بشار مرشد: التنافر المعرفي.. تقديس ما كان يُرفض بالأمس
بشار مرشد 24-11-2025: التنافر المعرفي.. تقديس ما كان يُرفض بالأمس
مقدمة:
في حياة الإنسان والمجتمع، كثيرًا ما نواجه تناقضات غريبة في السلوك والفكر؛ حيث يعارض الفرد أو الجماعة أسلوبًا أو فكرةً معينة اليوم، ليجد نفسه في الغد يتبنى ذات الأسلوب أو الفكرة ويبررها باعتبارها الصواب. هذه الظاهرة، التي يمكن تسميتها بـ”التنافر المعرفي”، ليست مجرد تصرفات عابرة، بل هي انعكاس لصراع داخلي بين القيم والمبادئ السابقة وبين الواقع العملي أو الرغبات الشخصية. التنافر المعرفي يكشف عن قدرة الإنسان على تزيين ما كان يرفضه بالأمس، وتحويله إلى معيار للحق أو الفضيلة، وكأن ما كان خطأً أو مرفوضًا يتحول فجأة إلى تقديس واستحسان.
التنافر المعرفي على مستوى الفرد والجماعة والدولة:
النقطة الجوهرية ليست في تغيير الأسلوب أو تبني نهج جديد، فـالتكييف البراغماتي أمر طبيعي ومفهوم. لكن المعضلة الحقيقية تظهر في كيفية التعامل مع الماضي والمواقف المتضادة التي اتُّخذت فيه.
السيناريو الأول: عندما يكون الأسلوب القديم سليمًا وقد انتقدته سابقًا، ثم تتبناه لاحقًا، يتحول من كان قد انتهجه أصلاً إلى ضحية للتشويه والتقليل من شأنهم، بينما تقدس الآن ما كنت قد رفضته بالأمس.
السيناريو الثاني: بالمقابل، إذا تبنيت أسلوبًا خاطئًا اليوم، رغم أنك كنت على صواب في الماضي، فإنك بذلك تشوه الحقيقة السابقة وتقدس الخطأ الحالي، وتربك الأجيال التي كانت تعتبر مواقفك السابقة نموذجًا للحق والصواب.
على المستوى الفردي والجماعي اوالدولي، كثيرون ينتقدون أسلوبًا أو نهجًا ما في الماضي، ثم يتبنونه لاحقًا ويقدسونه، وفي الوقت نفسه يُشوهون من انتهجوه أصلاً، أو يبررون اليوم خطأً كانوا قد رفضوه بالأمس، ليصبح الصواب والخطأ مرهونين بالموقف الجديد لا بالحقائق السابقة.
هذا التنافر المعرفي يخلق حلقة من التشويه والتقديس المزدوجين، حيث لا يُسمح للماضي بأن يُنظر إليه بموضوعية، ولا يمكن تقييم الحاضر إلا من منظور البراغماتية، مما يؤدي إلى فقدان المعايير الأخلاقية والفكرية تماماً، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى الجماعات والدول.
أهمية التغيير التدريجي:
التغيير السليم يجب أن يكون متدرجًا وعلى فترة زمنية مناسبة، لا هرولة أو اندفاعًا سريعًا وراء جاذبية الوضع الجديد. التدرج يسمح بـالاستيعاب الواقعي للتغييرات، ويجنب الوقوع في التناقض الحاد بين الماضي والحاضر، كما يضمن أن يكون التكيف واعيًا ومستندًا إلى قيم ومعايير واهداف واضحة، لا مجرد محاكاة أو تقليد عابر.
الخاتمة:
في نهاية المطاف، يكشف هذا التنافر المعرفي عن هشاشة المواقف حين تُترك غير مرتبطة بالحقائق والقيم، ويبرز أثرها المدمر على الثقة بالنفس وبالآخرين، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو الدولي. تشويه الماضي أو تقديس الخطأ الحالي لا يؤدي إلا إلى إرباك الأجيال، وإضعاف معايير الصواب والخطأ، وتحويل التجارب السابقة إلى أدوات لتزيين الحاضر بدلاً من التعلم منها. الاعتراف بالجمود السابق وفهم أسباب الخطأ والتغير، مع اعتماد التدرج في التغيير، هو السبيل للحفاظ على المصداقية والعدالة الفكرية، ولضمان أن يكون التغيير براغماتيًا دون أن يتحول إلى أداة لتزييف الحقيقة.



