أقلام وأراء

د. أنور محمود زناتي: “العرق البارد”: تجميد القرار العربي

د. أنور محمود زناتي 24-09-2025 العرق البارد: تجميد القرار العربي

   في عالم ديزني، تتحول المملكة في فروزن Frozen إلى قطعة جليد بفعل سحر ملكتها، فلا تعود الحياة تدور كما ينبغي، ولا تُزهر الأرض إلا إذا عاد الدفء. في نسخته الشرق أوسطية، ليست ملكة خيالية من صنعت الجليد، بل واشنطن نفسها، التي ألقت بتعويذة الهيمنة على القرار العربي، فجمّدته حتى فقد حرارته وفاعليته. لم يعد القرار ينبع من إرادة الشعوب أو حتى من مصالح الأنظمة، بل صار أسيرًا في قوالب جليدية مرسومة من الخارج، حيث كل حركة بطيئة، وكل كلمة محسوبة، وكل مشروع مجمد قبل أن يبدأ.

واشنطن: الساحرة التي تصنع الجليد

     كما كانت “إلسا” في فيلم فروزن تملك قوة خارقة تُحوِّل كل ما تلمسه إلى ثلج، فإن واشنطن اليوم تمارس دورًا مشابهًا، ولكن على المسرح السياسي العربي. أي محاولة للاستقلال أو التحرر الوطني تُقابل بلمسة أمريكية تُجمِّدها فورًا. فالمعاهدات الملزمة تُكبّل القرار السياسي وتربط الأمن الوطني بمنظومات دفاعية أجنبية، والقروض المشروطة تجعل ميزانيات الدول مرهونة لمؤسسات مالية مرتبطة بالبيت الأبيض، فيتحول الاقتصاد العربي إلى رهينة للبنك وصندوق النقد. أما القواعد العسكرية الموزعة في الخليج والبحر المتوسط والقرن الأفريقي فهي أشبه بقلاع ثلجية تحيط بالمنطقة وتمنع أي حراك مستقل، في حين تمثل الضغوط الدبلوماسية في مجلس الأمن والمحافل الدولية سيفًا مسلطًا يجعل أي موقف خارج السرب يتحول فورًا إلى أزمة تُهدد النظام الحاكم نفسه.

     الأنظمة العربية تعرف جيدًا أن هذه البرودة الأمريكية ليست مجرد حالة طبيعية، بل أداة عقابية مدروسة. فمن يغامر بالتحرك خارج النص يجد نفسه وسط عاصفة ثلجية من العقوبات والعزلة وربما التدخل العسكري المباشر، ولهذا يصبح الخيار الوحيد أمامها الاستسلام للثلج بدلًا من مقاومته. والأخطر أن هذا التجميد لا يقتصر على السياسة وحدها، بل يمتد إلى الوعي الجمعي؛ إذ تُجمَّد الأحلام الكبرى بالوحدة والتحرر، ويُقنع المواطن العربي أن الواقعية تعني قبول الأمر الواقع، وأن أي محاولة لمقاومة البرد مصيرها الفشل والانكسار.

      بهذا المعنى، فإن واشنطن لا تُشبه “إلسا” التي كانت تبحث عن الخلاص الداخلي، بل نسخة أكثر قسوة: قوة عظمى تستخدم برودتها الجليدية كأداة للسيطرة، وتحوِّل المنطقة إلى مملكة متجمدة، تتحرك فيها الأنظمة ببطء، بلا دفء سيادة ولا حرارة قرار مستقل.

إسرائيل: المستفيد من الشتاء الطويل

    في فروزن، تعاني المملكة من الجليد الذي لا ينتهي. وفي الشرق الأوسط، المستفيد الوحيد من “الشتاء العربي” هي إسرائيل. فهي وحدها التي تملك الدفء، لأنها تحصل على الحماية الكاملة من العرّاب الأمريكي. كلما تجمّد القرار العربي، ازدادت حرية إسرائيل في التوسع والبطش، دون خوف من ذوبان الجليد السياسي. هي الدولة الوحيدة التي تتحرك بحرية في منطقة مقيدة، كأنها استثناء أبدي في شتاء طويل.

العرب: رهائن في مملكة الجليد

     الشعوب العربية، مثل سكان مملكة “أرنديل“، تنتظر ذوبان الجليد. ترى أن الثروات موجودة، والقدرات البشرية هائلة، لكن القرار السياسي مكبّل. كل محاولة للتدفئة – سواء عبر ثورات أو مشاريع إصلاح – تتحول بسرعة إلى جليد جديد، لأن الأنظمة نفسها أصبحت جزءًا من آلة التجميد. وهكذا يعيش العرب في انتظار “ربيع سياسي” حقيقي، لكن الربيع لا يأتي في ظل شتاء مرسوم من الخارج.

    فروزن انتهى حين استعادت إلسا السيطرة على قواها وأذابت الجليد بالحب. أما في نسخته الشرق أوسطية، فإن التجميد مستمر ما لم يقرر العرب استعادة قرارهم السيادي. الشتاء الأمريكي–الإسرائيلي لن يذوب وحده، والجليد لن ينكسر إلا إذا تجرأت الأمة على إعادة الحرارة إلى جسدها السياسي. والسؤال: هل يظل القرار العربي أسيرًا في قوالب الجليد، أم سيأتي اليوم الذي يذوب فيه الثلج وتعود الحياة إلى مجراها الطبيعي؟

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى