصعود دانغ شياوبينغ، سجلت محاولات تعاون عسكري وتكنولوجي سري بين البلدين، كان مدفوعا على الأرجح بمقولة دانغ الشهيرة: “ليس المهم أن تكون القطة سوداء أو بيضاء، طالما أنها تصطاد الفئران”.
ويؤكد الأكاديمي الصيني يي يي شن، الذي شغل منصب مدير”معهد الدراسات العبرية واليهودية” بجامعة بكين، في ورقة بحثية نشرتها جامعة أنديانا في 2012، أنه رغم إنكار الحكومتين الصينية والإسرائيلية جميع أشكال التعاون العسكري في تلك الفترة، فإن التكنولوجيا الإسرائيلية في مجالات الزراعة والطاقة الشمسية والتكنولوجيا المتقدمة والبناء وصلت إلى الصين في أوائل الثمانينات.
بعد 1992، تطورت العلاقة بوتيرة متسارعة، مستفيدة من جملة عوامل، في مقدمها السياسات الأميركية الداعمة للعولمة، وبدرجة أقل الأزمات والاضطرابات التي شلت العالم العربي.
وفي 2017، بلغت العلاقة ذروتها، عندما وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال زيارته إلى بكين، الشراكة بين الجانبين بأنها “زواج من السماء” أو “زواج مُقدَّر”، مستخدما تعبيرا إنكليزيا يشير إلى مستوى عالٍ من التوافق والتناغم يجعل العلاقة تبدو كأنها قدر محتوم.
غير أنّ تلك اللحظة تحديدا، التي تزامنت مع وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وانطلاق عهد عكس مسار العولمة في السياسة الأميركية، شكّلت بداية تباطؤ الاندفاعة الصينية-الإسرائيلية، وهو اتجاه تعمّق بعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 الذي غيّر التوازنات والديناميات الإقليمية.
بناء الثقة والتعاون العسكري
في المرحلة الأولى التي أعقبت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وإسرائيل (1992–2000)، تبنّى الطرفان دبلوماسية حذرة وبرغماتية ركّزت على فوائد التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، مع تجنّب أي انخراط سياسي قد يعرقل مسار العلاقة الوليدة. امتنعت إسرائيل من الاقتراب من “الخطوط الحمراء” الصينية في تايوان، فيما حافظت بكين على دعمها التقليدي للفلسطينيين، لكنها بدأت تُخفّف من خطابها الأيديولوجي.
جاء هذا التلاقي في لحظة دولية مواتية: انهيار الاتحاد السوفياتي وتوسّع التعاون متعدد الأطراف، مما جعل الشراكة مع بكين أقل كلفة بالنسبة لتل أبيب، في المقابل سمحت عملية مدريد (1991) واتفاق أوسلو (1993) للصين بأن تطبّع علاقاتها مع تل أبيب، من دون الاصطدام بالعواصم العربية. كذلك أدّت هشاشة البيئة العربية بعد حرب تحرير الكويت، وتزايد النفوذ العسكري الأميركي في الخليج إلى تعزيز هذا التقارب.
في الخلفية، كانت الولايات المتحدة في عهد بيل كلينتون (1993-2001) تشجّع اندماج الصين في الاقتصاد العالمي، وهو ما تُوّج بانضمام بكين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. ساعد ذلك في بناء الثقة بين الصين وإسرائيل، بعدما أصبح واضحا للطرفين أن تعاونهما لا يتعارض مع أولويات واشنطن.
لكن الجانب العسكري حمل ديناميكية مختلفة، فقد اصطدم أول تعاون عسكري رسمي وعلني عبر صفقة “فالكون” عام 1996، التي قضت بتزويد الصين بطائرات إنذار مبكر متقدمة بالضغط الأميركي، الذي أجبر تل أبيب على إلغاء الصفقة عام 2000 ودفع تعويضات لبكين. تكرر المشهد نفسه في 2004، مع صفقة تحديث تل أبيب لأنظمة مسيرات “هاربي” التي كانت باعتها لبكين قبل ذلك بعشر سنوات.
منذ تلك اللحظة، أعادت الصين توجيه العلاقة نحو مسارات أكثر استدامة: التكنولوجيا المدنية، والاستثمارات، وبناء شراكات اقتصادية واسعة، تاركة التعاون العسكري خلف الستار.
“زواج من السماء”
مع مطلع الألفية، اتخذت الشراكة الصينية–الإسرائيلية طابعا جديدا باتجاه اندماج اقتصادي–تكنولوجي واسع، غذّته حاجة الصين إلى الابتكار، وحاجة إسرائيل إلى استثمارات عملاقة. بين 2000 و2017، انخرطت بكين بعمق في منظومة التكنولوجيا الإسرائيلية، فأنشأت مناطق صناعية مشتركة في الطب الحيوي والاتصالات والطاقة المتجددة، وأطلقت مشاريع نوعية مثل حديقة تشانغتشو للصناعات الطبية وحرم “التخنيون–غوانغدونغ”. وترافقت هذه المشاريع مع تدفّق استثمارات صينية إلى الشركات الناشئة الإسرائيلية، من المياه والزراعة الذكية إلى الأمن السيبراني، فيما تحرك التعاون أيضا نحو البنية التحتية والطاقة وتحلية المياه والاتصالات المتقدمة.
هذا التمدّد لم يكن نتيجة مصالح ثنائية فحسب، بل أيضا ثمرة لحظة إقليمية مضطربة. فبعد 11 سبتمبر/أيلول2001، دفعت الحرب الأميركية على الإرهاب وغزو العراق في 2003 إلى تفكك النظام العربي التقليدي، قبل أن يؤدي اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005 ثم ثورات ما عرف بالربيع العربي في 2011 إلى انهيار ما تبقى من التوازنات الإقليمية. في بيئة يغلب عليها العنف والفوضى، بدت إسرائيل، المستقرة نسبيا، وجهة آمنة لتوسّع الصين، ما عزّز حضورها فيها فيما تراجع الانتباه العربي.
ووفّر الخط الأميركي المتّسق عبر إدارات كلينتون وبوش وأوباما، والقائم على دمج الصين اقتصاديا مع قلق استراتيجي محدود يظهر بشكل واضح في المجالات العسكرية والأمنية، مظلّة مريحة لذلك التقارب. ورغم إعلان أوباما في النصف الثاني من ولايته “التحوّل نحو آسيا”، لم تُترجم السياسات الأميركية في تلك الفترة إلى ضغط فعلي على الحلفاء، لخفض تعاونهم مع الصين، ما أبقى مساحة واسعة من المناورة سمحت بترسيخ الشراكة بين تل أبيب وبكين، بوصفها واحدة من أكثر العلاقات التكنولوجية سرعة ونموّا.
التحوّل الأميركي وقضية ميناء حيفا
مع وصول ترمب إلى السلطة في 2017، بالتحالف مع اليمين القومي، وبشعارات معادية للعولمة والنظام الدولي القائم على القواعد، شهد التعامل الأميركي مع الصين تحولا جذريا. وللمرة الأولى منذ أربعة عقود، أعادت واشنطن تعريف الصين كـ”خصم استراتيجي” ومنافس اقتصادي يهدد تفوقها الصناعي.
شن ترمب حربا تجارية على واردات صينية تجاوزت قيمتها 360 مليار دولار، واتخذت إدارته إجراءات ضد شركات صينية في مقدمتها (هواوي)، ومنعت شبكاتها (5G) في الولايات المتحدة، وضغطت على الحلفاء في أوروبا وأستراليا والشرق الأوسط، خصوصا في إسرائيل ودول الخليج، لتبني سياسة مماثلة.
تجلّت انعكاسات هذا التحوّل الأميركي في قضية ميناء حيفا كمثال مفصلي. ففي 2015، وقعت إسرائيل عقدا مع شركة “SIPG” الصينية الحكومية لتشغيل منشآت الحاويات في الميناء لفترة 25 سنة تبدأ 2021. وصفت الصفقة بأنها انضمام غير رسمي لإسرائيل إلى مبادرة “الحزام والطريق” التي أطلقها الرئيس الصيني شي جينبينغ في 2013 بعد عام من وصوله إلى السلطة.
رغم قرب الميناء من القواعد البحرية الإسرائيلية التي تستخدمها البحرية الأميركية، لم تُصنَّف الصفقة خلال عهد أوباما، على أنها تهديد أمني، ولم تُسجَّل أي ضغوط أميركية.
على النقيض من ذلك، اعتبرت إدارة ترمب الأولى المشروع تهديدا مباشرا للأسطول السادس، وبدأت ضغوطا لإلغاء الصفقة. قاومت الحكومة الإسرائيلية الضغوط، وتمسكت بالعقد غير أنها قيدت أعمال الشركة الصينية لتقتصر على الجانب التجاري المدني. وقد تسبب الضغط الأميركي بأضرار ملموسة، حيث انخفضت الاستثمارات الصينية الجديدة في الشركات الإسرائيلية من أكثر من 1.6 مليار دولار عام 2016 إلى ما دون 300 مليون دولار بعد 2020، وتراجع عدد صفقات الاستحواذ بأكثر من الثلثين.
في أعقاب انتخاب جو بايدن في 2020، أبقت الإدارة الديمقراطية عقوبات ترمب، وجعلت الضغط على الحلفاء والشركاء في تعاملهم التجاري مع بكين نهجا أميركياً عابرا للحزبين، مع تكرار قضية ميناء حيفا لاحقا في ميناء خليفة في الإمارات، فيما سجلت ضغوط مماثلة في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها.
وشهدت ولاية بايدن إطلاق مبادرات تهدف الى إبعاد إسرائيل والخليج عن الصين، مثل مجموعة “I2U2” التي تضم الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات والهند، ومشروع الممر الاقتصادي الهند–الشرق الأوسط–أوروبا (IMEC)، الذي اعتبر على نطاق واسع منافسا لمبادرة “الحزام والطريق”.
من ناحية أخرى، ساهم صعود الخليج الذي تمثل بمشاريع التنويع الاقتصادي الرؤيوية والتحولات الإقليمية بعد فترة الاحتجاجات في العالم العربي، ساهم في انتقال مركز الثقل السياسي والاقتصادي إلى دول الخليج، ما جذب اهتمام الصين، خاصة في ظل العلاقات المتقلبة لإدارة بايدن مع السعودية. دفع ذلك المملكة ودول الخليج الأخرى إلى تعزيز التنويع الاستراتيجي لعلاقاتها والانفتاح على الصين، لتصبح دول الخليج محورا جديدا للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي الصيني، في ظل تراجع الدور الإسرائيلي كقناة رئيسة للابتكار.
ومع تحوّل دول الخليج إلى المزوّد الرئيس لبكين بالنفط، باتت العلاقات الصينية–الإسرائيلية مرهونة بشكل أو بآخر بـ”مزاج” الخليج تجاه إسرائيل. وهنا تتحدث الأرقام بوضوح، فقد سجّل حجم التجارة بين الصين وإسرائيل في 2024، نحو 16.276 مليار دولار، بينما بلغ حجم التجارة بين بكين ودول الخليج في العام نفسه حوالي 257 مليار دولار.
مع ذلك، يقلل الدكتور لي زيشين الباحث الزميل في معهد “الصين للدراسات الدولية” من تأثير هذا العامل على العلاقات الصينية-الإسرائيلية، ويقول لـ”المجلة” إن “تعاون الصين مع الدول العربية ليس تعاونا حصريا أو صفريّا في علاقته بتعاونها مع إسرائيل. فالارتقاء النوعي في العلاقات بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي لا يعود إلى تراجع تأثير طرف ثالث، ولا يهدف إلى موازنة نفوذ أي جهة أخرى؛ بل ينطلق من احتياجات تعاون ذاتية بين الصين ودول المجلس”.
7 أكتوبر والاعتمادية الأميركية
منذ هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، انتهجت الصين مقاربة دقيقة إزاء حرب غزة، ملتزمة بمبدأ ثابت في سياستها الشرق أوسطية: لا استقرار من دون معالجة جذور القضية الفلسطينية، أي إقامة دولة قابلة للحياة، وتمكين الفلسطينيين من إدارة شؤونهم. لذلك دعت بكين إلى وقف فوري للنار، وإدخال المساعدات الإنسانية، وامتنعت عن إدانة “حماس” أو تبني قرارات أممية اعتبرتها غير متوازنة وتضر بمصالح الفلسطينيين. هذه المواقف دفعت العلاقات الصينية–الإسرائيلية إلى حالة جمود غير رسمي استمرت أشهرا، قبل أن يعيد اتصال بين وزيري الخارجية وانغ يي ويسرائيل كاتس في أكتوبر 2024 فتح قناة تواصل أساسية.
في هذا السياق، يقول الدكتور لي إنه “من الناحية الموضوعية، أثّر صراع غزة بشكل سلبي على التبادلات والتعاون بين الجانبين. ويعود ذلك أساسا إلى حجم الخسائر البشرية والأزمة الإنسانية التي خلّفها الصراع، ما أدى إلى تغيّر كبير في التصورات المجتمعية، وبيئة الرأي العام في البلدين. مع ذلك، لا ينبغي المبالغة في تقدير تأثير هذه التغيّرات على العلاقة المتوسطة والطويلة الأمد بين البلدين، فعموما، تظل العلاقات الصينية-الإسرائيلية مستقرة”.
وفي تأكيد على مقاربة لي، ظلت التعاملات الاقتصادية بمنأى عن الضجيج السياسي. إذ ارتفع حجم التجارة السلعية بين البلدين بنحو 11.7 في المئة عام 2024 مقارنة بالعام السابق، في تذكير بأن بكين قادرة على فصل حساباتها الاقتصادية عن تبايناتها السياسية حتى في المناطق التي تشتعل فيها الأزمات.
لكن القصة الأعمق جرت في البنية المتغيرة للعلاقة الأميركية–الإسرائيلية. فالتدخل الأميركي المتزايد في المشهد السياسي الإسرائيلي، خلال ولاية ترمب الأولى، الذي عُزِي إلى الكيمياء الشخصية بينه وبين نتنياهو، تكرر بطريقة مختلفة مع بايدن، سواء عبر ما تردد عن دور واشنطن في تشكيل ائتلاف بينيت–لابيد، أو الضغوط والانتقادات على نتنياهو العائد إلى السلطة، بسبب مساعيه لتمرير قوانين مثيرة للجدل تقلّص سلطات القضاء.
حرب غزة عمّقت هذا الاتجاه؛ فالدعم الأميركي الذي كان لعقود محوريا لإسرائيل أصبح أداة ضغط لتقييد خياراتها العسكرية والسياسية، سواء في غزة أو في التعامل مع إيران. ومفارقة الأمر أن عودة ترمب لم تغيّر الاتجاه العام، فقد سعى لإنقاذ نتنياهو من أزماته القضائية، وفي الوقت نفسه ضغط على حكومته لفرض وقف إطلاق النار في غزة، والالتزام بمسار تفاوضي محدد، وطلب منه كبح تحركاته في سوريا.
كيف ينعكس كل ذلك على العلاقات بين الصين وإسرائيل؟ نظريا، كلما ازدادت الاعتمادية على واشنطن، تراجعت قدرة تل أبيب على صياغة سياسة مستقلة تجاه بكين. يتجلّى ذلك بوضوح في الفترة التي تلت وقف النار في غزة، فبينما قاومت إسرائيل عام 2017 الضغوط الأميركية لمنع تشغيل الصين لميناء حيفا، سارعت بعد الحرب إلى سحب مئات السيارات الصينية من ضباطها بذريعة “ثغرات أمنية”، في خطوة بدت أقرب إلى استجابة مباشرة لتحذيرات أميركية، لا إلى تقدير أمني مستقل.
تايوان وإيران ومعاداة السامية
وفي سمة بارزة عابرة لكل هذه المراحل، حافظت تل أبيب على صلات وثيقة مع تايوان، لا سيما في مجالات الأسلحة والتكنولوجيا العالية. ويتباين الخبراء في تفسير أسباب ذلك. بعضهم يرى أنها مسايرة لتوجه أميركي يهدف إلى إبقاء قنوات دعم لتايبيه، وآخرون يعتبرونها حاجة إسرائيلية لتأمين أسواق لمشاريع صناعة الأسلحة المحلية للحفاظ على جدوى الإنتاج، بالإضافة إلى كونها ورقة ضغط، ومجالا للمناورة تجاه الصين نفسها.
وبغض النظر عن الدوافع الإسرائيلية، التي قد تكون نابعة من هذه الأسباب الثلاثة مجتمعة، يظل تأثير تايوان على العلاقات الصينية–الإسرائيلية حاضرا لكنه محدود. في هذا الإطار، يقول الكاتب والباحث الصيني في الشؤون الدولية، تشاو تشي جيون، لـ”المجلة” إن “الهامش الذي تمتلكه إسرائيل في هذه القضية، التي لا تحتمل أي شكل من أشكال الاستفزاز أو التشكيك، ضيق وخطر”.
