منوعات

د. منى أبو حمدية: “فلسطين… نهوضٌ لا ينكسر” بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين لإعلان الاستقلال

د. منى أبو حمدية 16-11-2025: “فلسطين… نهوضٌ لا ينكسر” بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين لإعلان الاستقلال

“على شفير الجرح يولد الوطن من جديد”

في الذكرى السابعة والثلاثين لإعلان الاستقلال، يعود الفلسطيني إلى ذاته كما لو أنه يعود إلى بيته الأول. يقف أمام سؤالٍ ظل معلقاً منذ عقود: كيف تستطيع أمةٌ مشتتة، محاصرة، مثخنة بالجراح، أن تواصل السير بثبات نحو حلمها؟

ولعلّ الإجابة تتجسد اليوم في هذا الشعب الذي خبر الخذلان ورأى مدنه تتساقط تحت حقدٍ لا يتوقف، ومع ذلك ظل يتقدّم، رافعاً على كتفه فكرةً من نور: أن الوطن ليس مساحة جغرافية فحسب، بل فعل مقاومةٍ للعدم، ومقاومةٍ للنسيان، ومقاومةٍ للمحو.

هذه الذكرى، وإن كانت محاطة بالدخان والرماد، تحمل قداسة خاصة؛ لأنها تذكّر الفلسطيني بأن إعلان الاستقلال لم يكن حدثاً سياسياً فحسب، بل ولادة وعي جديد أشدّ رسوخاً من المدافع وأطول عمراً من الجدران.

“حين يُختبَر الحلم بالنار: محاولات الاجتثاث”

منذ اللحظة التي حاول فيها الفلسطيني أن يرفع حلمه عالياً، أدرك الاحتلال أن الخطر الحقيقي ليس السلاح، بل الفكرة. لذلك ضربها حيث تؤلم: عزّز الانقسام الفلسطيني بسياسته المدروسة، لأن شعباً يتحدث بصوتين يصعب عليه أن يبني وطناً واحداً.

ثم أطلق عدوانه على غزة، عدواناً لا يشبه الحروب المعتادة؛ حرباً هدفها سحق الروح لا هزيمة الجيش. بيوتٌ تُهدم، شوارع تُباد، عائلات تُمحى من السجلات ومن الذاكرة.

وفي الضفة الغربية، كان الضمّ الزاحف يمارس دوره كسرطانٍ بطيء: توسّع استيطاني يبتلع الأرض شبراً شبراً، اقتلاع أشجار الزيتون، سرقة المحاصيل، وفتح طرق تُقطع فيها أوصال المدن.

كان الاحتلال يريد أن يقول للفلسطيني: “إن حلمك يتسرّب من بين يديك.”

لكن الفلسطيني، في كل مرة، كان يخرج من بين الركام ليقول:

الحلم لا يُنتزع، لأن جذوره في الروح لا في الجغرافيا.

“الأفكار التي لا تموت: حين ينهض الوعي من الرماد”
لم يمنح التاريخ الفلسطينيين الكثير من الهدوء، لكنه منحهم درساً واحداً خالداً: أن الأفكار الوطنية لا تُدفن.
قد تخفت، قد تُحاصر، قد تتعرض للخذلان، لكنها لا تموت؛ لأن هناك من يحملها في وعيه كما يحمل اسمه.
كلما حاولت الظروف خنق فكرة الدولة، أعادها الوعي الجمعي إلى الحياة.
فالهوية لم تُخلق في اتفاقيات، بل في الأغاني، في الحكايات، في أسماء المدن، في ذاكرة الجدّات، وفي مفاتيح البيوت التي ما زالت تُحمل على صدور الأبناء.
الأمل ليس ترفاً لغوياً كما يظن البعض؛
إنه مفتاح سياسي،
سلاحٌ وجودي،
وشرطٌ أساسي لبقاء الحلم حياً.

“غزة… المدرسة الكبرى للصمود الإنساني”
غزة ليست جغرافيا فقط، بل مدرسة بشرية لا تُشبه أي مكان في العالم.
هناك، حيث انكشفت الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، اكتشف العالم درساً لا يُنسى: أن الإنسان قادر على أن يعيش رغماً عن الفناء.
قُصفت البيوت، دُمّرت المستشفيات، ضُربت المدارس والمخابز ومخيمات النازحين، ورغم ذلك استمرت غزة تُقاوم بالنبض والخبز والدعاء، وبإصرار يربك قوانين الحرب.
في غزة، يُمارس الناس الحياة كما لو أنهم يعلنون تحدياً للعالم.
في غزة، يصبح الصمود فعلًا يومياً:
طفل يكتب واجبه على كرتونة؛
امرأة تُقيم بيتاً من خيمة فوق ركام دارها؛
رجل يزرع شتلة في أرض قُصفت عشرات المرات.
وفي الضفة الغربية، صمودٌ آخر يتجلّى في وجه اعتداءات المستوطنين، حرق الأشجار، سرقة المحاصيل، الاقتحامات اليومية.
صمودٌ صامت لكنه عميق، يُثبت أن الفلسطينيين يعرفون كيف يحمون أرضهم حتى حين تُترك ظهورهم مكشوفة.

“القدس… قلب الفكرة وعاصمة الروح”
القدس ليست عاصمة سياسية فقط، بل عاصمة الروح.
هي البوصلة الأخلاقية للمشروع الوطني كلّه.
كل مدينة تُبنى ثم قد تُهدم… إلا القدس.
تُهدم ليزداد حضورها في الوعي، وتُحاصر ليزداد عشقها، وتُهوّد ليزداد الفلسطينيون تمسكًا بها.
لذلك ظل الحلم بالدولة وعاصمتها القدس ثابتاً لا يتزحزح،
لأن من يتخلى عن القدس يتخلى عن قلبه.

“من الجزائر… أُشعلت الشرارة: إعلان الاستقلال وبداية الوجود الرمزي”
في قاعة الجزائر عام 1988، وقف الشهيد ياسر عرفات ليعلن استقلال دولة فلسطين.
لم يكن بياناً عابراً، كان إعادة تشكيلٍ للوعي،
وكان نقلًا للفلسطيني من خانة “الضحية” إلى خانة “صاحب المشروع”.
من تلك اللحظة، أصبح للفلسطيني علمٌ، نشيدٌ، هوية سياسية معترف بها.
ذلك الإعلان كان الشرارة الأولى.
ومع الزمن، واصلت الدبلوماسية الفلسطينية بقيادة سيادة الرئيس تعزيز الاعتراف الدولي بالدولة، فوقف العالم أمام فلسطين الجديدة: دولة تُصرّ على الوجود رغم الحصار، وترفع علمها في الأمم المتحدة وتُثبّت حضورها في كل محفل دولي وازن.
كان ذلك انتصاراً لإرادة لا تعرف التراجع.

“حين تشتدّ العاصفة… يشتدّ الوعي”
تحلّ الذكرى هذا العام في أصعب لحظة سياسية وإنسانية:
غزة تحت نار حرب إبادة،
الضفة تحت إرهاب المستوطنين،
القدس تُهوَّد بلا خجل،
والعالم يتفرّج.
ومع ذلك، لم يهن الفلسطيني.
لم يُخطئ بوصلته.
بل بدأ يعود إلى الوحدة كخيار حياة، بعد أن ثبت أن الانقسام كان السلاح الأخطر بيد المشروع المعادي.
لقد حاول الاحتلال قتل الدولة قبل أن تولد،
لكن الفلسطيني يصرّ على أن الوطن وليدٌ يُحمَل لا يُدفن.

“المشروع الوطني… فكرة حيّة تنبض بإرادة شعب”
دولة فلسطين ليست مشروعاً طارئاً
ولا حلماً هشاً،
بل فكرة حيّة تنمو رغم أنف الظروف.
تستمد شرعيتها من دماء الشهداء، صمود الأسرى، ودموع الأمهات، ومن إصرار الأجيال الجديدة التي وُلدت بعد الإعلان وما زالت تؤمن به كما لو أنه أُعلن اليوم.
المسافة نحو الدولة لا تُقاس بالكيلومترات،
بل تُقاس بمدى إيمان الناس بها.
وما دام الفلسطينيون يؤمنون، فإن كل جذوةٍ خمدت ستشتعل من جديد،
وكل باب أُغلق سيفتح،
وكل ألم سيتحوّل إلى نواة خلاص.

“بين أمْسٍ لم يكتمل… وغدٍ لم يولد بعد”
سبعة وثلاثون عاماً مرت، وما زال الفلسطيني يكتب فصله الخاص من التاريخ؛ فصلًا تتداخل فيه الدموع بالشموع، والجراح بالأغاني، والركام بالضياء.
هذه الذكرى ليست مجرد استحضار للماضي،
بل امتحانٌ لمدى قدرة الحلم على البقاء حيًا وسط العواصف.
وفي كل مرة يثبت الفلسطيني أنه لا يزال هنا…
لم ينكسر،
لم ينسحب،
ولم يتخلّ عن حقه في وطن اسمه فلسطين.

“رسالة: إلى الوطن الذي لا يشيب”
يا فلسطين،
يا نهوضاً لا ينكسر،
يا حلماً يُورّث من جيلٍ إلى جيل،
نعدك أن نبقى حراسك الأوفياء،
أن نرفعك في العتمة كما نرفعك في الضوء،
وأن نواصل إعلان استقلالك كل يوم،
حتى يصبح الفجر حقيقة لا استعارة…
وحتى يصير الوطن وطناً كاملًا لا ظلًا مؤجّلًا.
سنظل نقول: فلسطين… نهوضٌ لا ينكسر.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى