هآرتس: في عالم ترامب لا توجد اخلاق، حدود أو مسؤولية مشتركة، هذا سيء لاسرائيل
هآرتس 14/11/2025، شاؤول اريئيلي: في عالم ترامب لا توجد اخلاق، حدود أو مسؤولية مشتركة، هذا سيء لاسرائيل
الإسرائيليون تغمرهم الفرحة والارتياح اثر اطلاق سراح الرهائن ووقف الحرب في غزة، والشكر لمن حقق هذا الإنجاز: الرئيس دونالد ترامب (وفقا لاستطلاع راي اجراه معهد الديمقراطية في الشهر الماضي فان 95 في المئة من الجمهور يعتقدون ان الرئيس الأمريكي ساهم بشكل كبير في التوصل الى الاتفاق. ان نجاح ترامب بالقوة والتهديد الصريح والدبلوماسية القسرية في ظل ضعف النظام الدولي، يظهر كم يهدم الرئيس هذا النظام من الداخل.
منذ ان عاد الى ولايته الثانية فان ترامب يقوض الأسس الثلاثة للنظام العالمي – الاجماع الدولي، القانون الدولي والمنظومة متعددة الأطراف لمؤسسات مثل الجمعية العمومية للأمم المتحدة، مجلس الامن والمحاكم الدولية. ترامب لا يرى في كل هذه آليات ضرورية للتنسيق، بل قيود يجب كسرها. هو يعيد منظومة العلاقات الدولية الى أيام ما قبل الحرب العالمية الأولى، الى عصر “المبدأ الامبريالي” الذي بحسبه كانت الدول حرة في شن الحروب، احتلال وضم أراضي، والمطالبة بالاعتراف بافعالها باسم “الحق الطبيعي للقوي”.
في 4 شباط 2025 وقع ترامب على امر رئاسي امر الولايات المتحدة بالانسحاب من مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة وإعادة فحص مشاركتها في منظمات دولية أخرى. “الولايات المتحدة لن تشارك في مجلس حقوق الانسان ولن تطالب بان تنتخب لهذا الجسم”، قال ترامب الذي يرى في الشراكات متعددة الأطراف عبء وليس ذخر. هو يدير علاقات بين الدول مثلما يدير صفقات: كل تعاون مشروط بمنفعة فورية. لا توجد قيم أو التزام مؤسسي، توجد فقط مصالح. لذلك فان ترامب يفكك احد اعمدة الدعم الرئيسية في النظام العالمي – الاجماع، الذي يمنح الشرعية للقانون والقيم وحدود المسموح والممنوع.
خلال ولايتي ترامب استخف علانية بمنظومة القضاء الدولية. في 6 شباط 2025 وقع على أمر يفرض عقوبات على القضاة وموظفي محكمة الجنايات الدولية بذريعة انها تجاوزت الخطوط الحمراء عندما تجرأت على مناقشة الجرائم التي ارتكبت كما يبدو من قبل مواطنين أمريكيين أو من قبل إسرائيل. بهذا اعلن ترامب فعليا ان القانون الدولي لا يسري على من هو قوي بما فيه الكفاية. منظمات حقوق الانسان اعتبرت الخطوة كـ “خيانة لمنظومة العدالة الدولية”، واكثر من 60 دولة نشرت بيان مشترك جاء فيه: “نحن نؤكد من جديد دعمنا المتواصل وغير المشكوك فيه لاستقلالية وحيادية ونزاهة محكمة الجنايات الدولية”. ولكن هذا لم يردع ترامب. من ناحيته، القانون هو توصية فقط.
هكذا يتحول مبدأ القوة الى مبدأ اسمى. ترامب يعتقد ان القوة العسكرية والضغط الاقتصادي والتهديد الشخصي هي الأدوات الفعالة الوحيدة في العلاقات الدولية. هو يستخدمها بحرية، ويعتبرها سلاح شرعي في إدارة السياسة. مؤسسات مثل مجلس الامن، التي استهدفت ردع الدول عن العمل بشكل أحادي، تفقد قوتها ليس فقط بسبب الفيتو الأمريكي، بل لان ترامب يجفف ميزانياتها، ويقلص مشاركة الولايات المتحدة فيها ويعلن: “الولايات المتحدة لن تتعاون مع مؤسسات تحاول المس بمصالحنا الوطنية”. مجلس الامن والأمم المتحدة تتحول الى اجسام بدون اسنان، عندما تقود الولايات المتحدة – وهي الدولة التي بنت هذه المنظومة بعد الحرب العالمية الثانية – عملية تفكيكها.
امام انظار الجميع هناك تغيير جذري يحدث في مفهوم النظام الدولي: بدلا من المسؤولية الجماعية، نجد القوة الأحادية؛ بدلا من الدبلوماسية نجد التهديدات؛ بدلا من العدالة نجد المصالح. ترامب كان على حق بشان الأمم المتحدة – “لقد انتهى نظامكم العالمي”، هذا كان عنوان مقال متعاطف في موقع الدبلوماسية الحديثة. هذا التصريح المتغطرس يظهر عمق التغيير: النظام العالمي الذي كان من المفترض ان يحمي الضعيف من القوي، ينهار.
