أحمد دخيل: في ضوء مؤتة وغزة: حكمة وحياة

أحمد دخيل 13-9-2025: في ضوء مؤتة وغزة: حكمة وحياة
جلست في المسجد أستمع إلى خطبة الجمعة.
أتأمل زخارف المحراب، منصتًا لصوت الخطيب، شعرت بثقل التاريخ يلتصق بالهواء.
تحدث عن بطولات المقاومة، كأنها صفحة واحدة، متناسياً الأطفال الذين يبكون على أطلال بيوتهم، والنساء اللواتي يصرخن في العراء، والمدن التي تتحول إلى رماد. ذكر مؤتة، لكن الحديث كان مبتورًا، كقصيدة بلا نهاية، وكأن حكمة الماضي تُسحق تحت أحذية الفخر.
تذكرت ما قرأته عن القائد الصحابي خالد بن الوليد، وكيف قرأ الموت بعين الحكمة.
شجاعته لم تكن في الاصطدام فقط، بل في الانسحاب بحكمة، للحفاظ على الأرواح.
حين سُمّي من قبل المنافقين فرارًا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل هو الكرار.
كل كلمة هنا تذكرك أن الشجاعة ليست مجرد مواجهة، بل حفظ الحياة، وأن القيادة ليست شعارات، بل قرار يحمي الإنسان قبل السيف.
بيروت 1982 كانت درسًا آخر. انسحاب منظمة التحرير لم يكن هزيمة، بل كان حماية للمدنيين.
الانتصار الحقيقي لم يقاس بعدد المعارك، بل بعدد الأرواح التي نجت، بعدد الأطفال الذين ظلوا يضحكون، بعدد النساء اللواتي حافظن على كرامتهن رغم الرعب.
أما غزة اليوم، فالمشهد مختلف.
كل صرخة طفل، كل بيت يتحول إلى رماد، كل دمعة تتساقط في العراء، تثبت أن الشجاعة وحدها لا تكفي.
بعض التصريحات تقول: القتال “حتى آخر طفل”، وكأن الإنسانية تُنسى، وكأن التاريخ يُكتب بالدم وحده.
هنا تأتي وصايا الكتاب: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾. تحذرنا أن القوة بلا رحمة تحوّل الحياة إلى رماد، وأن القيادة بلا تفكير في الإنسان تصبح كارثة.
كنت أحلم بخطبة مختلفة. حلمت بشهادة على الحياة.
على فهم أن الشجاعة الحقيقية تحفظ الأرواح قبل أن تحمي المدن، وأن النصر لا يقاس بعدد الساحات، بل بعدد القلوب التي تستمر في النبض بعد الصدمة.
كل لحظة في المسجد كانت تذكرني بالفرق بين النظر إلى التاريخ كمعركة للبطولات، وبين النظر إليه كحكمة تحفظ الإنسان قبل السيف.
مصادر مقرّبة من فتح رفضت المقارنة بين بيروت وغزة.
اعتبرت الفوارق التاريخية والسياسية والاجتماعية ضخمة، وأن محاولة الاحتكام إلى الماضي لتبرير الحاضر خاطئة من أساسها.
هذه المواقف تذكرنا أن كل زمان له سياقه.
وأن القراءة النقدية للتاريخ تتطلب الموضوعية.
وأن الخطاب الذي يختزل الواقع إلى شعارات يضلل أكثر مما يعلّم.
سلام على محمد، نبي الرحمة.
وسلام على غزة التي تستحق الحياة.
سلام على كل قلب يعرف أن النصر الحقيقي يُقاس بعدد الأرواح التي تحيا لتكمل الطريق.
بعدد الأطفال الذين يضحكون فوق الركام.
بعدد النساء اللواتي يرفعن رؤوسهن رغم الألم. كما قاد خالد جيشه. كما أرشدت قيادة منظمة التحرير في بيروت.
هناك قيمة أكبر من كل سلاح: قيمة الإنسان، قبل كل شعار، قبل كل معركة، قبل كل رماد.
* شاعر و كاتب مقيم في سورية مخيم جرمانا