أقلام وأراء

فاضل المناصفة: لماذا أيدت الجزائر المشروع الأمريكي حول غزة؟

فاضل المناصفة 20-11-2025: لماذا أيدت الجزائر المشروع الأمريكي حول غزة؟

لا يبدو الجدل الدائر اليوم حول تصويت الجزائر على مشروع القرار الأمريكي الخاص بالترتيبات المرحلية في قطاع غزة نقاشًا سياسيًا واعيًا بقدر ما هو موجة انفعالية تُجرّم موقفًا لم يخرج عن ثوابت الجزائر ولا عن سياق المتغيرات الكبرى التي تمر بها القضية الفلسطينية. فالهجوم المتسرع يتجاهل أن معظم الدول الصديقة لفلسطين أيدت هذا التوجه، وأن الواقع اليوم لم يعد هو واقع الأمس، وأن الفلسطينيين أنفسهم يجدون أنفسهم أمام خيارات محدودة في ظل ميزان قوى يميل بشكل حاد ضدهم.

وقبل أي نقاش، يجب التذكير بأن الجزائر ظلت وفية لتعهداتها تجاه فلسطين حتى في أوقات كانت فيها المساعدات العربية تخضع لاعتبارات ضيقة. فقد كان دعمها للسلطة الفلسطينية، خصوصًا في مشاريع إعادة إعمار جنين، خطوة متقدمة في الالتزام العملي بالقضية. ويكفي التذكير بأن الجزائر كانت أول دولة عربية تحتضن إعلان قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف سنة 1988، وهو حدث لا يزال اليوم جزءًا من ذاكرة النضال الفلسطيني.

أما قراءة قرار الجزائر الأخير من زاوية التخوين، فهي قراءة تتجاهل السياق الحقيقي: نحن أمام مشروع أمريكي جاء نتيجة مباشرة لارتدادات السابع من أكتوبر، وهذه الارتدادات خلقت واقعًا سياسيًا وأمنيًا مغايرًا تمامًا. ولا يجوز الخلط بين الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل وبين محاولات تشكيل مسار انتقالي يمنع ترك غزة في فراغ إداري وسياسي قد يُفتح أمام سيناريوهات أكثر خطورة على مستقبل القضية.

من المهم استحضار أن محاولة الجزائر جمع الفصائل الفلسطينية في 2022 لم تكن سوى محاولة إضافية، ضمن سلسلة طويلة من الجهود العربية، لإعادة بناء البيت الفلسطيني على قاعدة الشراكة. وليس من الإنصاف تحميل طرف واحد مسؤولية تعثر المصالحة. فحماس، كقوة سياسية وعسكرية لها حضور جماهيري واسع، كانت تتحرك ضمن حسابات إقليمية وداخلية معقدة، كما كانت فتح تعاني بدورها تحديات تنظيمية وسياسية تجعل من التوافق مهمة شاقة. ومع ذلك، يُحسب للجزائر أنها آخر دولة عربية استطاعت جمع الرئيس محمود عباس وإسماعيل هنية وجهًا لوجه، في لحظة كان يُمكن لها—لو توافرت ظروف أفضل—أن تكون مدخلًا لمسار تفاوضي داخلي طويل المدى.

إن ما جرى بعد ذلك لم يكن فشلًا لطرف بعينه، بل انعكاسًا طبيعيًا لمشهد فلسطيني يعيش حالة تراكمية من الانقسام والبنى السياسية المتوازية التي لم تنجح في التحول إلى مشروع وطني موحّد. فالفصائل الفلسطينية، بكل تنوعاتها، تتحرك داخل بيئة مثقلة بتاريخ طويل من الشكوك المتبادلة، وتباينات عميقة في الرؤية تجاه إدارة الصراع مع الاحتلال، فضلًا عن اختلاف جذري في فهم أولويات المرحلة بين من يراها مرحلة مقاومة مفتوحة ومن يقرأها كمرحلة تستلزم إدارة سياسية متزنة.

وما يحدث اليوم في غزة ليس حدثًا منفصلًا عن هذا السياق، بل نتيجة لتداخل مركّب بين ثلاثة محددات رئيسية: أولها استمرار الاحتلال باعتباره العامل الحاكم لكل مسارات الصراع، وثانيها التحولات الإقليمية المتسارعة التي تعيد تشكيل خرائط النفوذ وتفرض على الفصائل حسابات متغيرة، وثالثها تحديات الحوكمة داخل الساحة الفلسطينية نفسها؛ حيث يجد الفلسطينيون أنفسهم أمام مؤسسات ضعيفة، انقسام جغرافي وسياسي، ونظام تمثيلي يعجز عن استيعاب القوى الفاعلة ضمن إطار واحد.

وفي ضوء هذا المشهد المربك، يصبح موقف الجزائر أكثر قابلية للفهم. فـمنطق الدولة لا يتحرك بعاطفة ولا يخضع لابتزاز الشعارات، بل يقاس بقدرته على التعامل مع الجهة التي تمثل العنوان القانوني والسياسي للقرار الفلسطيني. وليس في ذلك إقصاء أو تحجيم لأي فصيل، بقدر ما هو محاولة لتثبيت الحد الأدنى من وحدة التمثيل في لحظة تتهدد فيها البنية السياسية الفلسطينية نفسها بالتشظي الكامل.

فالمرحلة التي تعيشها القضية الفلسطينية اليوم ليست مرحلة بطولات، بل مرحلة إدارة هشاشة تبحث عن الحدّ الأدنى من التماسك في ظل تآكل منظومات القوة التقليدية وتزاحم الهزات الإقليمية التي أعادت صياغة المشهد برمّته، ومن هذا المنظور بالتحديد، يصبح موقف الجزائر واضحًا وغير قابل لتأويلات مضلّلة. فالمشروع المطروح، رغم كل انتقاداته ومحدوديته، يضع طرفًا فلسطينيًا في قلب المعادلة عبر اقتراح تشكيل حكومة تقنوقراط تتولى إدارة المرحلة الانتقالية. وهذا وحده كفيل بتعطيل أي سيناريوهات تتجاوز الفلسطينيين أو تستهدف تهميشهم. وحين يكون الفلسطيني —بأي صيغة تمثيلية— جزءًا فاعلًا في هندسة المستقبل، فإن قراءة موقف الجزائر لا تحتمل الانحراف نحو التشكيك أو الاتهام، بل تدلّ على التمسك بخيط الشرعية الفلسطينية المتاح، وحمايته من أن تنقضّ عليه مشاريع بديلة لا تُبقي للفلسطينيين موطئ قدم في تقرير مصيرهم.

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى