إميل أمين: هل حقاً أوروبا على حافة الانهيار؟

إميل أمين 21-9-2025: هل حقاً أوروبا على حافة الانهيار؟
من بين التساؤلات العديدة التي تفرض نفسها على الساحة العالمية، ذلك المتعلق بأوروبا القلقة والمضطربة في الآونة الأخيرة، ما دعا العديد من الأقلام الكبرى لمفكرين ومسؤولين عالميين للبحث فيما يجري للقارة التي كانت ذات مرة من التاريخ، حاضنة للتنوير والعلمانية وحقوق الإنسان، وها هي اليوم تكاد تلقي بنفسها بين براثن الشعبويات المخيفة، والقوميات الصاعدة بشكل مزعج.
يعن للمرء أن يتساءل ماذا يجري على وجه الدقة، وما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه الردة الحضارية إن جاز التعبير، والتي تظهر بوضوح في التظاهرات العنصرية التي تملأ جنبات العديد من الدول الأوروبية، وقد كان آخرها ما تابعه العالم في العاصمة البريطانية لندن قبل بضعة أيام.
المؤكد بداية أن هناك أزمات وليس أزمة واحدة تخيم على المشهد الأوروبي، وفي مقدمها اكتشاف العديد من دول القارة أن فكرة ذوبان الأعراق والثقافات فكرة غير ذات جدوى، حتى مع المستقبل الواحد لأوروبا الموحدة، وأن الألسنة المختلفة يمكنها أن تنسق فيما بينها فعاليات فكرية، وتقيم جسوراً للتعاملات الاقتصادية، لكنها بحال من الأحوال لا يمكنها أن تقفز فوق الخصوصية الثقافية لكل دولة، فالفرنسيون سيظلون ينظرون لتاريخهم المليء بالحروب ضد الإنجليز، والإسبان والبرتغال لن يثقوا في بعضهم بعضاً مائة بالمائة لا سيما إن أعادوا قراءة كتب التاريخ، أما الألمان فدائماً في عيون أوروبا المهدد الكبير والخطير عبر حربين عالميتين، ولهذا فإن الجميع يخشى من صحوتهم في الحل والترحال.
الأمر الآخر الذي يجعل الأوروبيين يستشعرون حالة مخيفة من القلق، وجود رئيس أميركي تعاقدي، مثل دونالد ترامب، بمعنى أنه ليس الجنرال أيزنهاور الذي قاد جيوش الحلفاء في أوروبا ليهزم النازية والفاشية، بل هو رجل التعريفات الجمركية، الذي يهتم بأن تضحى بلاده الرقم الصعب عالمياً على كافة الصعد، حتى وإن تركت أثراً سيئاً على النمو الاقتصادي للحلفاء الأوروبيين.
والشاهد كذلك أن العقدين الماضيين جرت فيهما المقادير بالكثير من الأزمات الاقتصادية، وفي الوقت عينه، كانت الثورات التي ضربت الشرق الأوسط رافداً لبضعة ملايين من المهاجرين، ما تسبب في نشوء وارتقاء نوع من المشاعر الباطنية لرفض هؤلاء والنظر إليهم على أنهم أداة استلاب لثروات البلاد.
عطفاً على ذلك، عرفت أوروبا أصواتاً زاعقة من أنصار نظرية “الاستبدال العظيم”، بمعنى حلول شعوب أخرى مغايرة عقدياً وعرقياً، لأصحاب أوروبا الأصليين، ولم ينفك أصحاب تلك الدعوات النفخ في النار، حتى يكاد أن يشعلوا نوعاً من المواجهات التي تعود بالعالم إلى القرون الوسطى وحروب ما أنزل الله بها من سلطان.
ومن بين القلاقل التي ملأت أوروبا برمتها في العامين الماضيين، حديث القيصر بوتين، وخاصة بعد عمليته العسكرية في أوكرانيا، والمخاوف من أن تؤدي المواجهات العسكرية إلى نشوب حرب إقليمية كبرى في القارة العجوز، على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي العتيد دونالد رامسفيلد.
اليوم وعلى هامش زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لبريطانيا، علت موجة التساؤلات من جديد، هل أوروبا باتت بمفردها في ساحات الوغى، وهل انتهى بالفعل زمن التحالف الأطلسي الذي غير الأوضاع وبدل الطباع في النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاع بقوة أن يجابه الاتحاد السوفيتي طوال زهاء أربعة عقود حتى تم سقوط حائط برلين.
في واقع الأمر جاءت زيارة ترامب، بعد نحو يومين تقريباً من تظاهرات حاشدة عمت أرجاء العاصمة لندن، لم يوار أو يدار الذين خرجوا فيها مشاعرهم، وربما إحباطاتهم، معبرين عن رفضهم لفكرة الهجرة والمهاجرين الذين باتوا مهددين للأكثرية البيضاء، كما يؤمن غالبهم.
من هنا تبدو أوروبا في حالة غضب، يمكن أن يقود إلى صراعات أهلية داخلية، لا سيما في ظل تغير مزاجية الرأي العام والنظر إلى الآخر على أنه الجحيم، على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر.
في قراءة معمقة لكريستين زيكاريلي وجوشوا تريفينو، وهما على التوالي مدير التحالفات العالمية في معهد أميركا أولاً للسياسة، والزميل البارز لمبادرة نصف الكرة الغربي في المعهد عينه، يمكن للقارئ لا سيما في العالم العربي أن يستشعر نوعاً من القلق على مجريات الأمور في أوربا التي لا يفصلنا عنها سوى البحر المتوسط، أو البحر الكبير كما أسماه العرب الأوائل، ومرد الأمر إلى ما شهدته السنوات الأخيرة من ارتفاع واعد في أحزاب اليمين الشعبوي واليمين القومي في جميع أنحاء القارة الأوروبية، من حركات مثل إعادة تشكيل بريطانيا، إلى فوكس الإسبانية، وما يعرف بالسباق العام الفرنسي والبديل من أجل ألمانيا، عطفاً على انهيار متزامن في الإيمان العام والمصداقية في اليسار وما يمكن أن نسميه باليمين المؤسسي.
لماذا الخوف من تلك الصحوة؟
السبب واضح وبسيط، وإن كان يحتاج إلى عقلية فلسفية لفهمه وهضمه دفعة واحدة، ذلك أن كافة تلك الحركات ذات طبيعة مطلقة وليس نسبية، والمطلقات كما هو معروف لا تقبل قسمة الغرماء، وإنما تسعى سعياً حثيثاً في طريق الهيمنة الأحادية وتفسير التاريخ من منظور الغالب وحده، ودون أدنى شراكة مجتمعية للأقليات.
هل أوروبا على شفا حفرة من الردة أو بمعنى أدق الارتداد عن الإرث العلماني، والعودة من جديد إلى دائرة الأصوليات الروحية التي تجاوزها الزمن؟ وإذا كان ذلك كذلك، فأي انعكاسات يمكن أن ترتد على عالمنا العربي والشرق الأوسطي، وهل يمكن أن تتوالد ردات فعلية ذات ملمح وملمس أشد قسوة وأعمق تأثيراً في اتجاهات مكافئة ولكن منافسة؟
على أن هناك جزئية أخرى أكثر إثارة فيما يجري في أوروبا مؤخراً، تلك المرتبطة بالعلاقة بين صحوة اليمين الأوروبي، ونظيره الأميركي، ذاك الذي يحاول جاهداً أن يبسط أجنحته فوق النصف الغربي من الكرة الأرضية مؤخراً.
الفكرة بدون إغراق في الفلسفة السياسية هي أن اليمين الأميركي وجد حاضنة شعبوية مهيأة منذ التأسيس، تخبو تارة وتطفو تارة على السطح، في بلد مزاجه ديني، وإن كانت رايته علمانية ودستوره يفرق بين ما لله ما لقيصر.
أما في أوروبا فهناك أكثر من نزعة يمينية، منها ما هو على يمين المؤسسة الحاكمة من جهة، ومنها ما هو متفشٍّ في الشارع الأوروبي وضارب بقوة إلى درجة أنه بات يتهدد الأحزاب اليسارية التقليدية لتستعلن أوروبا بطعم نازي أو فاشي في وقت قريب مرة أخرى، وإن بمصطحات وتعبيرات مختلفة.
في هذا السياق نجد حضوراً أميركياً قوياً في أوروبا، وقد تابعنا الدور الذي قام ويقوم به نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس بنوع خاص، ذاك الذي حاول تلقين الأوروبيين دروساً في حرية التعبير على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن أوائل العام الجاري.
أضف إلى ذلك الدور الذي يقوم به إيلون ماسك في دعم اليمين الأوروبي، ما يجعلنا نسترجع خطاب الرئيس الأميركي السابق جوزيف بايدن عن جماعة التقنية التكنولوجية أو التكنوفاشيزم، وتأثيرهم على عالم السياسات الأميركية.
اليوم تبدو تلك الجماعات في سطوتها المالية والتكنولوجيا، رافداً مضافاً في إزعاج أوروبا العلمانية.
خذ إليك مشارك ستيف بانون، مستشار ترامب السابق، والقوة اليمينية الضاربة في مظاهرات لندن الأخيرة، وساعتها يمكن للمرء أن يتساءل هل أوروبا تسعى لمواكبة عالم ما بعد العولمة في إطار حضاري مشترك أم أنها مجرد مراقب فيما تعود القهقرى إلى الوراء؟
حتماً أوروبا تستحق ما هو أفضل من ذلك.