منوعات

عيسى قراقع: انجيل السجن: المسيح ينتظر الفجر

عيسى قراقع 4-12-2025: انجيل السجن: المسيح ينتظر الفجر

يمشي المسيح الفلسطيني هذا العام على طرقات فلسطين، لا من القدس إلى بيت لحم كما اعتاد المؤمنون أن يتخيلوه في صلواتهم، بل من سجن عوفر إلى معسكر سدي تيمان الدموي، يمشي مكبَّلًا، متّشحًا بغبار الدروب العسكرية، والجنود يسوقونه كما سُوق يوم حمل الصليب، ما أكثر الحواجز وما اطول الطريق، يعتقلون الاطفال والنساء، الضرب والتنكيل والقتل الميداني والاغتصاب.

لكن وجهه، رغم النزيف، يلمع بنور غريب، نورٍ يشبه أصوات الأطفال الذين لم يبقَ منهم إلا ظلّ لعبة محترقة أو دفتر مدرسة عالق تحت الركام في غزة، يعود التاريخ مرة اخرى، الصراع بين الحق والباطل، وبين النور والظلام، ولكن هذا الشتاء ساخن، وقد امتلأت السماء بالجثث المحترقة، والسجون تفيض بالبشر المعلقين بين الموت والحياة، يسأل المسيح: اي دولة هذه صارت معسكرا كبيرا، حدودها بين دمي والاسلاك الشائكة؟

في الطريق إلى معسكر سدي تيمان، يسمع المسيح صراخ غزة يتردّد في كل اتجاه:

أحياء يُسحَبون من بين الأنقاض، أطفال يبحثون عن أمهاتهم، وأمهات يبحثن عن معنى للنجاة، ما أكثر الموت هنا وهناك، إبادة ممنهجة وجحيم، مجزرة تتلوها مجزرة، وكل من في اسرائيل تحول إلى قاتل وسجان، دولة تحمل سكينا وقنبلة، همجيون يعيدون الحضارات إلى عصورها المظلمة.

في الضفة، يرى اليسوع البيوت تُقتحم، والرجال يُجرّون خارج دتأسرّتهم، والفتية يقفون حفاة في الليالي المثلجة، مكمّمي الأفواه، وكأن الهواء نفسه صار ممنوعًا، لا زيت ولا زيتون هذه السنة، لا ارض تحتضن فاسي وتحصد الخصب والايمان، مستوطنات ومستوطنين، وفي كل حقل مذبحة ومدخنة.

الصلب لم ينتهِ؛ لقد تغيّرت أدواته فقط، القنابل والصواريخ والاعدامات الميدانية، المداهمات وحرق البشر في حفلات الموت الجماعية، والقدّيسون الجدد ليسوا بأسماء من الرسل، بل شهداء بأرقامٍ مجهولة، تعلّق على أبواب المشارح ومعسكرات الاحتجاز، يا الهي: القبور تملأ بلادي ارضا وسماء.

يقاد المسيح إلى سجن سدي تيمان، إلى الصحراء التي تُحوَّل فيها الأجساد إلى ظلال هزيلة، يضعون في يده رقمًا بدل اسمه، ويأخذون صوته، وثيابه، وذكرياته واناجيله، يقيدونه بالسلاسل صارخين: لن تصل بيت لحم هذه السنة، المدينة مغلقة، والنجمة تلاحقها الطائرات.

المسيح في معتقل سدي تيمان في أقصى جنوب الصحراء، وبيت لحم تنتظر أضاءة شجرة الميلاد، والأطفال ينتظرون بابا نويل ليوزع الهدايا والامنيات، من يضيئ الشموع هذا العام؟ ومن يجلب الماء المقدس من عين العذراء في الناصرة؟

في هذا السجن، رأى مريم المجدلية في سجن النساء تعذب وتنادي عليه في الظلام: لا تتركنا وحدنا ايها المعلم كما تركنا العالم نذبح ونعرى وتمارس على أجسادنا كل أساليب الفحش والعدوان، ورأى المسيح أبناءه مروان البرغوثي وأحمد سعدات وآلاف الاسرى في حفر من اسمنت، تنهال العصي على رؤوسهم، هذه حرب على الأفكار والهوية والرموز التاريخية، حرب على حضوري الدائم من التاريخ، عندما فتحت الكنيسة على الشرق نوافذها وقرعت الاجراس: حيا على الثورة، حيا على الصلاة، لاقول اليوم: ويل لكم ايها المتوحشون المتجبرون، لقد جعلتم الرعب والقتل المباح ناموسا لكم، واثقلتم الأرض بدموع لا تجف، ولكن بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم.

في الساحة الرملية المسيجة، وفي الحظائر والزنازين العارية، يجلس المسيح بين الأسرى، يرى على وجوههم صمتًا يشبه صمت التلاميذ ليلة اعتقاله، ويرى في عيونهم سؤالًا قديمًا:

لماذا يتأخر الخلاص؟

فيردّ كما قال يومًا:

(طوبى للجياع والعطاش إلى العدل، فإنهم يُشبعون.)، وقوة الروح لا تفنى حتى لو فني الجسد، هنا اختبار للحقيقة وللانسانية، وهنا نهاية ابدية للطغاة، تعالوا يا احبائي نخلع المسامير من لحمنا، فالحرية لا تأتي دون تضحية ومقاومة وثبات، تعالوا ننزل عن الخشبة، ونتوحد في الرفض، ونسير على درب الجلجلة.

اليسوع يشاهد في المعسكر شعبه يتعرض للتعذيب والقمع والقهر، جوع وذل وهدم وتدمير لانسانية الانسان، دولة تحولت إلى عصابات منفلتة، انتقام عنيف، وغرائز تبحث عن جثث ودماء، اي توراة هذه تبيح هذا الخراب الوجودي؟ وتجعل من القاتل اله؟

لكن الجوع في السجن ليس جوعَ العدل فقط، بل جوع الخبز، جوع النوم، جوع أن يلمس الإنسان أمّه، أو ولده، أو حتى جلده دون خوف، جوع يستهدف الوعي والارادة، جوع يهندس الجسد في دائرة المكان، لا ماض ولا حاضر ولا سلام، لا برزخ في السجن، لا مسافة بين الدنيا والآخرة.

في ليلة الميلاد سال المسيح عن الرسل الذين كانوا حوله ليلة العشاء الاخير: بطرس اعتقل من الكنيسة المعمدانية، ويعقوب قتل في كنيسة القديس هيلاريون في غزة وهو يوزع الخبز، يوحنا اختطفوه ليلا من مخيم جنين، توما دفن تحت الركام في جباليا، حتى قارع الاجراس في كنيسة المهد قتلوه مع الرهبان في صلاة الفجر، ومرة أخرى صلبوا القديس بورفيريوس أمام البحر في غزة، البقية تاهوا ولوحقوا في سهول طوباس وجبال الخليل واريحا والقدس، التلاميذ قتلى أو معتقلين أو لاجئين، أو في ثلاجات الطمس والمحو الباردة.

المسيح في السجن، التقى مع جورج حبش ووديع حداد، ونايف حواتمة وسليم قبعين، واميل الغوري وإبراهيم عياد ووليم نصار و المطران كبوتشي، مع خليل بيدس واميل حبيبي ونجيب نصار، مع ادوارد سعيد وخليل توما وانطون داود و تيريز هلسا ونعيم خضر، والكثيرون ممن كتبوا لاهوت الحرية، وتصدوا للسرديات الصهيونية أدبا وتربية وثقافة ورصاصا، واحيوا الهوية القومية الفلسطينية المعاصرة بالفكر والدم.

يرفع المسيح الرمل بيده، وينفخ فيه، فيرتفع غبار خفيف كأنه بخور يطير من القلب، يقول لهم:

الحرية تبدأ حين يرفض السجين أن يبتلعه السجن والوقت، والنور يبدأ حين تقول الروح لنفسها: «أنا لست هذا الشبح.»

والخلاص يبدأ حين ندرك أننا، رغم القيود لسنا مهزومين، بل في أي لحظة ستطرد المشاعل الصمت، وما ينزف يمكن أن يلتئم، وما يُصلب يمكن أن يقوم.

في الليل، حين يخفت صوت الحرس، يسمع المسيح نبض غزة القريبة، تصل إليه رائحة البحر، رائحة البيوت المهدّمة التي تتشبّث بما تبقّى من حجارة كي لا تسقط الذاكرة، وتصل إليه همسات الضفة، أمّ تبكي ولدها في عوفر، وجدّة تقف على العتبات تناجي السماء، ويلمس هواء الكنائس تحركها اصوات المئذنة، الان اجلس على الحصى في جبل صبيح، وازرع في كل صخرة راية وسنبلة.

في سدي تيمان، في قلب الفاشية المتوحشة، يشتعل نور صغير، نور يشبه شمعة عيد ميلاد في كنيسة بلا شبابيك، نورٌ يرى فيه الأسرى ما سيكتبه التاريخ يومًا:

أن فلسطين لم تتوقّف عن النزيف، لكنها أيضًا لم تتوقف عن الحياة الممكنة.

يقول المسيح: الميلاد هذا العام ليس في المغارة، ولاتحت أشجار الزيتون في حقل الرعاة، ولاوفق الطقوس الرسمية، الميلاد هذا العام خلف القضبان، في بلد ممزق، في ارض تتنهد تحت وطأة الابادة، في مدن وقرى ومخيمات محاصرة بالدبابات، وليرى العالم أن نارنا لا تموت، وان دمنا يتسلق الجدران.

خذوا عني و اكتبوا انجيلي الجديد:

يا احبتي الحق يحرركم، نور دافئ يتسلل إلى زنزانة مظلمة، ولادة الرجاء في قلب الموت، فإنهضوا من قبوركم واعلنوا القيامة، لا يحاور الحديد غير الحديد، توحدوا عبادة وصبرا ووعيا ومقاومة، لا تنتظروا ملاكا ولا حجارة من سجيل، انتم يا شعبي أنبياء الحاضر والمستقبل، والتاريخ يكتبه شهيد يصافح شهيدا، اسالوا زهرة القرنفل في قرية المغير، كاهنة الحب والمطر.

يا احبتي:

الحق لا يموت، قد يصلب ثم يقوم، لا محبة ولا سلام ولا مسرة، الرب في الأعالي لم يرسلني لازين شجرة، ولا لأعبر من الف حاجز اوسماء مسيجة، ذكرى ميلادي ليس احتفالا في صومعة، كيف يحتفل في ارض منذ ألفي عام تدنس، ويقتل شعبها بلا رحمة؟ ليكن ميلادي الان بتوقيت القدس وغزة، بتوقيت كل نبضة وصرخة، بتوقيت الاسرى في السجون وهم يحفرون في أجسادهم املا ، ويزرعون في كل جدار اسما ووردة.

يا احبتي:

يا ابنائي:

لقد قيل لكم من ضربك على خدك الأيمن فحول له الخد الايسر، لكني أقول لكم وانا الأسير مثلكم، لا تقدموا أنفسكم للذبح، بل اوقفوا دورة القتل برفضكم أن تكونوا ادواته، أو عبيدا في الساحة، قوموا لا تخافوا، قوموا بقلوبكم، بحقكم في الحياة أسيادا احرارا، ولتكن صلاة منتصف الليل في بيت لحم في الشوارع والازقة، في الخيام في غزة، في كل بيت ورصيف ومدرسة، في القصيدة والاغنية.

يا احبتي:

دماؤكم ليست صرخة في الهواء، هي نداء سيعيد العالم إلى انسانيته شاء أم ابى، وكل طفل قتل هو انا، هو الانجيل الحي، اقرواه في الليل والنهار وفي المظاهرة، وصلاتنا ليست مجرد خشوع وتراتيل في هذه الأيام المقدسة، بل اعلانا صريحا أن الأرض لا تحرر بالدعاء فقط، ولا الأسير يحرر بكلمات العاطفة، الأرض تحرر بالقوة والصمود والوحدة أمام اجتياح الموت والعاصفة، حرروا أنفسكم من الخوف، لا تلجاوا للزينة والبهرجة ودماؤكم لا زالت طازجة، الميلاد مخاض وسياسة وممارسة، وبشرى وتعبئة وإرادة ومواجهة.

يا ابنائي:

ها أنا أعلنها كما أعلنها الانبياء قبلي: سيأتي يوم تشرق فيه شمس لا تخشى سحب الصواريخ والمتفجرات ، وترتفع على هذه الأرض اناشيد الحرية أعلى من الطائرات، و أصدق من اساطير الظالمين، والى أن يأتي هذا اليوم، كونوا انتم الفجر، كونوا انتم الملح، كونوا انتم الصوت الذي لا يساوم، وابقوا واقفين كالصليب الذي واجه السماء مفتوحا دون أن ينحن.

يا ابنائي:

الميلاد ليس عيدا بل موقفا، الميلاد أن نستعيد من ولدوا وقتلوا رضعا، الميلاد أن نكتب اسماء آلاف العائلات التي مسحت من السجل المدني في الابادة، أن نهدم معسكر سدي تيمان والذي ينغرز في كل جسد وذاكرة، وتاكدوا أن المسيح لا يحتفل بميلاده في زمن المعسكرات والمستوطنات وهو مكبل بالسلاسل وسط كل هذا الحريق، وخذوا عني: السلام لا يمنحه المحتل، والحرية لا تستجدى من الجلاد، الرب سيفتح الابواب، وينكسر القيد كما انكسر الحجر على باب القبر، هذه بشارتي لكم: لن ينتصر القتل، لن ينتصر الحصار، لن تنتصر العتمة.

يا ابنائي:

ندخل عاما جديدا، لا تقبلوا أن يبدا من مجرد رقم في روزنامة، وان جاءكم الأوروبيون حجيجا قولوا لهم: الكنيسة مغلقة، عامان من الإبادة والخراب وانتم تزودون المجرمين بكل انواع الاسلحة، كيف تصبح الأعمال الفظيعة عناوينا لاخلاقكم الرفيعة، لقد جاء العيد ولكن لم تنته الجنازة.

يا ابنائي:

لا تصدقوا امريكا، لا تأكلوا بايد غير ايديكم، لا تروا بعيون غير عيونكم، لا تتكلموا بالسنة ليست لكم، لا تخشوا حارس الغروب، لا تعيشوا في الصدى والصور، انتم الفعل والعمل، لا زال دمي على قميصي، وليل وقيد وموت مؤجل.

هذا انجيلي الجديد، انجيل بلا حبر وورق، انجيل من انفاس متعبة، وعيون ساهرة، ووجوه تنتظر الفجر صابرة مؤمنة.

سلامي اتركه لكم، سلامي اعطيكم، سلام يزلزل العروش ولا يسكن الظلم، سلام شعبي وشموعه المضيئة، آمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى