
صلاح مخلوف 12-11-2025: غزة بين التكتيك والاستراتيجية الإسرائيلية
منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة عقب عملية السابع من أكتوبر 2023، بدا واضحًا أن ما يجري ليس مجرد ردٍّ عسكري على حدث أمني، بل فصل جديد من المشروع الصهيوني الممتد، الذي لا ينفصل تكتيكه المرحلي في غزة عن استراتيجيته العميقة في الضفة الغربية. فالحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي بكل أدوات القتل والدمار لم تكن فقط لإسكات غزة أو إسقاط فصيل بعينه، بل كانت تهدف إلى إعادة رسم المشهد الفلسطيني برمّته، عبر تحويل الأنظار عن المشروع الحقيقي الدائر بصمت في الضفة الغربية والقدس.
لقد أثبتت التجربة التاريخية أن إسرائيل تُجيد سياسة “الإشغال المزدوج”؛ تُحدث ضجيجًا في مكان لتُنفّذ مشروعها الحقيقي في مكان آخر. وهي سياسة قديمة متجددة استخدمتها منذ قيامها عام 1948. ففي كل حرب تُشعلها إسرائيل ضد العرب، يكون هناك هدف غير معلن يُنفَّذ بهدوء خلف خطوط النار. واليوم، يتكرّر المشهد ذاته: تُشعل إسرائيل حربًا دامية في غزة، بينما تُنفّذ في الضفة الغربية أكبر عملية تغيير ديمغرافي وجغرافي منذ عام 1967.
تقرير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) الصادر في مارس 2025 يؤكد أن إسرائيل “كثّفت في الأشهر الأخيرة من بناء المستوطنات، ووسّعت سيطرتها الإدارية والأمنية على مناطق واسعة من الضفة الغربية”، مشيرًا إلى “انتقال أدوات الضمّ من الجيش إلى الحكومة مباشرة” (OHCHR, 2025). هذا التحوّل يؤكد أن ما يُسمّى “الضمّ المستتر” أصبح واقعًا ميدانيًا، حتى وإن لم يُعلن رسميًا.
وتقارير الاتحاد الأوروبي (EEAS) الصادرة في أغسطس 2025 تشير إلى أن إسرائيل دفعت خلال عام واحد نحو اعتماد أكثر من 18 ألف وحدة استيطانية جديدة، وهي النسبة الأعلى منذ عقدين. هذه المعطيات الميدانية لا تترك مجالًا للشك بأن الاستيطان أصبح الأداة المركزية لترسيخ السيطرة في الضفة الغربية، في وقت تُشغل فيه الأنظار عالميًا بدمار غزة.
ويعترف بعض القادة الإسرائيليين صراحةً بهذه الاستراتيجية. فقد صرّح وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش في أغسطس 2025 أثناء تبريره لمشروع مستوطنة جديدة في منطقة E1 بأن “هذا الواقع يدفن نهائيًا فكرة إقامة دولة فلسطينية” (الجزيرة، 14 آب 2025). هذا التصريح لا يُخفي النية الحقيقية، بل يعبّر عنها بوضوح: الهدف ليس أمنياً بل استراتيجياً، يتمثّل في القضاء على فكرة الكيان الفلسطيني المستقل.
ومن جهة أخرى، تكشف دراسة Pew Research Center (يونيو 2024) أن نسبة كبيرة من الإسرائيليين ترى في الاستيطان ضرورة أمنية، إذ يؤيد 40٪ منهم استمرار الاستيطان، بينما يرى 35٪ أنه يضرّ بإسرائيل. هذه الأرقام توضّح أن سياسة الاستيطان ليست خيارًا حكوميًا فحسب، بل تحظى بقبول شعبي واسع، ما يعزز استمرارها رغم الانتقادات الدولية.
إن الولايات المتحدة، رغم خطابها العلني حول “التهدئة”، تواصل توفير الغطاء السياسي والعسكري لإسرائيل. فهي تدرك أن استمرار المشهد المأساوي في غزة يتيح تمرير الخطوات الأحادية في الضفة دون مواجهة ضغط فعلي. فبينما تتصدر غزة نشرات الأخبار العالمية، يجري في الضفة ضمّ زاحف على الأرض من خلال طرق التفافية جديدة، ومصادرة آلاف الدونمات، وتهجير قسري صامت للفلسطينيين من المناطق C.
ويُشير تحليل نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى إلى أن إسرائيل تنفذ في الضفة “تكتيك الكماشة المزدوجة”، أي استخدام المستوطنات الرسمية من جهة والبؤر العشوائية والمزارع الصغيرة من جهة أخرى لإحكام السيطرة التدريجية على الأرض (Washington Institute, 2025). هذه المقاربة الميدانية تكشف مدى الترابط بين التكتيك الصغير والاستراتيجية الكبرى، وتُظهر أن عملية الضم ليست عملاً عشوائيًا بل خطة دقيقة تُنفّذ بخطوات متتابعة ومدروسة.
تاريخيًا، استخدمت إسرائيل النمط ذاته في محطات مختلفة:
بعد حرب 1948، استغلت الفوضى لتُنفّذ عمليات تطهير عرقي ممنهجة بحق مئات القرى الفلسطينية.
وبعد عدوان 1967، ضمّت القدس الشرقية وبدأت مشروعها الاستيطاني في الضفة تحت غطاء “حرب دفاعية”.
وحتى خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، كانت الأنظار منصرفة إلى المواجهات اليومية، بينما كانت الجرافات تعمل بصمت في عمق الضفة.
اليوم، تُعيد إسرائيل إنتاج السيناريو ذاته، ولكن بأدوات أشد فتكًا وعلانية. فبينما تتجه أنظار العالم إلى غزة، تضع في الضفة أسس “إسرائيل الكبرى” عبر الوقائع الميدانية. إنها سياسة تقوم على “الحرب الكبرى لتغطية الضمّ الصغير”.
الغاية من هذا النمط ليست جغرافية فقط، بل أيضًا نفسية ورمزية. فإسرائيل تسعى إلى ترسيخ صورة ذهنية دولية تُربط فيها غزة بالفوضى والدمار، في حين تُقدَّم الضفة بوصفها المنطقة “القابلة للحياة” التي يمكن فيها إنشاء كيان فلسطيني منزوع السيادة. بهذا الشكل، يُعاد تعريف فلسطين سياسيًا وإعلاميًا: غزة رمز للفوضى، والضفة رمز “للعقلانية” التي يمكن إدارتها تحت الاحتلال.
ومع أن حرب غزة كشفت الوجه الحقيقي للاحتلال، فإن العجز الدولي يمنح إسرائيل الوقت لتثبيت استراتيجيتها المضمرة. فكل منزل يُهدم في غزة يُقابله بيت جديد يُبنى في مستوطنة قرب نابلس أو الخليل، وكل مجزرة تُرتكب في القطاع تُترجم في الضفة بقرار مصادرة جديد. وبذلك تتحول دماء الفلسطينيين في غزة إلى غطاء سياسي وأمني لمخططات الاستيطان في الضفة.
إنّ قراءة المشهد بهذه الطريقة تُظهر أن إسرائيل لم تعد بحاجة إلى مفاوضات أو إعلان رسمي للضم، لأن الواقع الميداني أصبح أقوى من أي قرار. فالضمّ بات حقيقة مادية تُفرض بالحديد والنار، وتُغطّى بدخان القنابل المنهمر على غزة.
غزة لم تكن الهدف، بل الأداة. فتكتيك الحرب هناك هو الطريق إلى الاستراتيجية في الضفة. وبينما تُركّز الكاميرات على الركام في القطاع، تُعيد إسرائيل رسم خريطتها الكبرى من البحر إلى النهر. من لا يرى هذا الترابط بين التكتيك في غزة والاستراتيجية في الضفة يقرأ المشهد ناقصًا، لأن المشروع الصهيوني يقوم على إدارة الوقت والحدث والوعي معًا. وإدراك هذه المعادلة هو الخطوة الأولى لمواجهة مشروع الاحتلال الذي يتغذّى على انشغال العالم بالمأساة لينفّذ في الظل أخطر جرائمه السياسية والتاريخية.
المراجع:
Office of the United Nations High Commissioner for Human Rights (OHCHR). Israel ramps up settlement and annexation in West Bank – UN report, March 2025.
European External Action Service (EEAS). Report on Israeli settlements in the occupied West Bank and East Jerusalem (Jan–Dec 2024), August 2025.
Bezalel Smotrich, تصريح حول مشروع E1، Al Jazeera, 14 August 2025.
Pew Research Center. Israeli views of settlements, violence in the West Bank and East Jerusalem, June 2024.
The Washington Institute for Near East Policy. Israel’s West Bank ‘Pincer’ Is Squeezing the Palestinians, 2025.



