أقلام وأراء

مروان إميل طوباسي: ما بعد غزة، مشروع السيطرة ومأزق الوعي الوطني

مروان إميل طوباسي 11-101-2025: ما بعد غزة، مشروع السيطرة ومأزق الوعي الوطني

رغم ما يعتقد به ويروجه البعض عن تغير في الموقف الأميركي تجاه إسرائيل ، فإن جوهر السياسة الأميركية في المنطقة لم يتبدل ، بل يُعاد تموضعه بما يخدم استمرار الهيمنة الأميركية وإعادة صياغة البنية الإقليمية دون المساس بالدور الوظيفي لإسرائيل . فادارة ترامب الحالية في واشنطن ، وإن كانت تحاول التخفيف من حدة الانتقادات الدولية التي تواجهها نتيجة الإبادة الجماعية في غزة ووعي شعوب العالم تجاهها ، إلا أنها في الجوهر لا تسعى إلى إنهاء الأحتلال أو تحقيق تسوية سياسية عادلة تقوم على اساس حق تقرير المصير لشعبنا الفلسطيني ، بقدر ما تعمل على إعادة إنتاج إدارة الصراع بصياغات جديدة تحفظ لإسرائيل تفوقها بغض النظر عن من يحكمها وتبقي على الواقع الأستعماري القائم بواجهات وعناوين مختلفة.

في هذا السياق ، وامتدادا لخطة ترامب حول غزة التي ستدخل مرحلتها الثانية مفخخة ، رغم الاهمية الإنسانية المطلقة بوقف الابادة والتهجير ، في حال لم ينقلب عليها نتنياهو او ترامب نفسه ، فمن المرجح أن تطرح الولايات المتحدة مشروعا سياسيا أقصى ما يمكن أن يقدمه هو شكل دولة فلسطينية ممسوخة على شكل قطعة الجبنة السويسرية والمعازل ، خالية من مضمون السيادة الوطنية ، ومنزوعة من أدوات السلطة الحقيقية ومن الحدود الواردة في القرارات الأممية بما قبل ٤ حزيران ١٩٦٧ وعاصمتها القدس ، ويبقي فيها على واقع تهويد القدس والاغوار والتجمعات الأستيطانية “الكبرى” والسيطرة على الحدود والموارد في باطن الأرض والمياه ، اضافة الى تفكيك لواقع التراث الكفاحي والتمثيلي لمنظمة التحرير وبما تحتضنه من فصائل العمل الوطني وبالمقدمة منها حركة “فتح” بمفهومها المفترض كحركة تحرر وطني . حيث لا يختلف هذا جوهرياً عن ما ورد في رؤية ترامب الأولى ضمن ما عُرف “بصفقة القرن”، وإنما بثوب مختلف يعتمد خطاب “الاستقرار والتنمية” بدلاً من خطاب “السلام”، ويدمج البعد الاقتصادي والإنساني كغطاء بأشكال تُسمى “حلول سياسية” لتصفية الحقوق السياسية الوطنية لشعبنا الفلسطيني ، من خلال المراهنة ايضا وفق ذلك على انخراط دول عربية وإسلامية جديدة مسار التطبيع الإبراهيمي .

هذه الرؤية تنطلق من الفهم الأميركي لمفهوم “الدولة” ككيان إداري–أمني وظيفي يخدم ترتيبات السيطرة الإقليمية ، بعيدا عن جوهر مفهوم الدولة الوطنية المستقلة في القانون الدولي القائم على وحدة الأرض والسكان والسيادة والحرية الوطنية . فالدولة ، في المنظور الأميركي هنا ، ليست أداة للتحرر بل وسيلة للضبط والتحكم ، تُقاس قيمتها بمدى اندماجها في منظومة المصالح الأميركية ، لا بمدى انتمائها إلى المصالح الوطنية لشعبها ومنظومة الشرعية الدولية وفق ما هو حاصل بتجارب مختلفة حول العالم وفق السياسات الأمريكية الوجه مختلفة حتى اليوم واخرها المحاولات الجارية بحق فنزويلا كمثال لا على سبيل الحصر .

وفي ظل هذا التوجه ، يمكن ملاحظة تقاطعات وظيفية بين المشروع الأميركي وبعض التيارات الإسلاموية السياسية او البيروقراطية المحلية الوطنية ذات النفوذ الاقتصادي والأجتماعي والمالي وغيره ، كما كانت محاولات سابقة جرت خلال فترة الأحتلال المباشر مثل مشروع الكيان الفلسطيني او روابط القرى وغيرها .

الأولى المرتبط جزء منها بالحركة العالمية للاخوان المسلمين تُستخدم كقوى عابرة للحدود قادرة على اختراق المجتمعات المحلية وإعادة إنتاج شرعيات جديدة تتناسب مع نموذج “الدولة المرنة” الخاضعة للنفوذ الخارجي . فهذه التيارات ، التي لا تؤمن أصلاً بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة ، ترى في هذا الانخراط فرصة لاستعادة حضورها عبر خطاب ديني–أخلاقي يتجنب مواجهة جوهر السيطرة الإستعمارية ، ويوفر لها موقعاً سياسيا بديلاً عن حركات التحرر الوطني او الأجتماعي .

بهذا المعنى ، تتحول بعض القوى الإقليمية التي تحتضن هذا الفكر إلى أذرعٍ مكملة للمشروع الأميركي– الإسرائيلي في إعادة صياغة المنطقة مثل قطر وتركيا . فإحداها تلعب دور الوسيط والمموّل والغطاء الإعلامي تحت شعارات إنسانية وتنموية ، بينما تقدم الأخرى النموذج السياسي الذي يروّج لمفهوم “الإسلام السياسي المعتدل” المتكيّف مع النظام الدولي . غير أن الولايات المتحدة ، في المقابل ، لا تتردد في التخلص من هذه الحركات أو تحجيم أدوارها متى انتهت وظيفتها ، كما حدث في تجارب مختلفة حول العالم ، حين تحولت تلك القوى إلى عبئ على مشروع إعادة الهيكلة الإقليمي .

وفي داخل بعض القوى الفلسطينية ذات المرجعية الإسلامية ، يبرز صراع يعكس هذا التناقض بين اتجاهين مختلفين في الرؤية والموقع ، أحدهما يميل إلى البراغماتية والانخراط في الترتيبات الإقليمية عبر الوساطات الخارجية وإدارة الواقع القائم ، والآخر يحمل رؤية وطنية مقاومة ذات بعدٍ تحرري ، تسعى إلى ربط المشروع الفلسطيني بجوهره الوطني الجامع ورفض تحويله إلى كيانٍ قابل للاحتواء ضمن هندسة ما بعد الحرب . فاستهداف رموز هذا الاتجاه المقاوم لم يكن مجرد عمل أمني ، بل محاولة لضرب البعد الوطني داخل الحركة وإبقاء غزة ضمن معادلة “الإدارة الانتقالية” التي يجري إعدادها بإشراف مجلس السلام الذي يرأسه ترامب وتنفذه مؤسسات مثل GITA في إطار السلطة الانتقالية الدولية التي سوف تفوض نفسها بكل الصلاحيات دون حق اعتراض جهات محلية او دون مشاركة منظمة التحرير صاحبة الولاية الجغرافية والسياسية وفق الشرعية الدولية او حتى وفق أتفاق أوسلو الذي رعته وقدمت ضماناته أمريكيا وتنكرت له ، والقوة الأمنية متعددة الجنسيات التي بدات طلائعها العسكرية الامريكة تصل الى اسرائيل اليوم ، تلك الهيئات ستكون برئاسة تنفيذية لطوني بلير عراب وغُراب حرب العراق وغيرها من المآسي .

وفي الحالة الثانية ، لا يمكن تجاهل قوى التيار البيروقراطي او كما تسمى بمفاهيم الاقتصاد السياسي اليوم “الاوليغارشيا” داخل بعض الأوساط الوطنية ، الذي سعى وما زال إلى تفريغ الحركة الوطنية من مضمونها التحرري وتحويلها إلى إدارةٍ بيروقراطية تدافع عن مواقعها داخل منظومة النفوذ المحلي ، ما جعلها موضوعيا جزءً من بنية السيطرة التي يُراد إعادة إنتاجها امريكيا تحت عناوين “الإصلاح” و”الحوكمة” و”الأستقرار”.

إن هذا التلاقي بين التيارات الإسلاموية الوظيفية والبنى البيروقراطية المحلية على المستوى العربي والاقليمي لا يمثل تحالفا عقائدياً ، بل يمكن ان يكون تلاقيا وظيفياً منفصلا غير متعاون وبادوار واهداف مختلفة ، لكن في جوهره سيؤدي إلى تجاوز المشروع الوطني وتفكيك فكرة الدولة الوطنية العربية ذات السيادة واستبدالها بكيانات هشة قابلة للضبط من الخارج ومفرغة من مضمونها التحرري الوطني والسيادي ، بحيث تبقى إسرائيل محور التوازن وضمانة استمرار النفوذ الأميركي في المنطقة ، وهو ما بدأت محاولته مع ما سمي بالربيع العربي وفق الخطة الأمريكية آنذاك وما تبع ذلك باساليب مختلفة .

وما يجري اليوم في غزة وما تحاول ان تمرره الولايات المتحدة بالضفة الغربية ، ليس معزولاً عن هذا المسار ، بل يشكل المرحلة الأكثر قسوة ووضوحا في مشروع إعادة ترتيب الإقليم بعد التجربة السورية التي كانت المختبر لذلك ، وقبلها كانت العراق وليبيا . ففي سوريا، تم استخدام الحركات الإسلاموية المسلحة كأدوات لتفكيك الدولة الوطنية وإعادة رسم حدود النفوذ الإقليمي بين القوى الكبرى التي استفادت من التدمير ومن ثم اعادة البناء والإعمار عبر شركاتها العابرة للقارات وبتعاون أدوات محلية ذات نفوذ ، تماما كما يُراد اليوم لغزة أن تكون بوابة لإعادة إنتاج كيان فلسطيني هش يمكن امتداده الى الضفة اذا لم يتم تدارك ذلك وطنيا ، يخدم الترتيبات الأمنية والاقتصادية الجديدة في الشرق الأوسط التي تسعى لها الولايات المتحدة بهيمنتها عبر مصالح الإستخدام الأسرائيلي وبعض الفتات لتلك القوى .

لقد غيرت كارثة غزة وجه الصراع، وأظهرت حدود المشروع الغربي الإستعماري الذي يواصل تجاهل جذور الأحتلال الإسرائيلي وطبيعته الإستعمارية ، ومحاولاته المستمرة لإدامة التفوق الإسرائيلي عبر مشاريع “سلام اقتصادي” أو “إدارة إنسانية” لا تمس جوهر المسألة الوطنية التحررية الفلسطينية .

إن المأزق الحقيقي الذي يواجه المشروع الوطني التحرري الفلسطيني اليوم لا يكمن في موازين القوى وحدها، بل في مأزق الوعي ذاته . فقد جرى تفكيك مفهوم التحرر الوطني ليُختزل في إدارة للواقع أو تحسين لشروط المعاناة تحت شعارات الواقعية السياسية احيانا او البراغماتية المفرغة من مضمونها السياسي احيانا اخرى ، وتحوّل الأنقسام الاسود وتغييب الديمقراطية الانتخابية وتعطيل التوافق الوطني الممكن إلى أداة لإعادة إنتاج التبعية للاشتراطات والاجندات الإقليمية ، بدل أن يكون لحظة نقدية تتوجب وفقها المراجعة الوطنية الواسعة وتعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني في حالتنا الراهنة وفق كافة المتغيرات الدولية والإقليمية .

إنّ الخطر في المشروع الأميركي ليس فقط في هندسة الجغرافيا ، بل في هندسة العقول ، حين يُراد لنا أن نقبل بالقيود بوصفها استقراراً ، وبالهيمنة بوصفها شراكة . لذلك فإن معركة الوعي اليوم هي جوهر معركة التحرر ، إذ لا يمكن بناء مشروع وطني مقاوم ما لم يتحرر العقل من منطق الوكالة والأرتهان ، ويستعيد الفلسطيني وعيه بدوره كصاحب حق لا كمتلقي للحلول المفروضة نتيجة اخطاء التأخير في عملية الوحدة الواسعة والأصلاح المفترض ان تقوم على اساس القرار الوطني المستقل في مؤسسات منظمة التحرير كممثل شرعي او بمؤسسات السلطة والتي كان من المفترض ان تتحول منذ زمن الى دولة تحت الأحتلال وفق القانون الدولي والقرارات الأممية واعترافات العالم بها وتعاظم التضامن الشعبي الدولي غير المسبوق وصمود شعبنا امام انفضاح حقيقة المشروع الصهيوني الإحلالي ، اضافة الى التخلص من سلبيات مظاهر الفساد .

فالوعي الوطني هو الشرط الأول للحرية ، كما أن الوحدة ليست شعاراً تنظيميا ، بل فعل تحرري متجدد يستعيد المعنى الحقيقي لفلسطين ، فكرةً ومصيراً وهويةً وطنية وإنسانيةً تحررية جامعة ، فهل نعي ضرورات ذلك بما تبقى لنا من وقت قبل أن يجرفنا التيار ؟

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى