أقلام وأراء

رفيق خوري: عودة الإمبرياليات بصور مختلفة

رفيق خوري 4-10-2025: عودة الإمبرياليات بصور مختلفة

كلهم إمبرياليون. ولا فرق بين إمبريالي وآخر، مهما تنوعت الصور. ولا معنى للسجال الدائر بين قوى في “الجنوب العالمي” حول شيء غير موجود عملياً هو التمييز بين إمبرياليات “جيدة” وإمبرياليات “سيئة”. أما لعب بلدان متوسطة وصغيرة بين الإمبريالات، فإنه امتياز لم يكن ممكناً في الماضي. وأما السباق بين الإمبرياليات على النفوذ والأسواق والمرافق، فإنه استمرار للسباق القديم بوسائل جديدة.

المشهد ليس بسيطاً كما يبدو. إمبرياليات القرن الـ19 وما قبله انتهت خلال القرن الـ20، وعادت في القرن الـ21، أو أقله عادت خلال هذا القرن إلى سياسات القرن الـ19. بعضها عاد بالقوة العسكرية والطبعة القديمة نفسها. وبعضها الآخر عاد بصورة جديدة يستخدم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والقوة المالية.

قبل أعوام من رحيله كتب المفكر المصري اليساري سمير أمين مقالة عن “الإمبريالية الجماعية” عبر أميركا والاتحاد الأوروبي واليابان كبديل من الإمبرياليات الوطنية في كل من أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا واليابان، وتحدث عن “الإنتاج المعولم” حيث كل شيء “صنع في العالم” لا في أي بلد، لأن الصناعة تعتمد على أجزاء ومواد من بلدان عدة، و”الأوليغارشية الاقتصادية الحاكمة تصطف مع الاحتكارات المهيمنة في ثالوث الإمبريالية الجماعية”.

وأخيراً أصدر آلاسدير روبرتس كتاباً تحت عنوان “دول عظمى: إمبراطوريات القرن الـ21”. وهو اعتبر أن الدول العظمى الحديثة أربع هي “الصين، والهند، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي” من دون أية إشارة إلى روسيا. ورأى أنه بحلول عام 2050 سيكون 40 في المئة من سكان العالم في تلك الكيانات الأربعة. ومع أنه أوحى أن هذه الكيانات يمكن “ألا تكون إمبراطوريات، فإن عليها مسؤوليات إمبراطورية، وليس في التاريخ أنظمة حملت هذا القدر من الأعباء الثقيلة”.

إذا أخذنا بما يقوله الرئيس فلاديمير بوتين من أنه ليس لبلاده “طموحات إمبريالية”، فإن السؤال هو ماذا يفعل 700 ألف جندي روسي في أوكرانيا؟ وإذا كان الرئيس الصيني شي جينبينغ يضع أمام بلاده وروسيا مهمة “توحيد بلدان الجنوب العالمي”، فماذا نسمي هذه المهمة؟ هل هي أقل من تزعم إمبرياليتين للجنوب العالمي في مواجهة إمبرياليتين أميركية وأوروبية؟ ومن الصعب قطع الشك باليقين حول سؤال هو هل تجاوز البرتغاليون والإسبان والهولنديون والبلجيكيون الحنين إلى أيامهم الإمبراطورية؟ لكن من السهل القول إن البريطانيين والفرنسيين واليابانيين والألمان لا يزالون عاجزين عن التكيف مع غياب الإمبراطوريات. أما الروس والصينيون والأميركيون، فإنهم يمارسون الإمبريالية علناً.

روسيا التي احتلت أجزاء من جورجيا وشبه جزيرة القرم وأربع مناطق من أوكرانيا تتحدث عن “مهمة مقدسة” أمامها هي تحقيق مشروع العالم الأوراسي بقيادة روسيا. وهي “من دون أوكرانيا تبطل أن تكون إمبراطورية” كما كتب البروفيسور زبغنينف بريجنسكي مستشار الأمن القومي أيام الرئيس جيمي كارتر. والأوراسية التي أسسها الكونت نيقولاي تروتسكوي وينظر إليها اليوم ألكسندر دوغين الذي يقال إنه ملهم بوتين، هي مشروع جيوسياسي وأيديولوجي، إذ “تقف أربع حضارات برية، صينية وروسية وهندية وإيرانية في صراع أبدي مع ثلاث حضارات بحرية أرستقراطية وأطلسية هي بريطانيا وفرنسا قديماً وأميركا اليوم”.

والصين تمارس طموحها الإمبريالي عبر مشروع “الحزام والطريق”. وهي عقدت حتى الآن اتفاقات مع أكثر من 150 دولة بموجب هذا المشروع، الذي يبدو التركيز فيه على البنية التحتية. وأبسط مثال على ذلك هو أن الصين باتت تعمل في مجموعة كبيرة من المرافئ في أفريقيا وآسيا، وأبرزها ميناء “كايو” في أنغولا، و”هامبانتونا” في سريلانكا، و”بانا” في غينيا الاستوائية، و”جوادر” في باكستان، و”كريبي” في الكاميرون، و”ريام” في كامبوديا، و”لوغانفيل” في جزيرة إسبيرتيو في المحيط الهادئ، و”ناكالا” في موزمبيق، و”نواكشوط” في مورتيانيا.

أما أميركا فإنها تمارس إمبريالية مزدوجة، لديها 800 قاعدة عسكرية داخل بلدان عدة في العالم، مع هيمنة اقتصادية ومالية بالدولار. وأما الاتحاد الأوروبي، فإنه “إمبراطورية ما بعد الإمبراطورية” بحسب أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة هارفرد تيموتي غارتن آش. كيف؟ هي “إمبراطورية أوروبية لا تهيمن عليها قومية واحدة بل تدار بالقانون، إمبراطورية ليبرالية وسلطوية في آن”، ولا سيما بعد محاولة بوتين استعادة الإمبراطورية الروسية باحتلال أوكرانيا.

لا بل إن غارتن آش يرى “أوروبا في حاجة إلى خلق إمبراطورية ليبرالية للوقوف ضد أنواع جديدة من الإمبراطوريات، كما إلى شراكة استراتيجية مع إمبراطورية أميركية لمنع عودة إمبراطورية روسية هابطة وكيج إمبراطورية صينية”. تماماً عكس ما تخطط له الصين وروسيا في إطار “شراكة بلا حدود”. أما أميركا، فإنها “إمبراطورية بالدعوة عبر الناتو” كما يقول المؤرخ غيرلوند سناد. وأما المؤرخ في جامعة ييل تيموتي سنايدر، فإنه يسجل في كتاب “الطريق إلى اللاحرية” أن الصراع بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في ظل بوتين هو خيار “اندماج أو إمبراطورية”، لكن الاندماج هو عملية متطورة لا نهاية دولة.

وما بين شعار شي “الحلم الصيني”، وشعار رؤساء أميركا “مدينة على الكل” و”دولة لا يستغنى عنها”، وشعار بوتين المستعار من وزير الخارجية القيصري ألكسندر غورتشاكوف “روسيا لا تغضب روسيا تتأهب”، وشعار ناريندرا مودي في الهند “فيشاغورو” أي “معلم العالم”، فإن في العالم دولاً صغيرة تلعب أدواراً مهمة بين الكبار. و”الدول العظمى كيانات هجينة تحكم أرضاً واسعة وشعوباً مختلفة ولديها أشياء من الإمبراطورية وأشياء من الدولة”، بحسب كتاب “إمبراطوريات القرن الـ21”.

ومن الصعب الأخذ بقول روبرت كاغان من مؤسسة “بروكينغز” أن “الهيمنة تختلف عن الإمبريالية، لأن الأولى هي إجبار الآخرين على الخضوع للنفوذ، والثانية هي شرط أو حال أكثر مما هي هدف أو غاية”. فالهيمنة هي مجرد صورة ناعمة للإمبريالية. والإمبريالية قاسية على الشعوب، مهما تكن صورتها. أما “الدولة العالمية”، فإنها حلم فلاسفة اصطدم بواقع سياسي صلب، وأما مجتمع “من كل بحسب قدرته ولكل بحسب حاجته”، فإنه لم يولد بعد 70 عاماً من الحكم باسم الماركسية، بل ولد عكسه في نظام شمولي انهار في النهاية.

المشكلة أن ما سماه روبرت تاكر “إغراء الإمبريالية” لا يزال أقوى من إغراء الحرية. والإمبريالية، كما قال المفكر الروسي ألكسندر ياكوفلوف، “تنمو بطريقة مدهشة، لكنها مملوءة بالتناقضات، بحيث يعجز 70 كارل ماركس عن تحليلها”.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى