فورين أفيرز: ماذا بعد شي جينبينغ؟ سؤال الخلافة الذي يلقي بظلاله على مستقبل الصين ويُربك حاضرها


على مدى أكثر من عقد، طُبِعت السياسة الصينية بشخص واحد: شي جينبينغ. فمنذ توليه قيادة الحزب الشيوعي الصيني عام 2012، رسخ حكم الفرد وأعاد تشكيل نخبة الحزب بحملة تطهير واسعة وحملة صارمة على الفساد، وقيّد المجتمع المدني وقمع المعارضة، وأعاد تنظيم الجيش وعمل على تحديثه، كذلك أعاد تنشيط دور الدولة في الاقتصاد.
وأعاد صعود شي تعريف علاقة الصين بالعالم. فقد انتهج سياسة خارجية أكثر حزماً، فرفع وتيرة المناورات العسكرية في مضيق تايوان، وأشرف على تنامي الوجود العسكري في بحر الصين الجنوبي. وشجع – ثم كبح لاحقاً – طيفاً واسعاً من دبلوماسيي “الذئاب المحاربة” الذين خاضوا حرباً كلامية حادة مع المنتقدين الأجانب. ودفع الصين إلى مزيد من التقارب مع روسيا، حتى بعدما أطلق الرئيس فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا. باختصار، كانت حقبة جديدة للصين، كانت حقبة شي.

غير أن كل شيء سيبدأ بالتغير قريباً. فمع شروع نخبة الحزب في البحث عن قائد يخلف شي، البالغ من العمر 72 عاماً، تنتقل الصين من مرحلة وسمها تركيز السلطة إلى أخرى تتصدرها مسألة الخلافة. والخلافة السياسية لحظة محفوفة بالأخطار في أي نظام استبدادي، والحزب الشيوعي الصيني – على ما له من مكامن قوة، ليس استثناء. وآخر مرة واجه فيها الحزب مسألة الخلافة، حين انتقل الحكم من هو جينتاو إلى شي، ضجت بكين بشائعات عن محاولات انقلاب واغتيالات فاشلة ودبابات في الشوارع. قد تكون الشائعات بلا أساس، لكن ما جرى في قمة السلطة كان واقعياً بالفعل.
وربما تبقى أمام شي أعوام – وربما أكثر من عقد – قبل أن يتنحى. لكن واقع الأمر أن سؤال الخلافة يبدأ بتشكيل الخيارات السياسية قبل تخلي القادة عن السلطة بوقت طويل. وحكام الصين، الحريصون على إرثهم، يتدافعون لتمكين أشخاص يواصلون أجنداتهم السياسية. وقد أسفر هوس ماو تسي تونغ بالحفاظ على الروح الثورية بعد رحيله إلى قيام “الثورة الثقافية”، تلك الحملة السياسية الجماهيرية التي أعادت مراراً ترتيب قيادة الحزب الشيوعي خلال العقد الأخير من حياة ماو.
من غير المرجح أن تكون خلافة شي كارثية، لكن تمهيد عملية انتقال السلطة وتنفيذها وما يليها سيحدد شكل السياسة الداخلية والخارجية للصين في الأعوام المقبلة. وقد تميل الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى استغلال هذا الاضطراب الداخلي. غير أن التدخل في هذه العملية سيؤدي على الأرجح إلى نتائج عكسية. وبدلاً من ذلك، ينبغي لهذه الدول أن تدرك أن صراعات الخلافة أسهمت في السابق في خيارات كارثية للسياسة الخارجية الصينية. إن الفراغ الذي يخلفه رجل قوي مثل شي سيجعل مسألة الخلافة أكثر تعقيداً، وقد يفضي إلى صراع على السلطة وصراع على مسار البلاد. ومثل هذا الاضطراب في ثاني أكبر اقتصاد في العالم قد يتجاوز الحدود الصينية، ولا سيما في ظل سعي بكين إلى إدارة علاقتها المتوترة مع تايوان.
