منوعات

د. محمد أبو رمان: اعترافات باحث أميركي مميّز

د. محمد أبو رمان 7-12-2025: اعترافات باحث أميركي مميّز

يتجاوز الكتاب الجديد لمارك لينش Marc Lynch، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن والباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، الطريقة التقليدية البحثية في تحليل (وتفكيك) السياسات الأميركية في الشرق الأوسط أو دراسة القضايا الإقليمية المختلفة، التي دأب لينش على البحث فيها منذ عقود، خلال مسيرة مهنية حافلة بهذا النوع من الكتب والأبحاث والتخصص المتعمق؛ الأمر الذي ظهر في كتبه ودراساته السابقة، مثل كتابه عن الربيع العربي والحروب العربية الجديدة، وكتابه السابق الذي شارك في تحريره وكتابة فصوله، عن “العلوم السياسية في الشرق الأوسط”.

جاء الكتاب الجديد للينش بعنوان “الشرق الأوسط الأميركي.. دمار منطقة” The America’s Middle East: The Ruination of A Region ، (صدر قبل أسابيع عن مطبعة جامعة أكسفورد). وبالرغم من أنّ المؤلف يعرف بالنزعة الأكاديمية والبحثية الصارمة، وبالرغم كذلك من أنّ مطبعة أكسفورد لا تقبل إلّا كتباً ودراسات على مستوى جودة علمية عالية جداً، ومحكّمة، تجاوز الكتاب هذا “البرود الأكاديمي”، ليقدّم قراءة وتحليلاً نقدياً حادّاً ليس فقط للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي (قرابة 35 عاماً)، بل أيضاً للمنظور المعرفي والفلسفي الأميركي الثاوي وراء هذه السياسات الذي يلخصه المؤلف بعباراتٍ شديدة الوضوح، صارخة في كشف الحقائق التي حاولت ماكينة الإعلام والسياسة وحتى البحث العلمي خلال عقود تخبئتها ولفلفتها بعبارات جميلة ومزخرفة عن السياسات والأخلاقيات الأميركية العالمية.

يكتب لينش “استغرقني الأمر وقتاً طويلاً لأُدرك جوهر المشكلة، ولكن بعد عقود من المراقبة الدقيقة أصبح الأمر حتميّاً. ما لا يبدو أن أميركا مستعدّة لقبوله أن شعوب الشرق الأوسط بشرٌ في الواقع. تشير تصرفات الولايات المتحدة على مدى عقود إلى أنها لا تُولي حياة العرب أو المسلمين أهميةً تُضاهي حياة الأميركيين أو الإسرائيليين. يبدو أن الكثير من مجتمع السياسة الأميركية والجمهور الأوسع يعتقد أن المسلمين لا يحزنون على أطفالهم أو لا يُفكرون بعمق في أسباب معاناتهم.. لا يعتقدون أن الفلسطينيين أو العراقيين يستجيبون للقمع والظلم والاحتلال بالطريقة نفسها التي يستجيب بها أي شعب آخر بما في ذلك الأميركيون. يُنظر إليهم على أنهم مشكلات يجب حلها، وجماهير يجب التلاعب بها، وموارد يجب حشدها، وموضوعات يجب دراستها… أي شيء سوى أناس يُعاملون كبشر متساوين تمامًا لهم حقوق وأحلام وآمال ومخاوف”.

يعترف لينش بأنّه بدأ بتأليف هذا الكتاب وهو في حالة من سورة الغضب، وهو يشاهد المذابح في غزّة لملايين الفلسطينيين، من إسرائيل وبدعم أميركي كامل ومطلق، لكنّ حالة الغضب لم تكن تقل أو تنخفض مع تبحره أكثر في الكتابة، إذ إنّ مزيداً من التفكير والبحث والمراجعات التي قام بها أوصلته إلى نتيجة أكثر خطورة، تتمثّل في أنّ الموقف الأميركي من الحرب على غزة ليس حالة استثناء في السياسة الأميركية، بل هي جوهر هذه السياسة وحقيقتها، بعيداً عن الأوهام والدعاوى والادعاءات التي تحيط نفسها بها، فأميركا سبب رئيس من أسباب الدمار والمشكلات في الشرق الأوسط، لا يعني ذلك (كما يستدرك لينش) التقليل من شأن العوامل الداخلية والإقليمية، فهي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن الوضع الراهن في المنطقة، لكن السياسات الأميركية لم تكن جزءاً من الحل أو العلاج، بل كانت جزءاً هيكلياً من مشكلات المنطقة ومآسيها.

الصفحات القليلة في “التقديم” لكتابه تمثّل دعوة إلى الاستيقاظ وصرخة ضمير لمثقف وباحث وسياسي وأكاديمي أميركي (من المؤلفين والباحثين البارزين في سياسات المنطقة، ومشارك في حملات انتخابية وكان مقرّباً من إدارة الرئيس باراك أوباما، ومسؤولاً عن عديد من الدوريات والمقالات والندوات المتخصصة في الشرق الأوسط، وكان مديراً لمعهد الشرق الأوسط للدراسات في جامعة جورج واشنطن، ومعروف بمدونته المتخصصة في هذا المجال.. )؛ في هذه الصفحات اعتراف بأنّ الباحثين والمثقفين والسياسيين الذين يخرجون عن النص المعدّ سلفاً في الولايات المتحدة، ويحاولون قراءة المنطقة والفلسطينيين بعين موضوعية خارج الإطار المعرفي- الفلسفي المهيمن، يُحاربون من الآخرين ممن يرفضون رؤية هذا النفاق في السياسات الأميركية، فيلجؤون إلى تفسيرات متجذّرة في المؤامرة، والتخلف الثقافي، والدعاية الإسلامية، وتلاعب الحكومات الساخرة. والنتيجة هي خطاب عام سام للغاية.

شهادة تاريخية مهمة، ذات طابع معرفي- أكاديمي وثقافي وسياسي أيضاً، والأجمل أنّ لينش ينهي مرافعته بنبرة من التحدّي والإصرار “إن الاستسلام لليأس أو السخرية يُخالف مهمتي معلماً ومثقفاً ومواطناً. لا يمكننا دائماً افتراض أن التغيير سيكون إلى الأسوأ، وأننا عاجزون عن رسم مساره. الفلسطينيون يُناضلون من أجل الاستقلال والحرّية، وليس… ليذبحوا ويستحقون الدعم .. الديمقراطية تستحق الدفاع…”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى