منوعات

عيسى قراقع: رسالة من رجل لم يهزمه الحديد

عيسى قراقع 8-12-2025: رسالة من رجل لم يهزمه الحديد

يا ابناء شعبي، يا كل قلب مازال ينبض بالكرامة، انا مروان البرغوثي الأسير الفلسطيني في زمن التوحش الصهيوني والإبادة الممنهجة المستمرة، اكتب لكم بصوتي واحلامي صاعدا على الجدران والاسلاك، اسير مكبلا من القدس إلى حريتي على طريق الجلجلة.

من زنزانةٍ ضيّقةٍ لا تتّسع لظلّي، أرفع صوتي إليكم، لا لأنّ الجدران تسمع، بل لأنّ الصمت أمام الدم خيانة، ولأنّ الحرية لا تُولد إلا حين يرفض الإنسانُ السلاسل ويكسرُ القيد بأظافره إن لم يجد سلاحاً، وبقلبه أن لم يجد نافذة، وبصموده العالي إن لم يجد افقا، وآلامه وقوداً لحياة قادمة.

أنا هنا منذ أعوامٍ طويلة، تتبدّل الحكومات ولا يتبدّل وجهُ الاحتلال، تُبنى السجون ولا تُبنى العدالة، يُغيَّب الرجال ولا تغيب فلسطين.

وفي كلِّ ليلةٍ، حين تُطفأ الأنوار ويظنُّ السجّان أنّه انتصر، أسمع هديركم، أسمع غزة وهي تُضمد جراحها باللهب، وأرى في العتمةِ قُرى الضفة وهي تحرس الحلم بالصبر والحجارة، وارى نفسي بينكم في رام الله وجنين وغزة، في كل شارع وساحة وحارة، هناك في بلدي الجريحة، وطن الحقيقة والإبداع والخلق والجمال والأرواح العنيدة، وطن الزيت والزيتون و التراب الاحمر، اصلي معكم في الحقول، وفي كل جامع وجبل وكنيسة.

يا أبناء الأرض، لسنا ضحايا قَدَر، نحن أبناء عهدٍ وشهادة، ما دام طفلٌ في غزة يرفع رأسه فوق الركام، وما دامت امرأةٌ تُخفي دمعتها كي لا يراها المحتل، وما دام أسيرٌ يبتسم وهو يُقاد إلى التحقيق تحت الضرب والتعذيب، فهذا يعني أن الاحتلال هو المهزوم، وأن هذا الشعب خُلِق ليُكمل الطريق بجسده ووعيه، أنهم يستطيعون تكسير العظام، لكنهم لن يستطيعوا تكسير أفكارنا وهويتنا وروايتنا، نخلع اعضاءنا كي نمر إلى حياتنا، وسنقطع اعمارنا ليكمله جيل جديد، يغرس وردة في دمنا ويواصل النشيد.

من زنزانتي أقول لكم:

لا تُصدّقوا من يبيعكم سلاماً بلا حرية، أو وقف إطلاق نار بلا كرامة، السلامُ الذي لا يعيد الإنسانَ إلى بيته ليس سلاماً، هو مجرد هدنةٍ بين جولةٍ من الإبادة وجولة أخرى، والسلام لا يتنفس في سجون تحولت إلي مقابر لرموز الحرية، ولا بين آلاف الحواجز والمستوطنات والاعتداءات اليومية، ففينا ماهو اقوى من الصواريخ والطائرات، فينا ما يستطيع انتشال مصيرنا من وحوش تفترس لحمنا وحقوقنا: الوحدة والوفاء للأرض والأسرى و الشهداء.

المقاومة ليست بندقية فحسب، بل موقف، وعي، رفضٌ للركوع، قدرةٌ على أن تقول «لا» حين يقول العالم كله «نعم»، أن نخلع الزنزانة من عقولنا، وان يتحول خطاب القبر الأمريكي من خطاب موت واستسلام الى خطاب نشور وزلزلة وقيامة.

إخوتي…

علّموني في السجن أن الزمنَ يمكن أن يُكسَر، وأن الأسير يمكن أن يصبح وطنًا يمشي على قدميه، علّموني أن الحقيقة لا تُهزم، وأن كلَّ غرفة تعذيب تُنجبُ ثائراً جديداً، وكلَّ جدارٍ تتشققُ فيه الرطوبة تُكتبُ عليه وصايا المستقبل، قريبا قريبا كوعد المطر، نغسل أوجاعنا، ونزرع في احشاءنا شمسا تطل علينا غدا.

أقول لكم اليوم:

احملوا إرادتكم كما تحملون أسماء أحبّتكم الذين رحلوا، لا تتركوا الخوف يدخل قلوبكم، وحين تقفون فوق المقابر، لا تقرأوا الفاتحة فقط، اقرأوا العهد:

لن نغادر الطريق حتى يعود الوطن، ولن يهزمنا السجن والصمت واللغات المتحولة المزدوجة، لن نصدق أحدا غير دمنا وملح الذاكرة.

يا شعب بلادي…

إنّ حريتي من حريتكم، وإن زنزانتي مهما ضاقت، تتّسع لفلسطين كلها، أمّا أنتم، فأنتم الهواء الوحيد الذي يصل إليّ رغم كل الأبواب الحديدية، لا شيئ مغلق أمام الارادة، نحن نملك الأعالي فوق الشجر، وهم لا يملكون سوى هاوية السقوط الأخلاقي والإنساني وبشاعة لا تطل على أحد.

واصلوا الطريق، لا تنتظروني، بل افتحوا الطريق كي أصل إليكم حرّاً، معكم، بينكم، كما وُلدتُ:

ابنَ شعبٍ هزم الظلام أكثر من مرة، وسيهزمه إلى الأبد.

الحرية أقرب مما تظنون، يرونها بعيدة ونراها قريبة وانا لصادقون.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى