أقلام وأراء

د. عبد المنعم سعيد: الشتاء الساخن

د. عبد المنعم سعيد 10-12-2025: الشتاء الساخن

العنوان يشي بما في الحياة من تناقض، حيث لا يبدو «الشتاء» بعيداً عن «السخونة»، ليس فقط لأن الأمر مرتبط بتوالي الفصول ومعها درجات الحرارة، وإنما أكثر من ذلك أنه منطق العلاقات بين الأمم. أدركت الآداب والفنون ذلك بسهولة، وبالطبع كانت الفلسفة فيه لفكرة التناقض ليس فقط في مدى منطقيتها، وإنما أكثر من ذلك وفقاً لماركس أنها محرك مهم للتطور البشري. رواية جورج مارتن «أغنية الثلج والنار» عن المسلسل التلفزيوني «لعبة العروش»، لم تكن بعيدة عن سلسلة أفلام «ذا لورد أوف ذا رينغز» (سيّد الخواتم) التي بدورها كانت تقدم خلطة مشابهة عن «المملكة الوسطى» ممثلة للكوكب، بما فيه من مفارقات وتناقضات، وما يواجهها من تحديات بدائية وحديثة بعرف زمن الأحداث.

علماء العلاقات الدولية، وخبراء أجهزة المخابرات، وجدوا في التناقض «سياسة واقعية» التي ترى الحالة الطبيعية التي تصورها توماس هوبز، حيث توجد حالة حرب والجميع ضد الجميع في صورة دائمة، ونصائح مكيافيلي للتعامل مع هذه الحالة. ما علاقة ذلك بالشتاء الساخن في الشرق الأوسط؟ خصوصاً مع التحديات الهائلة التي يقع في مواجهتها الجميع وأولها الطبيعة أو ذلك «الشتاء المقبل» الذي ألم بأهل غزة الذين يواجهون قسوة الطبيعة، بينما خطة الرئيس ترمب لم تغادر بعدُ النقطة الأولى لوقف إطلاق النار. «حماس» لم تغادرها لأنها لا تريد الولوج إلى النقطة التالية التي تتعامل مع التخلص من سلاحها. وإسرائيل لم تغير من معدلات القتل والجرح والتدمير للفلسطينيين، بينما تفتح جبهات جديدة للعنف مع سوريا ولبنان, الدولتين المرشحتين للسلام مع إسرائيل. الأولى باتت تختلط فيها الضربات الإسرائيلية مع نبرات محلية وطائفية. والثانية يوجد «حزب الله» في حلقها رافضاً تسليم السلاح للدولة التي لا تصير دولة في العالم دون احتكارها للسلاح. إسرائيل تنتهز الفرصة وتفرض غزوات لا تتوقف يراها نتنياهو طريقة لإعادة تشكيل المنطقة!

السخونة تشمل وقوف إيران مع «حزب الله» و«حماس» في الحفاظ على السلاح واستمرار«المقاومة»، والأرجح أنها تقوم بذلك تمهيداً ليوم لا تريد أن يكون بعيداً للانتقام من الدولة العبرية. طهران تلوّح بأن مشروعها النووي لا يزال باقياً تحت غطاء وجودها في ظل معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وفقاً لما يقرره البرلمان الإيراني، وليس نصوص المعاهدة التي تتيح التفتيش على المنشآت النووية للدول الأعضاء. وكما هو معلوم، فإن إسرائيل تمتلك السلاح النووي، وهي لم توقع على المعاهدة، ولم تقبل بتوقيعها، وتظن أن ذلك يعطيها الحق للاشتباك مع طهران, حينما تحين اللحظة المناسبة. مثل هذه اللحظة لن تأتي إلا عندما تكون الولايات المتحدة جاهزة لمشاركة إسرائيل، ومثل ذلك لا يبدو له وجود بينما العلاقات مع واشنطن متوترة. أكثر من ذلك أن الرئيس ترمب ما زال مصراً على السعي إلى وقف إطلاق النار على جبهة غزة، بينما يواصل الهجمات على سواحل فنزويلا، ويوحي بأن ذلك سوف يتخطى الشواطئ إلى اليابسة. ويحدث ذلك بينما المفاوضات مع أوكرانيا وروسيا تضع السلام في أوروبا موضع الخطر، حيث بوتين يريد تحقيق مطالبه كاملة في خضوع أوكرانيا الكامل، بينما أوروبا ترتعد من الدب الروسي.

«الشتاء مقبل» كما سادت الصيحة في «لعبة العروش» مغلفة بمشاهد العنف والقتل، ورغم جلسات التفاوض وتوقيع اتفاقيات وقف إطلاق النار، فإن السخونة تزحف على ساحات متعددة في وقت لا تتوقف فيه الولايات المتحدة عن الحركة.

ولكن السخونة كذلك تلوح في الأفق كلما بات السلام مستعصياً، وإرادة الحياة عصية على الاستمرار. مشاهد القتل والدمار في غزة جعلت استطلاعات الرأي العام الفلسطينية تشير إلى رغبة عميقة للانتقام، بينما إسرائيل نتنياهو تواصل الاعتقاد بأن الفرصة حانت لإخضاع الشرق الأوسط كله بشكل أو بآخر.

رئيس الوزراء الإسرائيلي يرى أن «اللحظة الإسرائيلية» قد حلت لتغيير المنطقة، والوقت هو كل ما يحتاجه نتنياهو لكي يتغلب على المحاكمة لمعاصيه السابقة، وتأتي له مراكب «التطبيع» طائعة وراغبة.

«الزيارة السعودية» إلى واشنطن من قِبل ولي العهد كانت حاسمة ومحبطة لإسرائيل، بصلابة التأكيد على أنه لا تطبيع إلا بعد وجود طريق مؤكد لإقامة الدولة الفلسطينية، فإسرائيل لا تخفي أنها تريد الاحتفاظ بالكعكة الفلسطينية وتأكلها في الوقت نفسه! الشتاء مقبل ومعه السخونة ملتهبة وحارقة.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى