د. سنية الحسيني: الهجوم على قطر وعودة إلى معضلة الأمن القومي العربي

د. سنية الحسيني 11-9-2025: الهجوم على قطر وعودة إلى معضلة الأمن القومي العربي
كان هناك وقع صادم لاهتزاز العاصمة قطر أول من أمس، تحت وطأة الصواريخ التي أطلقتها الطائرات الإسرائيلية على أحياء سكنية، بهدف اغتيال قيادات من حركة حماس. وقد شكل موقف الولايات المتحدة، التي حاولت التنصل من تحمل مسؤولية الهجوم مع إسرائيل، من خلال التلاعب بالصيغة اللغوية لتصريحات مسؤوليها بعداً مهماً لدق ناقوس الخطر لمستقبل الأمن القومي العربي، والخليجي تحديداً، في ظل اعتماد المنظومة العسكرية لدولها على الولايات المتحدة. وما يزيد من تعقيد معضلة الموقف الأميركي تجاه قطر، تلك القاعدة العسكرية الأميركية «العديد» الموجودة على أرض قطر والاتفاقيات الأمنية الموقعة بين الطرفين، واعتماد قطر على المنظومة العسكرية الأميركية كمصدر لمعداتها. تعد تلك التطورات المتعلقة بضربة إسرائيل لقلب العاصمة القطرية مثلاً حياً لما طرحته في مقال سابق بعنوان: «إسرائيل الكبرى وتساؤلات حول الأمن القومي العربي». طرح المقال معضلة اعتماد عدد من الدول العربية، على رأسها الخليجية على منظومة عسكرية متكاملة مصدرها الولايات المتحدة، والتي تعد الحليف والداعم الأول لإسرائيل، التي باتت لا تواري طموحاتها العسكرية، بالاستيلاء على دول عربية أخرى، بالإضافة لفلسطين، والتدخل الاستخباري والتجسسي في تلك الدول العربية وأخرى مجاورة.
في ضربة هي الأولى، ولكن يبدو أنها لن تكون الأخيرة، شنت الطائرات الاسرائيلية غارة على العاصمة القطرية، مستهدفة قيادات من حركة حماس. تحمل هذه الضربة أبعاداً إستراتيجية مهمة، سواء على المستوى الضيق الخاص بالحرب الدائرة على غزة، أو على المستوى العام الأوسع، المتعلق بقواعد العلاقة التي تضعها إسرائيل في تعاملها مع الدول العربية. فعلى الرغم من احتضان قطر المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس، على مدار العامين الماضيين، بوساطة أميركية. وطالما شهدت العاصمة القطرية حراكاً دبلوماسياً نشطاً، خاض في تلك القضية، لكن دون جدوى. بات من الواضح أن إسرائيل استخدمت تلك المفاوضات للمراوغة، والمماطلة أمام العالم، بالظهور بمظهر وكأنه لا يمانع بالتفاوض، إلا أن الأهداف الاسرائيلية بحسم المعركة عسكرياً في غزة لم تتغير، وذلك بالاستيلاء عليها، والقضاء على مقاتلي حركة حماس، وتهجير السكان منها، وظل ذلك الهدف ثابتاً لم يتغير، رغم جولات المفاوضات المتكررة دون نتائج. ويبدو أن المرحلة الأخيرة من حسم تلك الحرب قد اقترب، فبالتزامن مع الهجوم على مدينة غزة، التي تقع في شمال قطاع غزة، تحركت الطائرات الإسرائيلية للقضاء على قيادات حركة حماس في قطر، والتي تقود مسار التفاوض مع إسرائيل. يأتي ذلك في ظل خطة إسرائيلية متكاملة ومتدرجة، فبعد الإعلان عن شن الحرب على غزة، والهجوم على مجمل مناطق القطاع، بالتركيز على اقتحام أطرافها والسيطرة عليها، واقتحام عمقها بين كر وفر، وتوجيه ضربات مستمرة لخلخلة العمق، بدأ الاحتلال بالدخول لعمق القطاع بشكل متدرج، فبدأ بالهجوم على رفح، في شمال غزة، لتدميرها وإفراغها من أهلها، ثم انتقل بعد ذلك إلى خان يونس في وسط القطاع، لإنجاز ذات المهتمة، وجاء الدور حالياً على مدينة غزة في شمال القطاع، وهي آخر مناطق القطاع، لذلك تزامن الدخول إلى مدينة غزة مع القضاء على الوفد المفاوض من الحركة، لحسم المعركة وفق الأهداف التي وضعتها.
ورغم أنه لا توجد علاقات طبيعية بين قطر وإسرائيل، إلا أن قطر طالما أبقت العلاقات في اطار سياسي متوازن. قام البلدان منذ العام ١٩٩٦ بافتتاح مكتب تجاري، وقد زار شمعون بيريس قطر في تلك الفترة، والتقى المسؤولين في محافل دولية عديدة، لكن دون تطور للعلاقات الدبلوماسية. بعد حرب عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩ استضافت قطر مؤتمراً طارئاً للدول العربية وإيران لمناقشة تبعاتها، وفي مطلع ٢٠١٢ دعت الدوحة لتحقيق دولي في جرائم إسرائيل، فتقلصت العلاقات، وحتى التجارية بين البلدين. إلا أن إسرائيل وفي ظل مقاربتها بتعميق الانقسام بين الفلسطينيين في غزة والضفة بأهداف سياسية تفاوضية تقوض مستقبل الدولة الفلسطينية، سمحت بوجود قطر كوسيط، بينها وبين حركة حماس، التي تفرض عليها الحصار، الأمر الذي فسر وجود قطر في العديد من مفاصل تلك العلاقة. واستقبلت قطر وفوداً إسرائيلية من الموساد والشاباك في إطار اللقاءات والاجتماعات التي عُقدت في الدوحة، خصوصاً خلال العامين الأخيرين، في اطار التفاوض لإنهاء الحرب الحالية الدائرة في غزة. وشاركت قطر في شهر نيسان الماضي، في مناورات عسكرية جوية مع إسرائيل، وتعرف بـ «إينيواخوس 2025»، التي تستضيفها اليونان في قاعدة أندرافيدا الجوّية، وهو تدريب جوّي متعدّد الجنسيات يُقام سنوياً، ويهدف إلى تعزيز الشراكات الاستراتيجية، وتبادل الخبرات. أي أن العلاقات بين البلدين تقع ضمن إطار تفاهم مقبول، إلا أن اتخاذ إسرائيل قراراً بانتهاك سيادة الأرض القطرية، رغم وجود مستوى معقول من العلاقات بينهما، يعد رسالة مهمة لباقي دول الخليج العربي والدول العربية الأخرى، وهي أنه لا توجد خطوط حمراء لدى إسرائيل بالتعامل معها، وإذا لم تتخذ قطر، والدول العربية الأخرى رداً معقولاً، ستبدأ إسرائيل بوضع قواعد التعامل العسكري مع جميع الدول الأخرى، كما يحدث الآن مع سورية ولبنان، أي لا يوجد رادع يقف أمام تحقيق أهدافها.
ولا تعد المشكلة الحقيقية في طبيعة العلاقة بين العرب وإسرائيل، فقد حددت إسرائيل أهدافها وطموحاتها، والتي لا تستهدف فقط منع قيام دولة فلسطينية بالقوة، واستهداف الفلسطينيين، وتقليص وجودهم، بل تمادت بالاعتداء وبطموح السيطرة على دول عربية أخرى، كما تسعى إسرائيل لضمان وجودها في المنطقة كقطب اقليمي يتفوق على أقرانه، سواء بامتلاكها سلاحاً نووياً، لا يمتلكه غيرها فيها، وتميزها عسكرياً عن باقي دول المنطقة، وهو ما يعكسه الالتزام الأميركي لها بذلك، والقدرات الاستخبارية والتجسسية العالية، والتي انكشفت في حربها الأخيرة مع لبنان، وعمليات الاغتيال في إيران، وليست الدول العربية بعيدة عن ذلك. وتمتلك قطر مع الولايات المتحدة علاقة استراتيجية مميزة، تفرض على واشنطن حمايتها، إلا أن الاعتداء الإسرائيلي الأخير على قطر كشف خلاف ذلك. وقعت قطر مع الولايات المتحدة اتفاقية تعاون دفاعي في العام ١٩٩٢، وأعيد تجديد الاتفاقية في العام ٢٠١٣، لمدة عشر سنوات، أي حتى العام ٢٠٢٤. وتشمل الاتفاقية بالإضافة للتعاون العسكري، حماية المعلومات العسكرية، والدعم اللوجستي المتبادل. ووضعت الولايات المتحدة قطر كحليف استراتيجي من خارج الناتو، في العام ٢٠٢٢، والذي يعني وجود تعاون وتسليح مميز. وتستضيف قطر قاعدة العديد الجوية، وهي مقر متقدم للقيادة الوسطى الأميركية، ومركز للعمليات الجوية الأميركية، وتتراوح عدد القوات فيها ما بين ٦ و١٠ آلاف عامل. واستثمرت قطر مليارات الدولارات لدعم تحالفها مع الولايات المتحدة في قاعدة العديد منذ العام ٢٠٠٣، وهناك برنامج تطوير تشارك فيه قطر لتلك القاعدة يمتد حتى العام ٢٠٣٣، لتحويلها لقاعدة دائمة، تضم آلاف العاملين. وتشتري قطر من الولايات المتحدة سلاحها الهجومي والدفاعي من رادارات الإنذار المبكر، والطائرات المقاتلة المتطورة والمروحيات، ناهيك عن البنية التحتية للذخائر والتدريب، بمليارات الدولارات. وهناك علاقة استراتيجية مميزة بين الولايات المتحدة وقطر، فهناك شراكة دفاعية عملياتية، حيث تستضيف قطر المقر الأمامي للقيادة المركزية الأميركية، المسؤولة عن العمليات العسكرية الاميركية في المنطقة وآسيا الوسطى. وتواصل قطر تواصلها مع الولايات المتحدة في ملفات حساسة في المنطقة، كوسيط مع أطراف اقليمية متعددة في غزة وأفغانستان. إن تلك العلاقة الاستراتيجة المميزة مع قطر، تمنح الولايات المتحدة قدرة على إدارة عملياتها بسرعة من داخل المنطقة، ويفترض أن يعزز ذلك من مكانة قطر، كحليف للولايات المتحدة، ويمنحها ضمانات سياسية وعسكرية إضافية من قبل الولايات المتحدة، مقارنة بالدول الأخرى. ولكن أثبت الهجوم الإسرائيلي الأخير على قطر، أن واشنطن تمتلك تحالفاً حقيقياً وحيداً مع إسرائيل، وفي الأزمات فقط تنكشف تلك الحقيقة، كما ظهر مؤخراً. وتعتبر القضية المهمة حالياً، والتي تعد ذات بعد استراتيجي حساس، ولا تتعلق بقطر وحدها، وإنما بجميع الدول العربية التي تعتبر حليفة للولايات المتحدة، وتعتمد في بناء منظومتها العسكرية مع الولايات المتحدة. وكشف موقف واشنطن الأخير من ضرب إسرائيل لعمق قطر، والذي ظهر عملياً بدعمه لذلك الاعتداء، واللجوء للتلاعب بالألفاظ، لتبرير ذلك الموقف، مع حليف عسكري واقتصادي مهم لها، ضرورة مراجعة قطر والدول العربية الأخرى، التي تعتمد على المنظومة العسكرية الأميركية لاعادة النظر في ذلك، لحماية أمنها القومي أو الوطني، وبات ذلك حاجة عربية ملحة، في ضوء جميع تلك التطورات، خصوصاً الأخيرة منها، التي كشفتها حكومة نتنياهو الحالية ذات التركيبة اليمينية المتطرفة.
بعد ضربة إسرائيل لقطر، تحتاج الدول العربية مجتمعة لرد عقابي قوي يوجه لإسرائيل، ولحليفتها الولايات المتحدة، التي فشلت في الالتزام بشراكتها مع دولة مثل قطر تعتبر حليفة استراتيجية لها، في سبيل ضمان مصالح إسرائيل، لأن الصمت والتجاهل العربي، لمثل هذا الانتهاك الإسرائيلي، سيشجعها للإقدام على مزيد من الانتهاكات المستقبلية بحق دول المنطقة. كما يحتم ذلك الحدث الأخير وغيره إعادة نظر الدول العربية بمنظومة الأمن الوطني المعتمدة على الولايات المتحدة، خصوصاً وأن هناك العديد من المنظومات العسكرية، التي يمكن استثمارها وفق المصالح العربية والوطنية الخالصة، فهل يتعلم العرب من التجارب؟