على خطى ماو
منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، لم يتنح من أسلاف شي الخمسة سوى قائد واحد بشكل كامل وطوعي. فقد تمتع ماو، مؤسس الصين الشيوعية وزعيمها القوي، بسلطة ونفوذ طاغيين داخل جهاز الحزب والدولة وحكم البلاد حتى يوم وفاته. أما وريثه هوا جيو فينج فلم يتمكن من الاحتفاظ بالسلطة سوى بضعة أعوام قبل أن يُقصى عن السلطة. في المقابل، ظل دينغ شياو بينغ، مهندس الإصلاحات الاقتصادية الشهير، يسيطر على أهم قرارات الحزب حتى بعدما تخلى عن ألقابه ومناصبه الرسمية. وحتى منتصف التسعينيات، كان يُقال إن دينغ هو الرجل الأقوى في الصين، على رغم أن لقبه الرسمي آنذاك لم يكن يتعدى منصب “رئيس فخري لجمعية لاعبي البريدج” [إحدى ألعاب الورق الشهيرة]. ومن جهته، تشبث جيانغ زيمين، الذي خلف دينغ كزعيم أعلى، بالمنصب المهم كقائد للجيش على رغم تخليه عن منصب الأمين العام للحزب، الأمر الذي قوض مكانة خليفته هو جينتاو. وحده هو جينتاو سلم السلطة دفعة واحدة في إطار عملية خلافة منظمة نسبياً لصالح شي، لكن هذه العملية شابها سقوطٌ دراماتيكي لمنافس شي وعضو المكتب السياسي القوي، بو شيلاي.
عودة شي إلى سياسة الزعيم المستبد تعني أن خلافته ستسير على الأرجح وفق النمط الذي أرسته تجربتا ماو ودينغ، حين سعى كل منهما إلى اختيار خليفة يحكم على خطاه. وقد يواجه شي تحدياً في التعرف إلى من يحمل قناعات سياسية مشابهة لقناعاته بين آلاف الكوادر في الصفوف العليا للحزب. لكن التاريخ يعلم أن وجود “شبيه سياسي” لا يكفي، فأي شخص يختاره شي سيضطر إلى النجاة من مؤامرات أولئك الذين يستبعدون من السباق. وستكون لحظة تنحي شي الشرارة التي تطلق لعبة سياسية جديدة: هل سيدعم من يبقون في أروقة السلطة القائد الجديد؟ أم سيقاومون أجندته، ويقوضون سلطته، أو يتآمرون لإطاحته؟
وفي هذا السياق، تكشف قصة هوا جيو فينج دروساً بالغة الدلالة. فقد اختاره ماو عام 1976 حين كان على فراش المرض. وكانت مشكلة هوا أنه مجرد عضو في الحزب بمرتبة متوسطة ونفوذ محدود: ومن ثم كان شخصية يمكن لماو وحلفائه السيطرة عليها، لا رجلاً قادراً على النجاة من مواجهة سياسية شرسة. وقد كتب ماو له مذكرة جاء فيها: “ما دمت أنت المسؤول فأنا مطمئن”. لكن حتى كلمات ماو لم تكن كافية لإبقائه في الحكم. ففي النهاية، لم يستطع البقاء من دون دعم الجيش.
في ليلة الثامن من سبتمبر (أيلول) 1976، وبينما كان ماو على فراش الموت، اجتمع كبار أعضاء المكتب السياسي في غرفة علاجه داخل مجمع القيادة في بكين لإلقاء النظرة الأخيرة عليه. لم يعد الزعيم قادراً على الكلام، فاكتفى برفع يده الواهنة نحو أحد الزوار: الماريشال يي جيانيينغ، أحد أبرز القادة العسكريين وأكثرهم مهابة في البلاد. أمسك ماو بيد يي، وتحركت شفتاه بخفوت، وروى يي لاحقاً لزملائه أن ماو أوصاه بدعم هوا باعتباره وريثه المختار.
اختار ماو أن يشير إلى يي تحديداً، لا إلى أي من النخب المدنية التي ستبقى بعده. فهوا كان يفتقر إلى الخبرة في السياسة الوطنية وإلى الروابط مع كبار القادة العسكريين. وعندما ينقض خصومه عليه، كان على يي وأمثاله من أصحاب المكانة العسكرية أن يقرروا إن كانوا سيقفون إلى جانبه أم سيتخلون عنه. فالقائد الأعلى للجيش الصيني كان، كما وصفه عالم الاجتماع إيزرا فوغل، “صانع الملوك” الفعلي في الحزب الشيوعي.
وبالفعل، وقف يي في البداية إلى جانب هوا، حين شنت زوجة ماو وثلاثة من رفاقه المتشددين، المعروفين بـ”عصابة الأربعة”، أول هجوم على قيادته بعيد وفاة ماو. وبمساندة يي وعدد من كبار الضباط، تحركت قوات جيش التحرير الشعبي لاعتقال العصابة، مما ضمن بقاء هوا في الحكم، لكن فقط ما دام الجيش مسانداً له. وبعد عامين، عندما نسق دينغ هياو بنغ هجوماً ثانياً على قيادة هوا، انحاز يي وغيره من القادة العسكريين إلى جانب دينغ، الذي كان يتمتع بشبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية وصلات شخصية وثيقة مع الضباط الكبار.
ولا شك أن أمام شي وسائل متعددة لإضفاء الشرعية على خليفته، لكن كما تكشف قصة الخلافة المضطربة بعد ماو، لن يكون هناك عامل أكثر حسماً من صلات الوريث بالجيش. فكثير من المراقبين الخارجيين يقللون من شأن دور جيش التحرير الشعبي في السياسة الصينية، بحجة أن الجيش لم ينتزع السلطة مباشرة كما فعلت جيوش في أنظمة استبدادية أخرى مثل الأرجنتين وباكستان. ويرى هؤلاء أن الصين الحديثة أرست قواعد راسخة للسيطرة المدنية، ومنها مقولة ماو الشهيرة بأن الحزب “هو من يأمر البندقية”.
غير أن غياب الحكم العسكري المباشر يخفي النفوذ الخفي الذي يمارسه الجيش. فالواقع أن جيش التحرير الشعبي يفرض شكلاً من أشكال السيطرة القسرية التي تشكل طبيعة التفاعلات بين صناع القرار. والسبب بسيط: فالقادة الصينيون لا يخشون تحدياً مباشراً من الجيش، لكنهم يواجهون دائماً خطر التحدي من خصوم مدنيين، وفي مثل هذه المواجهات يلعب الجيش دور “صانع الملوك” الخفي، إذ يحاول القادة المدنيون التحكم بمفاتيح المؤسسة العسكرية لضمان تفوقهم على خصومهم. فعلى سبيل المثال، عندما أراد دينغ تعزيز موقع خلفائه المختارين، عين حليفه المقرب الأميرال ليو هوا تشينغ، “أبو البحرية الصينية”، عضواً في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، وهي ترقية استثنائية لضابط عسكري لم تتكرر منذ ذلك الحين.
وقد يكون من المغري الاعتقاد بأن الصين اليوم تغيرت جذرياً بحيث لم يعد لدور الجيش الكامن في الخلافة أثر يذكر. لكن في الواقع، ما زال الجيش عنصراً محورياً في سياسة النخبة، والسيطرة عليه ستظل رصيداً أساساً لأي قائد مقبل. فالجيش لا يختار القادة بنفسه، إذ يُقال إن اختيار شي جاء بعد تفوقه على لي كيانغ في استطلاع غير رسمي شارك فيه قادة مدنيون وعسكريون حاليون ومتقاعدون، لكن دعمه كفيل بتحصين الزعيم ضد خصومه المدنيين. فعلى سبيل المثال، عُد هو جينتاو سياسياً ضعيفاً جزئياً لأن مساره المهني لم يوفر له فرصاً لبناء روابط شخصية مع المؤسسة العسكرية. وعندما تولى الرئاسة، لم تكن له أية صلة بأعضاء اللجنة العسكرية المركزية، أعلى هيئة عسكرية في البلاد. في المقابل، وبفضل مزيج من التعيينات المواتية والحنكة السياسية، كان شي مرتبطاً عند توليه السلطة بأربعة من أصل 10 من أعضاء اللجنة، وهو ما منحه مساحة لإطلاق حملة تطهير واسعة ضد النخب المنافسة وإعادة ترتيب القيادة العسكرية. وفي أنماط الحكم الشخصاني على غرار ماو وشي، تضمن عمليات التطهير المستمرة عدم بروز مراكز قوى بديلة والحفاظ على ولاء الجيش. وتظهر التغييرات الأخيرة التي أجراها شي في اللجنة العسكرية المركزية وجيش التحرير الشعبي أنه لا يزال يمارس هذه اللعبة القديمة.
تداول الخلفاء
من المعضلات الجوهرية في مسألة الخلافة أن الخلفاء الأقوياء والأكفاء قد يشكلون تهديداً للزعيم نفسه. ولهذا يصبح موقع الخليفة المحتمل في الصين، خلال فترات الحكم الفردي، محفوفاً بالأخطار سياسياً. تاريخياً، طرح الحكام الأقوياء في الصين أسماء عدة كورثة محتملين قبل أن يستقروا على خيارهم النهائي. فعلى سبيل المثال، طرح ماو ليو شاو تشي ولين بياو كورثة محتملين ثم أزاحهما، ولم يقع خياره على هوا إلا حين بات تدهور صحته أمراً لا رجعة فيه. أما دينغ شياو بنغ، فبعد أن ترسخ في موقعه، اتبع مساراً مشابهاً، فأزاح مرشحين بارزين هما الأمينان العامان للحزب هو ياوبانغ وتشاو تسييانغ، قبل أن يستقر على جيانغ زيمين.
ويشير هذا كله إلى أن شي قد يواجه صعوبة في حسم أمره في شأن الخليفة. فمن ناحية، عليه أن يتيح للوريث تعلم كيفية تشغيل مفاتيح السلطة في بيروقراطيتي الحزب والجيش. لكنه، في الوقت نفسه، سيحرص على ألا يكتسب الوريث قوة مبكرة تجعله لاعباً مستقلاً قبل أوانه. وإذا ما تردد شي وتقلب بين مرشحين عدة، كما فعل ماو ودينغ، فقد يزعزع ذلك قبضة الحزب على السلطة ويخلق فرصاً لانقسامات داخل النخبة الحاكمة.
وقد كان ذلك جلياً في حركة الاحتجاج الطلابية عام 1989، التي انتهت بقمع دموي في ساحة تيانانمن. فقد اندلعت كرد فعل على وفاة هو ياو بانغ المفاجئة، الزعيم الليبرالي الذي عُد الوريث الأرجح لدينغ قبل أن يعزله دينغ وكبار قادة الحزب من منصب الأمين العام بدعوى تساهله في التعامل مع موجة احتجاجات طلابية سابقة. وقد فجرت وفاته، إثر أزمة قلبية خلال اجتماع للمكتب السياسي، غضب الطلاب الذين شعروا بأن مستقبلاً أكثر انفتاحاً وليبرالية بدأ يفلت من أيديهم. وقد وجدوا دعماً ضمنياً من المرشح الثاني المحتمل لخلافة دينغ، تشاو تسي يانغ، قبل أن يُقصيه دينغ ويضعه تحت الإقامة الجبرية. وفي خضم هذه الاضطرابات، وصل جيانغ زيمين بهدوء إلى بكين ليخلف تشاو، إذ رأت فيه النخبة الحزبية شخصية مقبولة أيديولوجياً من مختلف الأطراف، لكنها متشددة في قمع الاحتجاج.
اتجاه نحو الحرب؟
من غير المرجح أن تبقى دراما الصراع على الخلافة محصورة داخل حدود الصين، بل سترخي بظلالها على سياسة بكين الخارجية وعلاقاتها مع العالم. فشي حريص على إرثه، وإحساسه بضيق الوقت قد يؤثر في قراراته ويزيد من نزعة المخاطرة لديه، خصوصاً في ما يتعلق بتايوان. فقد أمر الجيش بالاستعداد لشن عملية ضد الجزيرة بحلول عام 2027. ومع أن التقارير العلنية لا تقدم مؤشرات حاسمة عن الشروط التي قد تدفعه لإعطاء الضوء الأخضر، ولا يوجد في الواقع موعد نهائي عام 2027 لتحقيق “إعادة التوحيد”، إلا أن من الواضح أن شي يرى في هذه القضية جزءاً من برنامجه لـ”النهضة الوطنية”. وإذا شعر بأن ساعة الخلافة تقترب، فقد يصبح أكثر ميلاً للمغامرة بخوض الحرب.
لكن في المقابل، لا إرث أسوأ من أن يصبح ذلك الزعيم الذي حاول توحيد تايوان وفشل. فعلى رغم التقدم الكبير الذي أحرزه الجيش الصيني خلال العقود الأخيرة، فإن نجاح الحصار أو الغزو ليس مضموناً. وحتى لو انتصر شي في ساحة المعركة، فإن الكلفة قد تكون باهظة: عزلة دولية للصين، واقتصاد منهك تحت وطأة العقوبات، وقوات أمنية مثقلة بمهمة مرهقة تتمثل في إبقاء تايوان المتمردة تحت السيطرة.
ومرة أخرى، قد يكون لجيش التحرير الشعبي دور حاسم. فمع شروع شي في تسليم السلطة، سيظل يراقب من كثب ليتأكد من أن القيادة العسكرية العليا تضم الخليط الصحيح من الموالين لخليفته المفضل، وأن الجيش لا يُظهر بوادر عصيان سياسي. وتخلق هذه الأجواء بيئة خصبة لتسييس التقييمات الاستخباراتية والعسكرية، فقد يتردد المرؤوسون في الإفصاح بصدق عن التكاليف الحقيقية لأي غزو، وقد تُشوَّه التقديرات الاستخباراتية، بينما يصوغ المحللون تقارير غامضة يمكن تأويلها على أنها منسجمة مع تفكير القائد – أياً يكن ذلك التفكير.
قد يكون شي أصبح بارعاً في “تصحيح” هذه الانحيازات ذهنياً حين يطالع تقارير الاستخبارات وتقديرات الحملات العسكرية. لكن معضلة الحصول على تقارير صريحة من الجهاز البيروقراطي ليست جديدة في الصين. فقد علق ماو ذات مرة بأنه يشترك مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في عدم ثقته بالدبلوماسيين، بينما تبادل رئيس الوزراء تشو إنلاي ومستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر النكات حول “ويلات البيروقراطية”. ومع ذلك يبقى السؤال: هل سيتمكن شي من البقاء متقدماً على تقييمات مستشاريه وهو يقترب من أعوامه الأخيرة؟ إن رفضه تعديل مساره في سياسة “صفر كوفيد” غير الشعبية، التي فجرت احتجاجات عام 2022، يوحي بأنه ربما لا يتلقى المعلومات الحاسمة. ومن المرجح أن يفتقر أي خليفة له إلى خبرة السياسة الخارجية التي تمكنه من معرفة من يستحق ثقته وبماذا يثق.
والأكثر إثارة للقلق هو أن اليد الخفية للجيش في السياسة الصينية جعلت من الحرب أداة سياسية مفيدة خلال فترات الخلافة السابقة. إذ تتيح الحرب فرصة لاستعراض سيطرة القائد الجديد على جيش التحرير الشعبي، وقد يسهم امتثال القيادة العسكرية العليا لأوامره في ردع أي منافس سياسي محتمل.
ويُقدّم الغزو الصيني القصير لفيتنام في فبراير (شباط) 1979 – آخر مرة خاض فيها جيش التحرير الشعبي حرباً شاملة – تذكيراً مروعاً بكيفية تلاقي دسائس الخلافة مع سوء التقدير في دفع القادة الصينيين إلى حمل السلاح. فقد تزامن التخطيط لذلك الغزو مع مناورة دينغ لإطاحة هوا. وربما كان من بين دوافع دينغ إلى تبني الحرب أنها وفرت له فرصة لتذكير الجميع بجذوره العسكرية العميقة. ومن هذه الزاوية، قد تكون المكاسب السياسية الداخلية أهم لديه من نتائج الحرب على أرض المعركة.
وفي الوقت نفسه، كانت عملية التقييم السابقة للحرب من بين الأسوأ في تاريخ الصين. فقد عانى كبار القادة صعوبة في استيعاب أهداف دينغ الإستراتيجية، وشككوا في قدرة جيش التحرير الشعبي المنهك على دفع هانوي إلى طاولة المفاوضات. لكن بما أن كثيرين كانوا يدركون أن دينغ يفضل الخيار العسكري، التزموا الصمت. فشل الغزو في تحقيق هدفه الإستراتيجي الأساس وهو فرض تغيير فوري في سياسة فيتنام تجاه الاتحاد السوفياتي وكمبوديا. والأسوأ أن صناع القرار في هانوي رأوا بوضوح، من خلال الأداء الباهت للجيش الصيني في ساحة المعركة، حجم التآكل الذي أحدثته الثورة الثقافية في قدراته، في نتيجة معاكسة تماماً لما أراد القادة الصينيون تحقيقه.
الوريث الغائب
في الصين، تدور لعبة الخلافة السياسية خلف الجدران الحمراء العالية لمقر الحزب الشيوعي في تشونغنانهاي، مما يجعل من الصعب على المراقبين الخارجيين معرفة ما ينبغي مراقبته أو توقعه. كذلك فإن شح المعلومات العامة عن سياسات الحزب يعني أن شي، ما دام في السلطة، سيظل عرضة لشائعات متواصلة عن كونه في ورطة سياسية. من ذلك مثلاً ما راج هذا الصيف عن اقتراب إزاحته جانباً على يد سلفه هو جينتاو ورئيس أركانه جانغ يوشيا. وغالباً ما يمكن استبعاد مثل هذه الأقاويل عن نهاية مبكرة لشي في المشهد السياسي. فمع أن احتمال إطاحة الزعيم الأعلى ليس معدوماً، فإنه يظل ضئيلاً للغاية. ومع ذلك، فإن مجرد تداول هذه الشائعات يحمل دلالات واضحة، إذ يعكس نظام حكم باتت فيه ديناميات الخلافة أكثر إلحاحاً.
وما دام يتمتع بصحة جيدة، فمن المرجح أن يبقى لولاية إضافية في الأقل، أي حتى عام 2032 أو بعده، وهو على الأرجح صاحب القرار الوحيد في مسألة اختيار خليفته. في السابق، أدى القادة المتقاعدون أدواراً مهمة في عمليات الخلافة، عبر هيئات شرَفية مثل “هيئة رئاسة الحزب”. لكن هذه المرة قد يغيب “شيوخ الحزب” عن المشهد. فالأمين العام الأسبق هو جينتاو، البالغ 82 سنة، يُعتقد أنه في صحة سيئة، إذ بدا عليه الارتباك في آخر ظهور علني له خلال مؤتمر الحزب عام 2022 وهو يُقاد خارج المنصة في مشهد مهين. كذلك فإن تدخل قادة آخرين لا يزالون على قيد الحياة يبدو غير مرجح: فبعضهم، مثل رئيس الوزراء الأسبق وين جيا باو، يفتقر إلى النفوذ، بينما تجاوز آخرون، مثل رئيس الوزراء المتقاعد تشو رونغجي، الـ90.
أما إذا توفي شي من دون أن يعين خليفة، فستغرق البلاد في ارتباك واسع. فبحسب دستور الحزب، يجب أن يُنتخب الزعيم الجديد في جلسة عامة للجنة المركزية التي تضم أكثر من 200 عضو. غير أن مجموعة أصغر من كبار القادة، بالتشاور مع متقاعدين وجنرالات، ستجتمع عادة لحسم النتيجة مسبقاً. وإذا حدثت وفاة مفاجئة لشي، فقد يبدو الخيار الطبيعي هو رئيس الوزراء لي تشيانغ، البالغ 66 سنة. لكن ذلك ليس مضموناً، إذ قد تطيحه شخصية مدنية تملك دعماً من الجيش والأجهزة الأمنية وعدد كافٍ من أعضاء المكتب السياسي.
وقد يكون السيناريو الأفضل أن يعين شي خلفاً يسمح له ببناء قاعدة نفوذ بهدوء في أعوامه الأخيرة. فبعد قمع احتجاجات تيانانمن، سلم دينغ في عام 1989 زمام الحزب والجيش إلى جيانغ زيمين بينما كان لا يزال فاعلاً على رغم تقدمه في السن. كان جيانغ وافداً جديداً إلى بكين وسياسات النخبة، ومع ضعف صلاته بالجيش، حافظ دينغ على نفوذه، واستغل أعوامه الأخيرة ليُرشد جيانغ ويحصنه من خصومه، بينما دفعه بقوة نحو الليبرالية الاقتصادية. وعلى النقيض، إذا اختار شي خليفة لكنه رفض أو عجز عن تمكينه من ترسيخ قاعدة قوة، فسيكون هذا الخليفة عرضة لاضطرابات في القيادة بعد رحيل شي، على غرار ما واجه هوا جيو فينج.
وللاقتراب من نموذج دينغ، يتعين على شي أن يختار شخصية أصغر سناً نسبياً، قادرة على حمل أجندته أعواماً طويلة. ويمكن أن يبدأ بتعيين هذا الشخص على رأس أمانة الحزب، وهو منصب يتيح فهماً دقيقاً لآليات عمل المكتب السياسي. وفي مرحلة لاحقة، قد يرفعه إلى منصب نائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية، ليمنحه خبرة عسكرية وسلطة فعلية. والغاية أن يكون الوريث جاهزاً لتولي المنصب الأعلى وهو في أواخر الخمسينيات أو مطلع الستينيات من عمره.
اللافت أن أياً من الأعضاء السبعة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي لا تنطبق عليه مواصفات الوريث المحتمل. فلي تشيانغ سيبلغ أواخر الستينيات في عام 2027 وسيدخل السبعينيات في 2032، وهو عمر أكبر بكثير من أعمار أسلافه حين تولوا المنصب الأعلى. أما تساي تشي، الذي يشغل موقعاً حاسماً بصفته رئيس أمانة اللجنة المركزية للحزب – وهو منصب تقليدي يُعد بمثابة خطوة تمهيدية نحو الوصول إلى القمة – فلا يصغر شي إلا بسنتين. وسيدخل دينغ شيويشيانغ عامه الـ65 في 2027، مما يجعله خياراً أكثر معقولية، لكنه لم يسبق أن أدار مقاطعة أو بلدية، وهو شرط شبه أساس لضمان كفاءة أي خليفة في الشؤون الإدارية. أما الأعضاء الثلاثة الباقون، لي شي ووانغ هونينغ وتشاو له جي، فهم أكبر سناً من أن يُطرحوا كمرشحين جديين.
ويقدم المكتب السياسي الأوسع بعض الأسماء الإضافية، لكن مع تحفظات كبيرة. فشن جينينغ، أمين الحزب في شنغهاي – المنصب الذي شغله كل من شي وجيانغ من قبل – يُعد من أصغر أعضاء المكتب سناً (61 سنة). غير أنه ليس عضواً في اللجنة الدائمة، ومن المرجح أن يضطر شي إلى ترقيته إليها مبكراً ليتعلم آليات الحكم، كما حصل مع شي نفسه حين صعد إلى اللجنة الدائمة قبل خمسة أعوام من توليه الأمانة العامة. وبحلول الوقت الذي يصبح فيه شن جاهزاً لتولي القيادة، سيكون أكبر سناً من أسلافه الثلاثة – جيانغ، وهو، وشي – عندما اعتلوا سدة الحكم.
ومن المرجح أن تتضح ملامح الورثة المحتملين خلال المؤتمر المقبل للحزب عام 2027، حين يُعلن عادة عن تغييرات في تركيبة اللجنة الدائمة. غير أن النظر إلى المشهد الحالي يوحي بأنه إذا قرر شي اختيار وريث وهو يضع نصب عينيه تسليم السلطة عام 2032، فسيتعين عليه إما أن يختار خليفة أكبر سناً من المعتاد، أو أن يفاجئ الجميع بخيار غير متوقع يفتقر إلى السيرة التقليدية المعتادة.
اختيار وريث متقدم في العمر سيعني أنه لن يتمكن من حمل رؤية شي طويلاً، مما قد يعمق حال عدم اليقين في البلاد. ولا شك أن شي سيحرص على تفادي تكرار التجربة السوفياتية في عقدها الأخير. فبعد وفاة ليونيد بريجنيف عام 1982، لم يمكث وريثاه المسنّان في الحكم سوى عام واحد لكل منهما قبل أن يتوفيا، مما مهد الطريق لصعود ميخائيل غورباتشوف الذي أشرف لاحقاً على انهيار النظام. وغالباً ما يشير شي إلى انهيار الاتحاد السوفياتي كعبرة يريد أن يجنب بلاده تكرارها.
لكن اختيار مرشح مفاجئ سيكون محفوفاً بالأخطار أيضاً، لأنه يعني تجاوز جميع الأعضاء الـ24 الحاليين في المكتب السياسي. وهو ما يوازي عملياً إقصاء جيل كامل من السياسيين عن فرصة القيادة، الأمر الذي قد يترك لطموحاتهم المحبطة آثاراً واضحة في المشهد السياسي أعواماً طويلة. وقد تفتح هذه التوترات الباب أمام بروز شخصية من خارج التوقعات، إما بأجندة إصلاحية على غرار ما فعل دينغ عام 1978، أو بأجندة أشد محافظة وقومية من تلك التي يتبناها شي نفسه.
تصحيح مسار؟
تشير هذه المعطيات جميعها إلى مناخ سياسي يزداد توتراً فيما تظل معضلة الخلافة تُخيم على الحزب. فكل عام يمضي من دون أن يحدد شي خليفة له ويبدأ بإعداده، تتزايد احتمالات مسارات فوضوية، مثل صعود خليفة ضعيف يقع ضحية صراع على السلطة. ومن هذه الزاوية، تشكّل الشائعات التي تتكرر دورياً حول زوال شي السياسي إشارات مقلقة، لا لأنها صحيحة، بل لأنها مؤشر إلى اضطرابات مقبلة.
على صنّاع السياسة في الولايات المتحدة أن يدركوا الأخطار الكامنة في تحدي الخلافة المقبل في الصين، لكن عليهم أيضاً تجنب إغراء استغلالها لتحقيق مكاسب جيوسياسية. فالتدخل في عملية الخلافة سيكون انتهاكاً لمبدأ السيادة، وقد يفاقم التوترات الداخلية بطرق يصعب التنبؤ بها. وتكشف خطابات داخلية أن القيادة، بما في ذلك شي نفسه، ما زالت ترى في احتجاجات الطلاب عام 1989 مؤامرة دبرتها “قوى غربية معادية” لإسقاط الحزب، ولا يزال هذا الارتياب يلقي بظلاله على العلاقات الصينية – الأميركية.
بدلاً من التدخل، يتعين على واشنطن أن تترك العملية تأخذ مجراها، مع مراقبتها من كثب. وعلى رغم أن تقديرات الحزب الجيوسياسية وقناعاته العقائدية تتجاوز شخص شي، ليس من المستبعد أن نشهد تصحيحاً للمسار في مرحلة ما بعده، مع بروز قائد أكثر اعتدالاً ورصانة – زعيم لا يتبنى قومية متشددة، وقادر على تفكيك الجدران التي شيدتها القيادة الحالية حول البلاد.
وفي الواقع، سبق للحزب أن صحح مساره عبر الخلافة. ففي الانتقال من اشتراكية ماو الراديكالية إلى إصلاحات دينغ الأكثر براغماتية، يكمن درس يحمل الأمل. وقد قال دينغ عبارته الشهيرة: “إن لم نقم بالإصلاح، فالحزب سيصل إلى طريق مسدود”. وربما يصل خليفة شي إلى الخلاصة نفسها.
تايلور جوست أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية في كلية واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون. وهو مؤلف كتاب “البيروقراطيات في الحرب: الأصول المؤسسية لسوء التقدير”.
دانييل سي. ماتينغلي أستاذ مشارك في العلوم السياسية بجامعة ييل. وهو مؤلف كتاب “فن السيطرة السياسية في الصين”.



