ترجمات أجنبية

نيويورك تايمز: تحديات هائلة أمام أوروبا

نيويورك تايمز 13-10-2025، أندرياس ريكويتز: تحديات هائلة أمام أوروبا

منذ عصر التنوير فصاعداً، قام مفهوم التقدم مُقام العقيدة العلمانية للغرب. ولقرون، اتخذت مجتمعاته من الاقتناع ركيزةً بأن المستقبل يجب أن يتفوق على الحاضر، تماماً كما تفوق الحاضر على الماضي. لم يكن هذا الإيمان المتفائل مجرد إيمان ثقافي أو مؤسسي فحسب، وإنما كان شاملاً: كل شيء كان سيتحسن. وحسب طريقة التفكير هذه، لم يكن هناك مجال للخسارة.

اليوم، تتعرض هذه العقيدة الحضارية لتهديد عميق. أصبحت الخسارة حالة سائدة وواسعة الانتشار في الحياة بأوروبا وأميركا. إنها تشكل الأفق الجمعي بشكل أكثر إلحاحاً مما كانت عليه في أي وقت منذ عام 1945، وتتسرب إلى صميم الحياة السياسية والفكرية واليومية. لم يعد السؤال يتعلق بما إذا كان يمكن تجنب الخسارة، وإنما بما إذا كانت المجتمعات التي يرتبط خيالها بـ«الأفضل» و«الأكثر» يمكن أن تتعلم كيف تتحمل «الأقل» و«الأسوأ». ومن شأن الإجابة عن هذا السؤال أن تُشكل مسار القرن الحادي والعشرين.

أكثر أشكال الخسارة دراماتيكية هي الخسارة البيئية. فارتفاع درجات الحرارة، والطقس المتطرف، واختفاء الموائل، ودمار مناطق بأكملها، يؤدي إلى تآكل شروط الحياة لكل من البشر والكائنات غير البشرية على حد سواء. علاوة على ذلك، فإن استراتيجيات التخفيف نفسها تُنذر بخسائر: ابتعاد عن نمط الحياة الموجه نحو الاستهلاك في القرن العشرين، الذي كان يُحتفى به ذات يوم علامةً مميزةً للتقدم الحديث.

لقد ثبت أن التفاؤل الذي ساد في منتصف القرن العشرين، عندما كان الحراك الصاعد يبدو وكأنه المسار الطبيعي للأشياء، كان استثناءً وليس قاعدةً. اتضح أنه كان مجرد فترة تاريخية عابرة. لقد أسفر تدهور التصنيع والمنافسة العالمية إلى تفتيت المجتمعات إلى فائزين وخاسرين، مع تعرض قطاعات كبيرة من الطبقة المتوسطة لتآكل أمنها الاقتصادي.

في الأثناء ذاتها، تحوّلت أوروبا إلى قارة آخذة في الشيخوخة. أدت التطورات الديموغرافية إلى دخول حصة متزايدة باستمرار من السكان لسن التقاعد، بينما تواصل نسبة الفئات العمرية الأصغر سناً في الانكماش. وقد أصبحت بعض المناطق الريفية، التي تعاني من انخفاض حاد في عدد السكان، معاقل للمسنين.

في جميع أنحاء أوروبا وأميركا، ضَعُفَت البنى التحتية العامة. فقد تعرضت أنظمة التعليم في أميركا، والخدمة الصحية في بريطانيا، وشبكات النقل في ألمانيا جميعها لضغوط، مما يغذي الشكوك حول قدرة الديمقراطية الليبرالية على الاستمرار. كما أن نقص المساكن وديناميكيات الأسعار الهائلة، تسبب انعداماً حاداً في الأمان.

ثم هناك الانتكاسات في الجغرافيا السياسية. لقد انهار التوقع الذي ساد بعد الحرب الباردة بأن الديمقراطية الليبرالية والعولمة ستتقدمان دون تحدٍ. وتشير حرب روسيا في أوكرانيا، وتراجع المؤسسات متعددة الأطراف، كلها إلى تآكل نظام ليبرالي كان يُعتقد ذات يوم أنه لا رجعة فيه. يلوح في الأفق شعورٌ بـ«الانعكاس التاريخي»: فبدلاً من استمرار الديمقراطية، هناك عودة للتنافس والعنف.

بالطبع، الخسارة ليست جديدةً على العصر الحديث. ومع ذلك، فهي تتعارض مع الروحانية الحديثة التي تفترض الديناميكية والتحسن. يميل الدين العلماني الحديث المتمثل في التقدم إلى نبذ مشاعر الخسارة. وتفترض العلوم والتكنولوجيا والرأسمالية جميعها الابتكار والنمو المستمرين؛ وتَعِدُ السياسة الليبرالية برفاهية أكبر على الدوام، وتُبنى حياة الطبقة المتوسطة على توقعات ارتفاع مستويات المعيشة وتوسيع نطاق تحقيق الذات. إن المثل الأعلى للمجتمع الحديث هو التحرر من الخسارة. هذا الإنكار هو الكذبة الأساسية للحداثة الغربية.

على هذه الخلفية، يصبح صعود الشعبوية اليمينية منطقياً. تروق السياسات الشعبوية، سواءً في أوروبا أو أميركا، لمخاوف التدهور وتَعِدُ بالاستعادة: «استرداد السيطرة» أو «جعل أميركا عظيمة مجدداً». توجه الشعبوية الغضب تجاه ما اختفى، لكنها لا تقدم سوى أوهام التعافي. يصبح السؤال الحاسم إذن: كيف نتعامل مع الخسارة؟ وهل هناك بديل لكل من السياسات الشعبوية والإيمان الواهم بالتقدم؟

إحدى الإجابات هو سياسة المرونة. تنطلق هذه الاستراتيجية من الافتراض أنه بينما لا يمكن تجنب الأحداث السلبية، فإن الحماية النسبية ممكنة. الهدف هو تقوية المجتمعات حتى تصبح أقل عرضةً للخطر؛ لتعزيز النظم الصحية، وضمان الأمن العالمي. وهناك استراتيجية ثانية تتمثل في إعادة تقييم الخسارة «مكسباً محتملاً».

الاستراتيجية الثالثة تتعلق بالعلاقة بين الفائزين والخاسرين في المجتمعات الغربية. إذا تراكمت الخسائر الاقتصادية والبيئية بصفة أساسية بين شرائح معينة – الفقراء، والأقل تعليماً، والفئات المهمشة – بينما ظل الآخرون بمنأى عن ذلك، تظهر مشكلات عميقة.

ومع ذلك، فإن المرونة، وإعادة التعريف، وإعادة التوزيع لا يمكنها أن تلغي الخسارة تماماً. لقد ولى عصر الحداثة الصناعية ومجتمع الطبقة الوسطى المتجانس في الخمسينات والستينات إلى الأبد.

لذا، يجب أن تكون هناك استراتيجية أخيرة: الاعتراف والاندماج. استناداً إلى العلاج النفسي، يصر هذا النهج على أنه لا ينبغي إنكار الخسارة ولا جعلها مطلقة.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى