عياد البطنيجي 26-11-2025: لماذا تتجه إسرائيل نحو إنهاء الحرب المكثفة في غزة؟
على الرغم من المخاوف المتداولة بشأن احتمالية تجدد حرب واسعة النطاق في قطاع غزة، فإن هذه المقالة تستبعد هذا السيناريو، مؤكدة على أن العوامل الحالية لا تدعم عودة التصعيد المكثف.
تتجه إسرائيل نحو إنهاء مرحلة العمليات العسكرية الواسعة في قطاع غزة، وهي خطوة مدفوعة بتحوّلات استراتيجية وعسكرية ودبلوماسية متعددة الأبعاد. يمكن تصنيف هذه الدوافع إلى ثلاثة محاور رئيسية تكشف عن تغير في ميزان القوى والضرورات العسكرية.
المحور الأول: استنفاد الضرورات والأهداف العسكرية الإسرائيلية
لم يعد استمرار التصعيد المكثف مجدياً، لأن الأهداف المرحلية للعملية العسكرية الإسرائيلية قد تحققت، مما أدى إلى زوال المبررات العسكرية للحرب الشاملة.
1-تحييد “التهديد الموحد” وإعادة تعريف الأمن:
تفكيك الإطار الأمني السابق: كان توجيه الحرب يقوم على مفهوم “التصنيف الموحد للتهديد”، والذي كان يبرر استخدام القوة المفرطة والمكثفة لمواجهة تهديد شامل. إن التوافق الدولي الأخير، ممثلاً بقرارات مجلس الأمن واتفاقيات وقف إطلاق النار، قد أنهى فعلياً هذا الإطار، ليحل محله سياق أمني جديد يتطلب عمليات أكثر دقة واستهدافاً.
التحول نحو القوة الذكية: بعد تحقيق الأهداف الاستراتيجية، أصبح التركيز الإسرائيلي يتجه نحو “القوة الذكية”. هذا التحول يسمح لها بتحقيق مكاسب أمنية واستخباراتية (كالتنسيق الأمني والعمليات الدقيقة) مع تجنب الانتقادات الدولية الواسعة المتعلقة بالانتهاكات الإنسانية الناتجة عن العمليات المدمرة والمكثفة.
2-استنزاف “معادلة الهدم الدفاعي” وظهور عجز حماس:
تحقيق السيطرة الجغرافية: استوفت إسرائيل هدفها من خلال استراتيجية “التطهير بالهدم”، وتمكنت من فرض سيطرتها على “الحزام الأمني” (أو العمق الاستراتيجي) في المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية.
فضح القدرات القتالية لحماس: أدى الهدم المكثف للمباني والبنى التحتية إلى كشف شبكات الأنفاق وفرض القتال “في العراء”. هذا السيناريو، الذي لم يكن في حسابات حماس، أظهر عجزها العسكري الفعلي عن المواجهة المباشرة أو مواصلة القتال، حيث فقدت الغطاء الذي كانت توفره المباني لعمليات التخفي والمناورة، ما دفعها إلى الصمت وعدم الرد على العمليات المحدودة الأخيرة.
المحور الثاني: تآكل الحاضنة الإقليمية والضغط الدبلوماسي المشترك
إن إنهاء العمليات المكثفة ليس قراراً إسرائيلياً منفرداً، بل هو جزء من استراتيجية أوسع مشتركة مع الولايات المتحدة، وتهدف إلى إعادة تشكيل المشهد الإقليمي.
1-تقليص الدعم الإقليمي لحركة حماس:
انحسار التأثير الإقليمي: تراجع الدعم التقليدي لحماس أدى إلى تقويض مكانتها وتأثيرها لدى الوسطاء والقوى الإقليمية الداعمة. هذا الانحسار قلص بشكل كبير من قدرة الحركة على استخدام أوراق الضغط والمناورة الاستراتيجية في المفاوضات.
الامتثال لضغط التسوية: دفع ضعف الحاضنة الإقليمية حماس للجوء إلى المطالبة بالتدخل الدولي للالتزام بوقف إطلاق النار بدلاً من الرد عسكرياً، مما يؤكد تراجع الخيارات لديها.
