خطار أبو دياب: اليمين المتطرف في أوروبا… الاتجاهات التاريخية والشخصيات الجديدة
احتمال وصول اليمين المتطرف إلى أعلى مستويات الحكم في أوروبا بات معقولا

خطار أبو دياب 20-11-2025: اليمين المتطرف في أوروبا… الاتجاهات التاريخية والشخصيات الجديدة

تؤشر الانتخابات الأخيرة في أوروبا والاستحقاقات المماثلة في ما يسمى دول “الشمال العالمي” إلى أن ميزان القوى السياسي غالبا ما يميل إلى اليمين بما في ذلك أجنحته المتطرفة مع وجود بعض الاستثناءات عن القاعدة (مثل حالة زهران ممداني في نيويورك).
وفي القارة القديمة منذ منعطف الانتخابات الأوروبية في صيف 2024 نلاحظ تراجع القاعدة الاجتماعية للأحزاب الوسطية يمينا ويسارا لصالح القوى الأكثر تشددا أو لقوى شعبوية من دون خط سياسي واضح. واللافت أيضا أن فقدان الثقة في الأحزاب الحاكمة التقليدية المتزامن مع رفض واضح للتعددية الثقافية والدينية وآثار الركود الاقتصادي، تشكل عوامل محفزة لصعود اليمين المتطرف.
تاريخ التحولات في أوروبا
يستمر صعود قوى اليمين المتطرف في أوروبا سواء باتجاهاته الجديدة الشعبوية والبعيدة عن الأيديولوجيا أو بالتيارات القائمة على الهوية والعنصرية. وتأكد هذا الصعود أخيرا مع نتائج انتخابات جرت حديثا في تشيكيا وهولندا، وسبق ذلك التحذير الصارخ من خلال فوز “التجمع الوطني” بالمركز الأول في الانتخابات التشريعية في فرنسا صيف 2024، وحصول “حزب البديل من أجل ألمانيا” على المركز الثاني في الانتخابات الفيدرالية في ألمانيا خلال هذا العام. إضافة إلى ذلك، يقود اليمين المتطرف أو يشارك في عدة حكومات داخل الاتحاد الأوروبي. فهو يرأس الحكومتين الإيطالية والمجرية، ويشارك في حكومات ائتلافية في فنلندا وسلوفاكيا. كما يقدم هذا التيار الدعم، دون مشاركة رسمية، للحكومة السويدية.
وهذا الزخم جعل احتمال وصول اليمين المتطرف إلى أعلى مستويات الحكم في أوروبا احتمالا معقولا، ولم تعد مشاركة اليمين المتطرف في السلطة محرّمة، لكن تقتضي الإشارة إلى أن الأحزاب الشعبوية في أوروبا ليست ظاهرة مستجدة، بل كانت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين جزءا أساسيا من المشهد السياسي. مع العلم أنه في جميع أنحاء أوروبا، وحتى في الولايات المتحدة، لا تزال الحركة الشعبوية تنمو وقد اشتد عضدها في أعقاب الأزمة المالية عام 2008 وأخذت تُرسّخ مكانتها كظاهرة سياسية.
وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحزاب عارضت الهجرة منذ البداية، فإن التركيز على الترحيل والإعادة إلى الوطن لم يكتسب زخما ملحوظا إلا خلال العام الأخير.
اللافت أيضا أنه في موازاة أحزاب متجذرة مثل “التجمع الوطني في فرنسا” (وريث “الجبهة الوطنية”) الذي ترأسه مارين لوبان ومساعدها غوردان بارديلا، نشأ حزب “استعادة فرنسا” الشعبوي مع إريك زيمور. أما في المملكة المتحدة فقد برز منذ فترة تومي روبنسون، المشاغب العنصري الذي تحوّل إلى مُحرِّك جماهيري، بالرغم من استمرار صعود نايجال فاراج زعيم حزب “الإصلاح”. وينطبق الأمر نفسه في هولندا على إلس ريشتس، المؤثرة اليمينية المتطرفة على هامش وجود أحزاب من أقصى اليمين تملأ الساحة السياسية. أما في تشيكيا فقد كان لافتا بروز رئيس حزب “السائقين” فيليب توريك الذي يتلاعب بالرموز النازية.
تدلل هذه الأمثلة على تغييرات المشهد السياسي في القارة القديمة.
تجذر التطرف في غرب أوروبا
من إيطاليا إلى فرنسا والمملكة المتحدة، ومن هولندا إلى النمسا وإسبانيا، نشهد انقلابا واضحا في موازين القوى، إذ أظهرت استطلاعات رأي غير مسبوقة تقدما كبيرا لليمين المتطرف والشعبوي، مقابل تراجع أحزاب الحكومة، وسط غضب شعبي متزايد من الأوضاع الاقتصادية والأمنية.
يتزامن الصعود مع تحول برغماتي كما في إيطاليا، حيث إن رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، التي كانت تتخذ مواقف راديكالية ومؤيدة لروسيا، تُقرّ الآن بتحالفها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوكرانيا، وتروج لسياسة اقتصادية ليبرالية كلاسيكية. وكذلك في فرنسا، يبدو “حزب التجمع الوطني” (RN) ممزقا بين محاولة التحرر من النفوذ الروسي (كما كان الأمر قبل حرب أوكرانيا) والحاجة إلى تحالفات داخل البرلمان الأوروبي. وينطبق ذلك أيضا على البرلمان الفرنسي حيث حقق “التجمع الوطني” نجاحا برلمانيا غير مسبوق في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عند التصويت على مشروع قرار إلغاء الاتفاق الفرنسي الجزائري لعام 1968، وهو الاتفاق الذي يمنح الجزائريين وضعا خاصا وينظم شروط تنقلهم وإقامتهم وعملهم في فرنسا.
إن الثقل البرلماني الذي اكتسبه حزب “التجمع الوطني” منذ حل البرلمان عام 2024، وانهيار إدارة ماكرون، والحشد التدريجي لليمين التقليدي، يسمح له بإسماع صوته في قضايا مثل الميزانية، حيث كان صوته ضعيفا في السابق. ومن خلال إغداق الوعود، يأمل اليمين المتطرف بطمس عنف برنامجه القائم على رفض “أعداء الداخل”.
وبالرغم من أن استطلاعات الرأي تظهر أن أكثر من نصف الفرنسيين قد يصوتون لصالح التجمع فيما حققت مارين لوبان وجوردان بارديلا، أعلى نسب شعبية منذ تأسيس الحزب، لا يمكن الجزم بأن هذه المعطيات تؤدي للوصول إلى قصر الإليزيه، إذ إن الفوز بالرئاسة في فرنسا “لا يقوم على الشعبية فقط، بل على بناء تحالفات واسعة”، وهو ما يعجز عنه اليمين المتطرف حتى الآن، وهو يفتقر كذلك إلى شبكة محلية قوية، إضافة إلى رؤية اقتصادية تفصيلية قادرة على طمأنة الطبقة الوسطى والموظفين.
أما في المملكة المتحدة، فإن المجتمع البريطاني يهتز تحت وطأة “رفض الآخر” وتسقط “أسطورة” عدم حصول مد عنصري في بلد يفاخر بمقاومته العنيفة للنازية الهتلرية ويرفض الإقرار بهذا الواقع إلى حد أن الشعبوي نايجال فاراج (زعيم حزب “الإصلاح” الذي يمكن أن يطيح بالثنائية التاريخية لـ”العمال” و”المحافظين”) لم يقبل بشكل قاطع تصنيفه يمينيا متطرفا في الطيف السياسي البريطاني، ناهيك عن وصفه بالعنصري. إذ يدعو بصفته رئيسا لحزب “الإصلاح”، إلى طرد مئات الآلاف من الأجانب في حال فوزه برئاسة الحكومة ويشكك بين الحين والآخر في التزام المسلمين بـ”القيم البريطانية” وفي المظاهرات يرفع أنصاره، عبارات مثل: “لسنا متطرفين، بل أصحاب حق”.
في ألمانيا، يبدو الوضع مشابها لبريطانيا، حيث تمكن حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) من الانتقال من الهامش السياسي إلى موقع مؤثر، محققا 20.8 في المئة من الأصوات في انتخابات فبراير/شباط 2025 ليحل في المركز الثاني. وبذلك، قد يغدو الترحيل الجماعي للمهاجرين غير الشرعيين جزءا من المشهد السياسي الأوروبي في المستقبل القريب.
وفي النمسا، يبدو الوضع مقلقا إذ إنه بعد خمس سنوات على هزيمته، عاد اليمين المتطرف بقوة في الانتخابات التشريعية التي جرت في (29 سبتمبر/أيلول 2024)، محققا فوزا تاريخيا. وقد حصل حزب “الحرية” بزعامة هربرت كيكل على 29.1 في المئة من الأصوات، مقابل 26.1 في المئة لحزب “الشعب” اليميني المحافظ. لكن حلول اليمين المتطرف في المرتبة الأولى الذي أحدث زلزالا في هذا البلد، لم يضمن الوصول إلى المستشارية النمساوية، نتيجة امتناع أي حزب عن قبول الشراكة بالحكم معه.
وفي أسبانيا، يُعد حزب “فوكس” (بقيادة سانتياغو أباسكال) أسرع الأحزاب السياسية نموا في أسبانيا ومن المتوقع أن يصوت ربع الشباب الأسبان لهذا الحزب في الانتخابات المقررة في 2027. ويشار إلى أن تهديد “اليمين المتطرف” المعادي للمهاجرين يحفز الناخبين اليساريين في بلدٍ لا تزال فيه ماثلة ذكرى الديكتاتور فرانشيسكو فرانكو بعد 50 عاما من وفاته، لكن استطلاعات الرأي تُشير إلى أن العمال اليدويين يتخلّون أيضا عن الأحزاب اليسارية وينضمّون إلى حزب “فوكس”، وهذا ما يزيد التحدي، خاصة أن أباسكال، البالغ من العمر 49 عاما، يتمتع بكاريزما لافتة.
تجدر الإشارة إلى تراجع الكثير من ناخبي رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز بسبب إبرام حكومة الأقلية التي يترأسها اتفاقيات مع الانفصاليين الكتالونيين والباسكيين للاحتفاظ بالسلطة. كما فقد سانشيز دعمه بسبب فضائح فساد في أعلى مستويات الحكومة، كما تواجه زوجته وشقيقه تهم فساد.
الخصوصية الهولندية
نشهد تعددية عريقة وتقلبات لافتة في هولندا (البلاد المنخفضة) ذات النظام الملكي الدستوري مع تقليد برلماني طويل، في انتخابات تُعد على نطاق واسع مؤشرا على صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وسجل استحقاق أكتوبر الماضي فوزا للوسطي روب يتن مع تقدم لليمين المتطرف.
ووفق الهيئة الانتخابية الهولندية أحرز روب يتن فوزا بهامش ضئيل، متقدما بفارق 29,668 صوتا على اليمين المتطرف بقيادة غيرت فيلدرز، وأفسح ذلك المجال لهذا الوسطي البالغ من العمر 38 عاما ليصبح أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد.
وبدا يتن واثقا في أدائه، إذ قال قبل أسبوع: “لقد أظهرنا لبقية أوروبا والعالم أنه من الممكن هزيمة الحركات الشعبوية إذا وجهنا رسائل إيجابية لبلدنا”.
قبل توليه زمام الأمور في خامس أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، سيتعين على يتن أولا تشكيل ائتلاف، وهي عملية قد تستغرق شهورا، حتى إنه قد يضطر إلى التعاون مع حزب يميني متطرف.
لا يتيح النظام الانتخابي الهولندي لأي حزب أن يشغل مقاعد كافية في البرلمان الذي يضم 150 عضوا ليحكم بمفرده، مما يجعل التسوية والتفاوض أمرا ضروريا.
وحصل حزب “الديمقراطيين 66” الوسطي بزعامة يتن على 26 مقعدا، وهو أقل عدد يُسجل على الإطلاق لفائز في الانتخابات.
كما حصل حزب “الحرية” اليميني المتطرف بقيادة فيلدرز على 26 مقعدا، وخسر بذلك 11 مقعدا مقارنة بعام 2023 عندما حقق فوزا مفاجئا.
إلا أن اليمين المتطرف ما زال قويا في هولندا حيث ارتفع تمثيل حزب “منتدى الديمقراطية” اليميني المتطرف من ثلاثة إلى سبعة مقاعد، بينما فاز حزب “الإجابة الصائبة 21” اليميني المتطرف أيضا بتسعة مقاعد، مقارنة بمقعد واحد فقط في انتخابات عام 2023. وفي المجمل، فاز 15 حزبا بمقاعد في البرلمان.
ويسعى يتن لتشكيل ائتلاف من أربعة أحزاب من مختلف الأطياف السياسية لاسيما “الحزب المسيحي الديمقراطي” اليميني الوسطي (18 مقعدا) وحزب “الشعب من أجل الحرية والديمقراطية” الليبرالي اليميني (22 مقعدا) وائتلاف “الخضر/العمال اليساري” (20 مقعدا). ومن شأن ذلك أن يمنحه أغلبية مريحة من 86 مقعدا، لكن كل شيء متوقف على المفاوضات.
في موازاة الأحزاب، تبرز المؤثرة الشابة المتشددة إلس ريشتس، التي كانت وراء المظاهرة المناهضة للمهاجرين في 20 سبتمبر التي تحولت إلى اشتباكات مع الشرطة. وهذا العنف السياسي يمثل جرس إنذار في أكثر من بلد.
حالة تشيكيا
كما في غرب أوروبا، يتمركز اليمين المتطرف داخل التركيبات السياسية في شمال وشرق أوروبا، من فنلندا والمجر (حيث يوجد فيكتور أوربان على رأس الحكم منذ 2010) إلى بولندا والسويد وسلوفاكيا وحديثا إلى تشيكيا.
بعد انتخابات الرابع من أكتوبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا، استقالة حكومته من يمين الوسط، في خطوة رسمية نحو تولي الملياردير الشعبوي أندريه بابيس السلطة.
يخطط أندريه بابيس، زعيم حزب “آنو” (ANO) المُشكك في الاتحاد الأوروبي، لتشكيل ائتلاف مع “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” اليميني المتطرف وحركة “السائقين”، وكلاهما يُعارض بشدة سياسات الاتحاد الأوروبي المناخية. ويَعِد برنامجهما المشترك بزيادة الإنفاق العام، وتقليص الدعم لأوكرانيا في مواجهة روسيا، واتخاذ موقف أكثر صرامة بشأن الهجرة.
والجديد في جمهورية التشيك، حصول فيليب توريك، الرئيس الفخري لحزب “السائقين” على ما يقارب 7 في المئة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية، وجعله يتنافس على منصب وزير الخارجية في حكومة أندريه بابيش.
الشعبوية والتطرف
ينبثق منطق شريحة من الشعبوية الأوروبية من منطلق ديماغوجي وفق فكرة تعطل النظام في نهاية المطاف، وبالتالي فإن المجال السياسي أصبح مُجردا من التسييس تماما. واتت وسائل التواصل الاجتماعي، ليسرّع استخدامها من تفكك المجتمعات الغربية، خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعي.
يزعم التيار التاريخي (مثل “التجمع الوطني” في فرنسا) أنه انفصل عن الأيديولوجيا التي واكبت تأسيس سلفه السياسي (“الجبهة الوطنية”). لكن في الحقيقة، لا تزال التوجهات الوطنية والقومية موجودة دوما.
وفي هذا الصدد، يُذكرنا المؤرخ لوران جولي بأن “الوطنية الموجهة ضد أعداء الداخل من أصول أجنبية” هي أساس القومية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر. وأن هذه “القومية العرقية”، العزيزة على قلوب تلاميذ موريس باريس (1862-1923) وشارل موراس (1868-1952)، تُشكل “جوهر اليمين المتطرف الفرنسي حتى اليوم”.
من جهة أخرى، يبرز الازدراء والاستهزاء بالآخرين في خطابات الحركات الشعبوية والهامشية دليلا على الفراغ الفكري وكل ذلك يكمن في خانة التجييش العاطفي من دون أي طابع سياسي خاص.
قبل حرب أوكرانيا، نجح “القيصر الجديد” في نسج صلات مع قوى التطرف الأوروبي يمينا ويسارا من مارين لوبان واليساري جان- لوك ميلانشون في فرنسا إلى جورجيا ميلوني وفيكتور أوربان وغيرهم. لكن منذ فبراير/شباط 2022، تبدلت المعطيات وحصل خلط أوراق أحبط مؤقتا طموحات بوتين وخطط اختراقه. إلا أن مخاطر توسع حرب أوكرانيا وانخراط أوروبا المباشر واعتراض القوى المتطرفة الأوروبية ضدها، يمكن أن تشكل عوامل تعيد التواصل بين موسكو واليمين المتطرف الأوروبي وما ينطوي عليه من مخاطر.
على كل الأصعدة، غالبا ما يرزح المشهد السياسي الأوروبي تحت وطأة صعود اليمين المتطرف وآثاره السلبية.