بهذا يعيد ترمب العالم الى قالب تاريخي قديم. قبل 1914 لم تكن هناك مؤسسات دولية، التي كان يمكنها وقف دولة عن مهاجمة جارتها. من كان يستطيع قام باحتلال مناطق. ومن ضعف تم افتراسه. العالم كان مكون من امبراطوريات. العقد الاجتماعي العالمي الذي يرفض وضع الاحتلال ولد كعبرة من رعب الحربين العالميتين اللتين اثبتتا بانه عندما لا تكون قواعد فانه سيكون هناك دمار شامل.
ترامب بمعان كثيرة يعبر عن العكس: هو يريد إعادة الإنسانية الى فترة فيها الامبراطوريات تبادلت مناطق بالحروب، والدبلوماسية كانت فقط وسيلة لتحقيق تفوق مؤقت. “الأقوياء يفعلون ما يستطيعون فعله، والضعفاء يحصلون على ما يعطى لهم”، كتب توكيديدس قبل 2400 سنة. ترامب ببساطة حول هذه المقولة الى سياسة رسمية، والامثلة على ذلك كثيرة. مثلا، تصريحاته وتهديداته تجاه كندا والدانمارك، والتهديد بمهاجمة بالمسيرات كارتيلات المخدرات في فنزويلا والمكسيك وسياسته التجارية، التي فيها الاتفاقات تتغير أو تلغى حسب الرغبة والحاجة، وليس وفقا لاتفاقيات.
نفس الأسلوب يظهر أيضا في قضية غزة والمخطوفين. ترامب تدخل ليس فقط من خلال الرغبة في ترسيخ استقرار إقليمي، بل أيضا من اجل ان يثبت بان القوة الامريكية ما زالت تستطيع فرض حلول. تدخله ليس فقط مهمة لمصلحة إقليمية، بل أيضا من اجل سمعته. فهو يسعى الى ان يخلد في التاريخ كشخص حقق اتفاقات سلام دراماتيكية في الشرق الأوسط، وهذا انجاز له وزن انتخابي في الولايات المتحدة وسيحسن صورته بشكل ملحوظ في سعيه للحصول على جائزة نوبل للسلام.
من اجل ان يحقق ذلك فان ترامب يتدخل شخصيا، حتى أنه ارسل لإسرائيل طاقم سياسي موسع الذي يعمل فعليا كبديل عن حكومة إسرائيل على الصعيد الدولي: هم يديرون الاتصالات مع دول عربية ويشرفون على تطبيق الاتفاق امام حماس ويشيرون للعالم بان العنوان الوحيد للمفاوضات في قضية غزة هو واشنطن – بدون تدخل مؤسسات متعددة الأطراف.
في موازاة ذلك ترامب لا يترك مجال للشك بخصوص الضغوط التي يفرضها على القدس: لقد حذر من انه اذا استغلت إسرائيل الزخم لضم مناطق في الضفة الغربية – فانها ستفقد تماما دعم الولايات المتحدة. هذه ليست اقوال تكتيكية فقط، بل وضع شرط جوهري: الموافقة على تحرير مخطوفين وتنسيق إقليمي، مقابل وقف عمليات الضم التي ستدمر قدرة الأمريكيين على التصرف في المنطقة امام لاعبين آخرين.
“لقد حققنا ذلك لأننا جعلناهم يخشون العواقب”، قال ترامب في مقابلة مع فوكس نيوز حول تحقيق وقف اطلاق النار. ولم يخف استخدام التهديد كاداة دبلوماسية. “انت تتحدث، انت تهدد، وعندها يتحركون. هكذا يتم عقد الصفقات”.
بالنسبة اليه أيضا حياة الانسان ليست الا مكونات أخرى في لعبة القوة. وبالتالي، انجاز تحرير المخطوفين تحول الى أداة دعائية. عائلات المخطوفين التي تتطلع الى النتيجة وتبجل “الرجل الذي أعاد ابناءها الى البيت”، ولكن في المنظور التاريخي فان ترامب ببساطة استغل انهيار الأجهزة الدولية من اجل ترسيخ مكانته كوسيط وحيد. هو لم ينقذ المنظومة – هو اثبت انه يمكن تدبر الامر بدونها.
التداعيات تتجاوز حدود الشرق الأوسط بكثير. فعندما يعامل رئيس امريكي المحاكم الدولية أو الأمم المتحدة او الاتفاقات الدولية كاعداء فهو يوجه رسالة عالمية. ففي عالم لا توجد فيه مؤسسات قادرة على منع محاولات الغزو او الضم او التصريحات أحادية الجانب فانه يمكن لكل دولة ان تختار لنفسها ما يناسبها وما لا يناسبها. عندما يتبجح زعيم دولة عظمى بانه “لا يوجد قانون دولي، بل مصالح وطنية”، ويرسل حاملة الطائرات “جيرالد فورد” الى ساحل فنزويلا، فانه يرسخ نموذج يحتذى به. روسيا، الصين وتركيا، بل وحتى دول اصغر، جميعها تحصل على الشرعية لتجاهل القواعد، والنتيجة هي نظام من الفوضى المعقدة، حيث تضع كل دولة معاييرها الخاصة للعدالة.
هذه العملية تعكس ليس فقط الأيديولوجيا، بل هي جزء من استراتيجية. ترامب يعرف ان مجتمع دولي ممزق سيسمح له بسيطرة اسهل. بدون مجلس امن أو تقارير عن حقوق الانسان أو قوانين تقيد تصدير السلاح او تفرض عقوبات اقتصادية. في هذه الاثناء الجمهور الأمريكي تاسره الفكرة القديمة – الجديدة، “أمريكا أولا”، حتى لو هذا يعني ان “العالم سينتظر الى ما بعد ذلك”. وكما كتب في موقع مجلس العلاقات الخارجية سي.اف.آر فان “خطاب ترامب في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 23 أيلول يعرض فوائد التعاون العالمي للخطر”. هو ببساطة يفضل عالم بدون مؤسسات على عالم تلتزم فيه أمريكا، بصفتها قائدة العالم، بالقواعد والاهداف مثل المتعلقة بقضية المناخ.
قبل الانتخابات لرئاسة مدينة نيويورك قدم ترامب مثال آخر على استخدامه الساخر للسلطة. لقد هاجم المرشح الديمقراطي في السباق زهران ممداني (الذي فاز) ووصفه بـ “ممداني الشيوعي”، وهدد بصراحة (كما نشر في صحيفة الغارديان) بأنه “اذا فاز مرشح شيوعي في الانتخابات لرئاسة بلدية نيويورك، أنا اشك كثيرا في انني ساحول أموال فيدرالية، تتجاوز الحد الأدنى، الى مدينتي الأولى والمحبوبة (3 تشرين الثاني). في اليوم التالي كرر ترامب الرسالة في مقابلة مع فوكس نيوز وقال: “المرشحون الذين يفضلون الأمم المتحدة على أمريكا لن يحصلوا مني على فلس واحد طالما انني في البيت الأبيض”. أيضا في هذا التدخل، المحلي كما يبدو، تظهر رؤيته الاستقوائية: استخدام ألاموال العامة كاداة ضغط، عرض الانتخابات المدنية كصراع أيديولوجي بين “الوطنيين” و”الخونة”، وتقويض آخر لمؤسسات الرقابة والتوازن الفيدرالية.
المشكلة تكمن في ان النظام لن يصمد بدون المؤسسات والتوازنات المطلوبة. يثبت التاريخ انه في ظل غياب مؤسسات وساطة قوية فان الحروب تعود. ويحذر العلماء بالفعل من انسحاب ممنهج للولايات المتحدة من عالم الالتزامات. الدول الصغيرة ستحاول حماية نفسها، وستسعى القوى المتوسطة الى تحافلات إقليمية ضد القوى العالمية، وسيتم استبدال الاتفاقات باتفاقات سرية وخطيرة، وهذا ليس عودة الى البساطة، بل عودة الى خطر التصعيد وعودة العنف.
هكذا بالتحديد في الوقت الذي ينتظر فيه العالم حل دبلوماسي في غزة، ترامب يرسل رسالة معاكسة: لا مفاوضات، بل اكراه؛ لا قانون، بل قوة. هو يقرر من يكافئه ومن يردعه حسب مصالحه الفورية، بواسطة القوة وليس بواسطة القانون الدولي، وبهذا يبدل فكرة المجتمع الدولي بفكرة الغابة. اذا تبنت الدول نهجه، أيضا تحرير المخطوفين سيتحول الى سابقة لسياسة الاستقواء وليس الى المصالحة الإنسانية. في 2018 كتبت في “هآرتس” عن هذا التوجه في سياسة ترامب: “الحملة الانتخابية القادمة في الولايات المتحدة (2020) هي التي ستقرر الى اين يتجه العالم – الى عهد الجليد في العلاقات الدولية أو الى الذوبان. بعد استراحة قصيرة في عهد جو بايدن رجعنا الى عهد الجليد بكل قوته. ولكن في هذه المرة الجليد هنا ليس فقط مجازي يعبر عن قطيعة دبلوماسية، بل ان الحديث يدور عن معضلة أخلاقية.
في عالم فيه ترامب يضع القواعد، لا توجد اخلاق، حدود أو مسؤولية مشتركة، توجد فقط مصالح. اذا استمرت هذه السياسة من قبل ترامب أو وريثه أو على يد بوتين، اردوغان أو زعماء آخرين، فان العالم سيدخل الى فترة فيها كل دولة تعمل حسب قوتها وليس حسب القانون. إسرائيل التي تشعر الان بانها مدينة بالشكر للرئيس الذي أعاد المخطوفين، يمكن ان تكتشف بانه على المدى البعيد هي نفسها سيتعين عليها دفع الثمن الأكبر عن انهيار النظام العالمي. في عالم لا يوجد فيه امن للدول الصغيرة، ولا توجد شراكة في القيم ولا يوجد عدل أو قانون، وعالم لا يوجد فيه احد يحمي من سياتي دوره ليقف أمام ترامب، سيكون عالم بلا مناعة.