2-التنسيق الاستراتيجي الأمريكي-الإسرائيلي:
ليست مجرد ضغوط أمريكية: قرار إنهاء الحرب لم يكن نتيجة لضغوط أمريكية مباشرة لفرض وقف إطلاق النار، بل جاء كتنسيق وتفاهم مشترك بين الطرفين حول إدارة مرحلة ما بعد الأزمة.
الدبلوماسية الحازمة للضغط على الوسطاء: استخدمت واشنطن مزيجاً من الدبلوماسية الحازمة والتهديد غير المباشر للضغط على الوسطاء والقوى الإقليمية للامتثال لخطة التسوية المشتركة. وقد تجلت هذه الاستراتيجية في الرسالة الضمنية التي حملها الاستهداف الإسرائيلي المحتمل لوفد حماس المفاوض في الدوحة، والتي لم تكن تهدف إلى ضرب الوفد، “كان الاعتقاد السائد هو أن الاستهداف العسكري الإسرائيلي لوفد حماس المفاوض في الدوحة يهدف بشكل مباشر لتقويض الوفد نفسه وإحداث تحول في مسار المفاوضات والحرب. ورغم أن هذا التحول قد تحقق بالفعل، إلا أنه لم يكن نتيجة للاستهداف المباشر للوفد ذاته. فالهدف الحقيقي من العملية تجاوز مجرد ضرب الوفد أو إحراج قطر كدولة مضيفة فقط؛ بل كان رسالة ضمنية قوية موجهة إلى كافة الوسطاء وعلى رأسهم قطر، والأطراف الفاعلة في المشهد الإقليمي. مفاد هذه الرسالة هو أن استمرار الحرب سيعرّض مصالح جميع هذه الأطراف لمخاطر وخسائر كبرى. هذا الضغط، الذي شكل جزءاً من استراتيجية أمريكية-إسرائيلية منسقة، استغل حالة القلق والرعب التي دبّت في نفوس الوسطاء بهدف حثهم على التحرك نحو المساهمة بفاعلية أكبر في احتواء الأزمة. وقد أدى هذا التكتيك إلى انقلاب جذري في مسار المفاوضات، حيث أدركت الأطراف المعنية أن إنهاء الأزمة يتطلب الامتثال الكامل للجدية الأمريكية في إنهاء الحرب والعمل وفقاً لخطوات تخدم المصالح المشتركة التي صاغتها واشنطن.”
المحور الثالث: البيئة الدولية غير الموائمة وتحدي ما بعد الحرب
يؤكد السياق الدولي الحالي أن الظروف السياسية والميدانية لا تدعم تجديد تصعيد واسع، بل ترجح التوجه نحو مرحلة إعادة ترتيب الأولويات وتحديد ملامح المشهد المستقبلي.
1-الأولوية للتهدئة وإعادة التموضع:
الوضع العام في المنطقة يدفع الأطراف المعنية إلى تجنب الانزلاق في موجة جديدة من الصراع واسع النطاق وتفضيل التهدئة.
ويصبح الامتثال لخطوات التسوية نتيجة لـ “ضرورات قتالية واستراتيجية” (الخوف من الخسارة أو تكبد المزيد من التكاليف)، أكثر من كونه سعياً وراء “المكافآت” التي تقدمها القوى الكبرى.
2-تحدي حماس المستقبلي (نقطة ختامية):
التحدي الجوهري أمام حماس هو كيفية استغلال تجربة الهزيمة لإعادة صياغة استراتيجياتها المستقبلية. يصبح تحقيق مكاسب استراتيجية طويلة الأمد أمراً مستبعداً طالما تكتفي الحركة بردود فعل آنية ترتكز على المناورة والتسويف وشراء الوقت. إن هذا المنهج التكتيكي السريع، الذي يتجاهل التحليل العميق للأسباب الجوهرية للهزائم، يمثل عجزاً لا يمكن تداركه إلا بإحداث تغيير نوعي وعميق يشمل بنية الحركة ذاتها وطبيعتها وهيكلها الفكري والعملياتي.