وعلى سبيل المثال، يشير تشاو إلى أنشطة معادية للصين، يقوم بها عضو الكنيست بوعاز توبوروفسكي، رئيس “مجموعة أصدقاء تايوان” في البرلمان الإسرائيلي، محذرا من أن استمرار بعض الأطراف داخل إسرائيل في استغلال ملف تايوان لممارسة ضغوط سياسية، أو لتحقيق مكاسب داخلية، أو لمجاراة المناخ السياسي في واشنطن، قد يعرّض العلاقات الصينية–الإسرائيلية لأضرار خطيرة يصعب ترميمها، علما أن تايوان قدمت دعما سياسيا واضحا لتل أبيب خلال حرب غزة.
أما ملفّ إيران، فبدا أن تأثيره على العلاقات يبقى محدودا، ما دامت الصين تتبع قدرا كبيرا من الحذر في تسليح الجمهورية الإسلامية، وهي النقطة التي تثير حساسية كلّ من إسرائيل وشركاء بكين الخليجيين. وقد كان لافتا أن الصين نجحت في عبور حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران من دون أن تتكبّد علاقاتها مع طهران أو تل أبيب أي ضرر ملموس.
وعلى مدى سنوات، حرصت إسرائيل على إبراز استقبال شنغهاي وغيرها من المدن الصينية لآلاف اليهود الهاربين من الاضطهاد النازي خلال الحرب العالمية الثانية، بعد أن أوصدت دول أوروبية كثيرة أبوابها في وجوههم، كركيزة تاريخية تربطها ببكين، إلا أن الأخيرة قابلت هذه الرواية بقدر من التحفّظ. وفي لمحة رمزية إلى استعداد الصين لتبني مقاربة إيجابية رغم كل التعقيدات، أشار السفير الصيني لدى إسرائيل، شياو جونتشنغ، خلال فعالية لمجموعة “سيغنال” الإسرائيلية المعنية بالعلاقات الصينية–الإسرائيلية في مايو/أيار الماضي، إلى علاقة بين الشعبين تمتد لأكثر من ألف عام، مستحضرا سيرة الطبيب اليهودي يعقوب روزنفيلد، أحد اللاجئين اليهود إلى الصين، الذي التحق بالقوات الشيوعية ضد الاحتلال الياباني، قبل أن يرتقي إلى ما يعادل رتبة جنرال، ويصبح أحد المؤسسين الأوائل للقسم الطبي في جيش التحرير الشعبي. وفي إشارة أخرى لافتة، تفاخر شياو بأن الصين ليست أرضا خصبة لمعاداة السامية، في الوقت التي يشهد فيه الغرب، خصوصا الولايات المتحدة، نموا غير مسبوق لتلك الظاهرة.
الهدنة الأميركية-الصينية
لطالما شكّلت الولايات المتحدة والعالم العربي عوامل رئيسة في صياغة العلاقة بين الصين وإسرائيل. وإذا كانت بكين قادرة على إدارة موازنة دقيقة بين إسرائيل والخليج، مستندة جزئيا إلى موقفها المتوازن من القضية الفلسطينية، الذي ينسجم مع موقف غالبية دول العالم، يبقى السؤال المحوري: هل سيدفع الخلل في الميزان الاستراتيجي، لصالح واشنطن، إسرائيل إلى تعميق انخراطها مع بكين؟ الاحتمال قائم بقوة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار التجارب التاريخية، التي لجأت فيها تل أبيب إلى التعاون مع دول معاكسة أو متخاصمة مع الولايات المتحدة لتخفيف النفوذ الأميركي على قراراتها الاستراتيجية. أما بالنسبة إلى الصين، فإن احتمال استعادة العلاقة زخمها ينطلق من نهجها المرن مع جميع الدول ورغبتها في الحفاظ على علاقات قوية مع إسرائيل بصفتها حليفا أميركياً حيويا، ما يمنحها ورقة تأثير في لعبة التنافس الكبرى مع واشنطن.
غير أن الكشف عن زيارة سرية أجراها مؤخرا نائب وزير الخارجية التايواني فرنسوا وو إلى إسرائيل يظهر أن احتمال تصاعد التوتر بين تل أبيب وبكين، لا يقل احتمالا عن احتمال انخراط البلدين نحو ترميم ما تضرر بينهما. وفي ظل الهدنة الأميركية-الصينية، ومع تراجع استراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة في تصنيف الصين كتهديد، قد تشكل الأشهر المقبلة، وصولا إلى زيارة ترمب المقررة إلى بكين في أبريل/نيسان، مقياسا للاتجاه المستقبلي للعلاقة.



