أقلام وأراء

د. إبراهيم نوار: إسرائيل تريد تحويل هزيمتها إلى نصر سياسي فلا تلقوا لها طوق النجاة

د. إبراهيم نوار 29-10-2025: إسرائيل تريد تحويل هزيمتها إلى نصر سياسي فلا تلقوا لها طوق النجاة

فشلت حرب الإبادة في تحقيق الأهداف التي حددها نتنياهو، استعادة المحتجزين بالقوة، إنهاء وجود حماس، احتلال قطاع غزة لمدة 50 عاما على الأقل، ودمجه في منظومة الهيمنة الخاضعة لإسرائيل. هذا الفشل، رغم كل الوحشية المستخدمة في حرب الإبادة، والأسلحة والذخائر الأمريكية، وحشد أكثر من 90 في المئة من القوة العسكرية الإسرائيلية لمواجهة حوالي 2.3 مليون فلسطيني محاصرين داخل حوالي 300 كم مربع، معهم 30 ألف مقاتل من حماس، محرومين جميعا من الماء والغذاء والكهرباء والدواء، يساوي هزيمة مدوية لمشروع الهيمنة الصهيونية على الشرق الأوسط، الذي كان يريد العبور من بوابة غزة واقتحام ما وراءها من فرص ثمينة في سوريا ولبنان والسعودية والسودان وليبيا، ما يمنحه القوة المادية والمعنوية واللوجستية لمحاصرة مصر وإضعافها وتحويلها إلى دولة لا حول لها ولا قوة، وبذلك يخلو الطريق لتحقيق الهيمنة تماما على الشرق الأوسط.

إن تثبيت وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب تماما في غزة، يجب أن يظل الأولوية الأساسية للدبلوماسية العربية والشروع في إقامة واقع جديد يحول دون استئناف حرب الإبادة. تحقيق ذلك يجب أن لا يتضمن أي تنازلات أو مقايضة، تفتح الطريق أمام الهيمنة الإسرائيلية. وفي هذا السياق يجب أن لا تحصل إسرائيل على جوائز مجانية بالتطبيع مع بلدان مثل سوريا والسعودية وإندونيسيا وكازاخستان وباكستان وغيرها من الدول، التي تحلم إسرائيل بالتطبيع معها، والانضمام إلى ما يسمى نادي «اتفاقيات إبراهيم».

الموقف السعودي

تلعب الدبلوماسية السعودية دورا محوريا في مرحلة ما بعد حرب غزة، فهي تستطيع تصويب مسار ودور السلطة الوطنية الفلسطينية، من خلال ما تملكه من قوة للضغط المالي والمعنوي على محمود عباس، وكذلك من خلال ما تملكه من أوراق في مجال تنسيق السياسات والمواقف الخارجية مع دول عربية مثل سوريا، وإسلامية مثل إندونيسيا، ما يمكنها من موازنة الضغوط الإسرائيلية على هذه الدول من أجل التطبيع. الأهم من ذلك أن الدبلوماسية السعودية أقامت حدودا واضحة بينها وبين احتمال الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، وهي الاتفاقيات التي نشأت برعاية إماراتية. ولا يقبل كبرياء الدبلوماسية السعودية، أن تنضم إلى اتفاق أعده لها غيرها. كما أنها لا تقبل بمبدأ «السلام مقابل السلام» الذي تقوم عليه تلك الاتفاقيات. ونحن نعلم أن الدبلوماسية السعودية كانت المحرك الرئيسي لمؤتمر الأمم المتحدة، بشأن الدولة الفلسطينية، وكانت تشجع موجة الاعتراف بالدولة وسط دول ظلت مترددة لفترة طويلة، منها دول تلعب دورا رئيسيا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. الموقف السعودي واضح إذن ولا لبس فيه، يؤكد أنه لا تطبيع مع إسرائيل إلا بعد بدء إجراءات فعلية لإقامة دولة فلسطينية على الأرض المحتلة، طبقا لقرارات الأمم المتحدة. هذا الموقف يتطلب تحويل أربعة شروط مسبقة إلى حقائق على الأرض في غزة والضفة الغربية، هذه الشروط المسبقة تتضمن إنهاء (1) الحرب (2) الحصار (3) الاحتلال (4) الاستيطان، وهي شروط تستجيب للإرادة الفلسطينية والدولية، وتضمن مصداقية البدء في عملية إقامة الدولة الفلسطينية وإحلال سلام دائم في المنطقة.

وأظن أن الموقف السعودي زاد تصلبا بعد الهجوم الإسرائيلي على قطر؛ فلن تمنح السعودية جائزة بتطبيع العلاقات مع دولة معتدية، تعلن بسلوكها أنها لا تحترم القانون الدولي والأعراف الإنسانية. ويتطلب تحويل الشروط الأربعة المذكورة إلى حقائق على الأرض، أقصى قدر ممكن من التنسيق والتعاون بين الدبلوماسية السعودية والمصرية والقطرية والفلسطينية والأمريكية، وضمان تعاون حركة حماس لقطع الطريق على محاولات نتنياهو ترتيب انقلاب على اتفاق شرم الشيخ، واستئناف الحرب. وكانت قد ثارت شكوك بشأن دور السعودية في التقريب بين سوريا وإسرائيل، لكن هذه الشكوك تبخرت مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا وتوغل قوات الاحتلال عشرات الكيلومترات في عمق الجنوب السوري، باتجاه ريف دمشق. وقد أدى ذلك على الأقل إلى تأجيل صياغة اتفاقية أمنية بين إسرائيل وسوريا في شهر سبتمبر الماضي، وفشل المحادثات التي جرت على هامش افتتاح اجتماعات الدورة 80 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. كذلك ثارت شكوك حول دور السعودية في تمويل صفقة الغاز الأذربيجاني إلى سوريا، نظرا لارتباط إسرائيل بتلك الصفقة، وسعيها إلى جذب أذربيجان لتصبح جزءا من نظام إقليمي للطاقة في منطقة شرق البحر المتوسط يمر من خلال إسرائيل. ومن الواضح أن إسرائيل لم تحقق من خلال اتفاقيات إبراهيم ما كانت تطمح إليه حتى الآن. ومن ثم فإن لعابها يسيل على صفقة جديدة للتطبيع مع دول عربية وإسلامية ذات اقتصاد كبير الحجم مثل، السعودية وإندونيسيا، لأنها من خلال صفقات من هذا النوع تضمن تعويض عقدة النقص التي تعاني منها باعتبارها دولة ضئيلة الحجم، صغيرة السوق.

تطوير مشروع للسلام

هناك اهتمام بموضوع إعادة البناء، يتجاوز كثيرا الاهتمام الواجب بخلق شروط السلام؛ ذلك أن إعادة الإعمار لن تتم في ظروف توتر يثير احتمال استئناف الحرب. المسألة ليست مجرد حشد تمويل يكفي للبدء في العمل، ولكن في إقامة وتثبيت الشروط الكفيلة بخلق شعور عام بالثقة والاطمئنان بين أهالي غزة والضفة الغربية، والقوى المؤيدة لهم في العالم أجمع، بأن السلام هذه المرة سيعيش على عكس ما حدث بعد اتفاقيات أوسلو (1993 – 1995). في هذا السياق تبدو أهمية وجود مشروع عربي للسلام في غزة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأرض المحتلة. ويخلط البعض بين المشروع، والخطاب السياسي العام أو الشعارات. وعلى الرغم من السنوات الطويلة منذ طرح أحمد بهاء الدين في عام 1968 فكرة إقامة دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية)، فإن الدبلوماسية العربية لم تطور مشروعا متكاملا لتحقيق ذلك، على أسس قانونية وسياسية واقتصادية وعسكرية. وعلى العكس من ذلك استطاع خبراء القانون الإسرائيليون تطوير مفاهيم لدعم الاستيطان على الأرض التي يمكن إقامة دولة فلسطينية عليها، والدفع بأن هذه الأرض «ليست أرضا محتلة»، لكنها «مناطق متنازع عليها» الأمر الذي يثير قدرا كبيرا من الالتباس داخل المؤسسات الدولية بشأن مشروعية إقامة الدولة الفلسطينية، وحدودها، وكيفية التعامل مع المستوطنات القائمة، وكيفية إدارة مقومات البنية الأساسية المشتركة، الاقتصادية واللوجستية على وجه الخصوص، وطبيعة علاقة الدولة الجديدة بالسكان غير الفلسطينيين المقيمين داخلها، والنظام القانوني والإداري، وطبيعة العلاقات الخارجية والإقليمية. لقد اكتفى الساسة والمثقفون وخبراء القانون العرب بترديد شعارات سياسية، اعتقدوا أن إيمانهم بها يكفي لوضعها موضع التطبيق. وأظن أن مناقشات بشأن تفاصيل مشروع إقامة الدولة الفلسطينية دارت على هامش جلسات افتتاح الدورة الجديدة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأخشى أن تذهب نتائجها مع الريح.

وتحاول إسرائيل في الوقت الحاضر الالتفاف على اتفاق شرم الشيخ بعد أن استردت جميع المحتجزين الأحياء، ولم يتبق لها في حوزة حماس غير عدد من جثامين المحتجزين الذين قتلتهم إسرائيل عَرَضا، خلال الفصل الأخير من حرب الإبادة. ومع أن نتنياهو يخضع لضغوط خارجية قوية، إلا أنه لا يزال ممسكا بزمام الأمور في الداخل، ولا يعنيه رحيل أقرب المقربين له مثل الوزير رون ديرمر، أو مستشار الأمن القومي هانيغبي، ومن قبلهم مدير جهاز الشاباك، وكل من وزير الدفاع ورئيس الأركان السابقين، ورغم الضغوط التي يواجهها بسبب المحاكمة في جرائم الفساد المتهم فيها. من الضروري وضع استراتيجية عربية لحرمان بنيامين نتنياهو سفاح غزة من تحقيق أي مكاسب سياسية بعدما ارتكبه من جرائم، وعدم تقديم طوق نجاة للحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفا والأشد نازية في التاريخ، دعوها تسقط ففي سقوطها إنقاذ لاتفاق شرم الشيخ، وبوابة أوسع لتحقيق سلام أكثر استقرارا في الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب والحصار والاحتلال. ومن الصعب، بل قد يكون من المستحيل إقامة سلام دائم مع وجود نتنياهو على رأس السلطة في إسرائيل. إن سفاح غزة يسعى للحصول على رخصة سياسية للبقاء في الحكم بعد الهزيمة المدوية في غزة. ومن الواجب حرمانه من تحقيق ذلك.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى