د. سنية الحسيني: مزيد من الاعترافات بفلسطين وبارقة أمل تلمع

د. سنية الحسيني 25-9-2025: مزيد من الاعترافات بفلسطين وبارقة أمل تلمع
ليست بالجديدة، تلك الاعترافات بفلسطين التي تتوالى تباعاً، لكنها استثنائية عما سبقها، لعل بصمتها الغربية وتوقيتها الحساس يضفي عليها ذلك. يزعم البعض أنها رمزية، وهي ليست كذلك، فهي ذات أثر سياسي ودبلوماسي وقانوني. ويعتقد آخرون أنها ليست كافية، لأنها لم توقف الحرب المدمرة على غزة، لكن حرب غزة جاءت بها. فالدماء التي تسيل في غزة، وتضحيات الغزيين هي من حرك العالم، وفرض تحركه. فممارسات حكومة نتنياهو في غزة والضفة، خصوصاً الحرب على غزة أججت مشاعر العالم، وما الاعترافات اليوم إلا تلبية من قبل الحكومات لرغبة شعوبها، أو رسالة شديدة اللهجة من حكومات تلك الدول لنتنياهو وحلفه الذي تجاوز كل الخطوط الحمر. ولكن قد تكون الاعترافات اليوم بداية مهمة لمرحلة جديدة قد تشهدها القضية الفلسطينية، ليس بسبب الاعترافات بحد ذاتها، وإنما بسبب طبيعة تلك الاعترافات، وما يعكسه مضمونها وتوقيتها.
تسيطر أخبار الاعترافات المتوالية بفلسطين من نيويورك على اهتمام العالم، الذي يتتبع ذلك باهتمام بالغ. فقد اعترفت دول غربية مركزية بفلسطين، وبات نصف القارة الأوروبية يعترف بها اليوم، بعد أن كانت دول القارة الأكثر تجنباً لذلك. ويفتح ذلك المجال لمزيد من الاعترافات القادمة، فقد اعتبرت اليابان على سبيل المثال أن اعترافها بفلسطين مسألة وقت. وهناك حوالي ٣٥ دولة فقط لم تعترف بفلسطين بعد، وهي مسألة وقت. بدأت الاعترافات بفلسطين تتوالى عندما أعلن عن قيام الدولة من الجزائر في العام ١٩٨٨، فأكثر من نصف العالم اعترف بفلسطين قبل توقيع اتفاق أوسلو. وتصاعدت الاعترافات ببطء، لكنها شكلت نقلة نوعية، بعد الحرب على غزة في العام ٢٠٠٩، فاعترفت معظم دول القارة اللاتينية بفلسطين بعد ذلك، تماماً كما شكلت حرب غزة، وسياسة حكومة نتنياهو اليمينية سبباً مباشراً لهذه الاعترافات الأخيرة. فقد اعترف بفلسطين بعد أحداث السابع من أكتوبر أكثر من عشرين دولة، الكثير منهم من القارة الأوروبية. واليوم، يعترف بفلسطين أكثر من ٨١ في المائة من دول العالم، وتقر الأمم المتحدة بوضعها القانوني كدولة. كما أن فلسطين عضو كامل العضوية في الجامعة العربية، ويعترف بها الاتحاد الأفريقي. ويعترف بفلسطين ثلاثة دول من السبعة الكبار، وأربعة دول من الخماسي الدائم العضوية في الأمم المتحدة.
إلا أن اعتراف دولة مثل المملكة المتحدة وفرنسا وكندا، ودول غربية أخرى، يعد ذا أهمية سياسية كبيرة. تعتبر تلك الدول حليفة قوية لإسرائيل، وشريكة إقتصادية وعسكرية قوية لها، وطالما تبنت الرواية الصهيونية الإسرائيلية عملياً، وتوافقت سياساتها مع سياسة الولايات المتحدة، عند تعاملها مع القضية الفلسطينية. اليوم، تبدو تلك المواقف الآتية من الغرب جديدة، فهي تعترف بفلسطين، دون قيد أو شرط يرتبط بنتائج المفاوضات ع إسرائيل، فقد ربطت ذلك في السابق بتلك النتائج. والسؤال المهم، هل هذه الاعترافات الغربية بفلسطين كافية، في ظل حرب الإبادة المتواصلة دون توقف في غزة، وتعفي هذا الدول من المسؤولية الأخلاقية والقانونية لوقف هذه الحرب؟ والإجابة بالطبع لا. ربطت كلمات الوفود مؤخراً في نيويورك، خصوصاً تلك التي اعترفت بفلسطين بين الاعتراف وبين الحرب في غزة، وبعضها ربط أيضا بينها وبين ممارسات الاحتلال في الضفة الغربية. فالاعترافات لن توقف الحرب في غزة، ولن تمنع إراقة مزيد من الدماء وسقوط كثير من الأبرياء في غزة، وهذا هو الدور الحقيقي المطلوب الآن من جميع دول العالم، وقف تبجح وتطاول إسرائيل، ليس فقط من خلال الضغط عليها بالعقوبات لوقف الحرب في غزة، بل وأيضاً الانسحاب من الأراضي المحتلة، هذا هو دور العالم الحر اليوم، وقد بدأت بالفعل دول بفرض عقوبات، مثل إسبانيا، التي اتخذت قراراً بوقف إرسال السلاح لإسرائيل، إلا أن الأغلبية لا تزال تهدد دون تنفيذ.
تعد تلك المواقف الغربية الجديدة، من خلال الاعتراف بفلسطين، ترجمة عملية لحق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو تطور سياسي مهم، طالما سعى اليه الفلسطينيون. وتدعم تلك الدول حق الفلسطينيين بالاستقلال، في إطار حدود عام ١٩٦٧، التي أقرتها قرارات الشرعية الدولية. وتعزز بالتالي الاعترافات بفلسطين، خصوصاً من قبل دول وازنة عالمياً، الموقف التفاوضي الفلسطيني، والذي يعد انجازاً سياسياً مهماً. وتجعل تلك الاعترافات الدول محرجة أمام شعوبها، إن لم تنتقد ممارسات إسرائيل بحق فلسطين، وقد تكون مضطرة، تحت الضغط الشعبي، لرفع وتيرة انتقاداتها وصولاً إلى فرض العقوبات. ودبلوماسياً، يعني الاعتراف بفلسطين تعزيز العلاقات الدبلوماسية بين فلسطين وتلك البلدان، وسريان قواعد معاهدة فيينا للعلاقات الدبلوماسية بين فلسطين وغيرها من الدول، بما تفرضه من حصانات والتزامات تعاهديه. كما تفرض لاعترافا واقعاً قانونياً لفلسطين في إطار تعزيز شخصيتها القانونية في علاقاتها الثنائية مع الدول المعترفه بها، وإلزامات يفرضها القانون الدولي فيما بين الدول كالالتزام باحترام السلامة الاقليمية والاستقلال السياسي والقبول بحق الدفاع عن النفس في حال تعرضها لاعتداء، وهي جميعاً قضايا تنتهكها إسرائيل، وتلتزم الدول التي تعترف بفلسطين باحترامها وحمايتها.
ورغم أن اعتراف دولة بدولة أخرى يعد قراراً سيادياً فردياً، إلا أنه يعزز شرطاً قانونياً مهماً من شروط الإقرار بوجود الدول. وتمتلك فلسطين، باقرار من الأمم المتحدة صفة الدولة، فقد منحتها الجمعية العامة هذه الصفة في العام ٢٠١٢، بعد أن أقرّت لجنة مجلس الأمن المتخصصة في النظر بطلبات العضوية في الأمم المتحدة بتوفر الشروط الأربع لوجود الدول، إلا أن الفيتو الأميركي حال دون حصول فلسطين على تلك الصفة، رغم ذلك التقرير. وتعززت تلك الصفة بعد ذلك، بقبول فلسطين طرفاً أو عضواً كاملاً في معاهدات ومواثيق دولية، تشترط صفة الدولة في عضويتها. وترتبط الاعترافات الدولية المتواترة بفلسطين بالشرط الرابع لوجود الدولة، والذي يتعلق بقدرة الكيان على إقامة علاقات خارجية تفاعلية مع الدول الأخرى وفي المنظومة الدولية. فاعتراف دول وازنة في المجتمع الدولي بفلسطين كدولة كاملة السيادة يعزز توفر ذلك الشرط ويقويه، وإن تراكم الاعترافات بفلسطين وزيادتها تدعم ذلك الشرط بوضوح.
خلاصة القول، قد لا تمنع الاعترافات بفلسطين اليوم حرب الإبادة على غزة، وقد لا تردع إسرائيل عن مواصلة سياساتها الاحتلالية في الضفة، لكنها تزيد من عزلة إسرائيل ومعها الولايات المتحدة، وتفرض تدريجياً على دول العالم واجباً سياسياً وقانونياً لتوسيع حدود أفعالها لردع إسرائيل. ويبدو جلياً أن أفول نجم الولايات المتحدة كوسيط تقليدي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل تبنى واشنطن بالمطلق سياسة إسرائيل، يعني تلقائياً صعود دول أخرى لتلك المهمة. وتتبنى دول حليفة ومقربة من واشنطن اليوم كبريطانيا وفرنسا وكندا وغيرها من الدول مقاربة لحل القضية الفلسطينية تختلف عن رؤية واشنطن وإسرائيل، الأمر الذي يعد مؤشراً على تراجع الهيمنة الأميركية. ويعكس تعهد إعلان نيويورك أو البيان الختامي للقمة الفرنسية السعودية التي عقدت على هامش إجتماعات الجمعية العامة في الأمم المتحدة، وحظي بتأييد غالبية أعضاء الجمعية العامة، نوعاً من التمرد الدولي الغربي على واشنطن، فقد أكد البيان على ضرورة السعي لوقف الحرب على غزة، وتمكين دولة فلسطينية ذات سيادة قابلة للحياة، ودعم منظومة أمنية عربية، تشبه الآسيان. ويبقى هناك دور فلسطيني مهم، أشار اليه إعلان نيويورك، وإن كان هذا الدور أبعد من بنوده، في لحظات عصيبة تمر بها القضية الفلسطينية، بل قد تكون الأثقل منذ عقود، فهل يلملم الفلسطينيون أوراقهم المتناثرة، وينجحوا بحكمتهم في مواجهة التحديات؟