إندبندنت: هل أصبحت بريطانيا مرة أخرى دولة تستحيل إدارتها؟

إندبندنت 8-11-2025: هل أصبحت بريطانيا مرة أخرى دولة تستحيل إدارتها؟
ممارسة الحكم ليست بالمسألة السهلة، وأحياناً تكون مهمة أصعب من غيرها. السبت الماضي، ألقى رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر خطاباً مقتضباً هنأ فيه لوسي باول، نائبته في زعامة حزب “العمال”، التي انتخبت حديثاً، وذلك بعد سبعة أسابيع فقط من قرار اتخذه بإقالتها من حكومته.
كانت هذه خاتمة ملائمة لأسبوع انسحب خلاله جميع الأشخاص المرشحين لقيادة التحقيق في عصابات الاستغلال الجنسي، وشهد إعادة أحد المهاجرين إلى فرنسا – جرى ترحيله على متن قارب صغير عبر “القنال الإنجليزي” – وتكبد فيه حزب “العمال” هزيمة مذلة في انتخابات كيرفيلي الفرعية في ويلز كثيراً ما فاز بها، إضافة إلى إطلاق سراح مهاجر مدان بجرائم جنسية من طريق الخطأ.
في الواقع، حصلت لوسي باول على منصب نائبة زعيم الحزب، بهامش فوز أقل من المتوقع، بلغ 54 في المئة، على رغم الاستياء الواسع النطاق بين أعضاء حزب “العمال” من الاتجاه الذي يسلكه حزبهم. إلا أن فوزها من شأنه أن يعزز موقف الأعضاء المطالبين بزيادة الإنفاق وفرض ضرائب أعلى، وذلك قبل شهر واحد فقط من صدور موازنة عامة ستضع وزيرة الخزانة راشيل ريفز في مأزق لا يحتمل، إذ إنها تسعى إلى خفض الإنفاق وزيادة الضرائب من دون الإخلال بتعهدات حزب “العمال” في برنامجه الانتخابي.
باول كررت أيضاً في خطاب فوزها الشعار الجذاب والمضلل في آن واحد الذي يقول: “لن نفوز بمحاولة التفوق على حزب ’ريفورم‘ في مواقفه المتعلقة بالإصلاح”. ويكشف انتخابها عن مشكلة أعمق داخل الحزب، وهي عدم الرغبة في مواجهة الحقيقة الأصعب المتمثلة في أن حزب “العمال” يخاطر بتلقي هزيمة سياسية، إذا لم يتمكن من الحد من تسلل قوارب المهاجرين إلى بريطانيا، وهو أحد الأسباب التي تقف وراء تقدم زعيم حزب “ريفورم” نايجل فاراج في استطلاعات الرأي.
تجدر الإشارة إلى أنه من غير المعتاد أن تواجه أي حكومة مشكلتين مستحيلتين في الوقت نفسه. لكن هذا هو بالضبط الموقف الذي يجد كير ستارمر نفسه فيه الآن. فالمالية العامة للبلاد واقعة من جهة بين ضغوط لا يمكن مقاومتها لإجراء مزيد من الإنفاق، وتعهدات راسخة بعدم زيادة الضرائب، في حين تبدو الحكومة عاجزة تماماً عن وقف قوارب المهاجرين، كما سابقتها.
التقيت مصادفة الأسبوع الماضي بمايكل كريك، وهو أحد أبطالي في مجال الصحافة السياسية. كريك يعمل في الوقت الراهن على كتابة سيرة ذاتية موجزة عن تيد هيث (رئيس الوزراء البريطاني من حزب “المحافظين” في مطلع سبعينيات القرن الماضي)، ضمن سلسلة عن رؤساء الوزراء تصدرها دار النشر “سويفت” Swift، وتشمل أيضاً رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ويلسون، من تأليف آلان جونسون. يرى كريك أن المناخ السياسي الراهن في البلاد يذكر بمرحلة 1974 – 1975، وهي فترة بدت فيها بريطانيا متأزمة و”غير قابلة للحكم”.
آنذاك، كان التحدي يكمن في الموازنة بين مطالب العمال التي نظمتها نقابات عمالية قوية، ومعركة مكافحة التضخم. أما اليوم، فتبدو المشكلات الاقتصادية عصية على الحل، وقد أضيفت إلى قائمة المشكلات أزمة الهجرة غير المرغوب فيها.
أحد أبطالي أيضاً، وهو جانان غانيش من صحيفة “فايننشيال تايمز” – الذي يعتبر من أكثر المعلقين رصانة في عصرنا – قدم في مقاله الأخير نظرية مثيرة للاهتمام. فهو يرى أن الحكومات اليوم عاجزة عن مجاراة الإشباع الفوري الذي توفره الرأسمالية. وأعطى مثالاً على ذلك القدرة على بث أي موسيقى تقريباً بكلفة شبه معدومة، وأوضح قائلاً: “في عام 1990، حتى سلطان بروناي لم تكن تلبي رغباته بالسرعة التي يتمكن شخص ذو دخل متوسط من تحقيقها اليوم”.
وأشار غانيش إلى أن غضب الناس لا يقتصر على نتائج الهجرة غير الشرعية، بل يمتد إلى الإحباط الناتج من الفشل ذاته في مواجهتها: “صعوبة استيعاب عدم تلبية رغبة معقولة، وبسرعة”.
هناك شيء من الصواب في هذه الفرضية، التي يقر صاحبها بأنها مستوحاة من فكر توني بلير، لكنها في جوهرها ليست سوى تعبير أشد حدة عن إحباط مشروع في أي زمن. فقد كان الناس في سبعينيات القرن الماضي مستائين بالقدر نفسه من أن “لا شيء يعمل” في القطاع العام المتضخم، ووجد السياسيون صعوبة مماثلة في الاستجابة للمطالب الملقاة على عاتقهم.
إحدى طرق تغير السياسة اليوم أنها باتت أكثر استجابة لمطالب التغيير، ولكن ليس دائماً بطريقة مثمرة. فقد كان لافتاً إلى أن رد الفعل الفوري على الهزيمة في الانتخابات الفرعية في كيرفيلي، من جانب عدد من نواب حزب العمال – المجهولين في الغالب – تمثل في المطالبة بتغيير رئيس الوزراء، إلى جانب الدعوة إلى تعديل السياسات في الاتجاه الخاطئ، أي نحو “زيادة الإنفاق وتجاهل ملف القوارب”.
ألم يتعلم حزب “العمال” شيئاً من تجربة التغيير المتكرر لرؤساء الوزراء في حزب “المحافظين”، الذين تبدلوا بمعدل رئيس وزراء واحد كل عامين، في الفترة الممتدة ما بين عام 2016 وعام 2024؟ ناهيك بفرنسا، حيث كانت وتيرة التغيير هناك أسرع وأكبر بكثير.
لم يتوصل أي من الحزبين – “العمال” أو “المحافظين” – إلى خطة موثوقة لكبح الإنفاق العام، أو لإقناع الناخبين بقبول حقيقة أن الضرائب سترتفع. كما أن أحداً لا يعرف كيف يمكن إيقاف القوارب.
هذا هو تحدي الكفاءة الذي يواجهه نايجل فاراج، وهو مدرك له. فقد تخلى للتو عن تعهداته الضريبية والإنفاقية غير الواقعية التي كان قد أطلقها في حملة الانتخابات السابقة، مدركاً أن المعايير المفروضة على حزب مرشح فعلاً لتولي الحكم أشد صرامة مما كانت عليه بالنسبة إليه في المرة الماضية.
كذلك لم يطرح فاراج خطة قابلة للتطبيق لإيقاف القوارب، مما يفتح الباب أمام احتمال مقلق لفشل حكومة أخرى. وهذا يفتح الباب أمام احتمال آخر، وهو أن المشكلة قد لا تكمن في الكفاءة، ولا في المقارنة بين أداء القطاعين العام والخاص، بل في توقع الناخبين ما هو مستحيل من سياسييهم.
وإذا رحل ستارمر، فهل يتقدم المرشح التالي لتولي مهمة الإخفاق المحتوم؟.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook



