فورين أفيرز: الشقاق الصادم بين الهند والولايات المتحدة الأميركية

فورين أفيرز 14-8-2025، هابيمون جاكوب: الشقاق الصادم بين الهند والولايات المتحدة الأميركية

خلال الأعوام الـ 25 الماضية ساد تقارب لم يسبق له مثيل بين الهند والولايات المتحدة، إذ وطد البلدان روابط اقتصادية وإستراتيجية متينة، وقد استندت شراكتهما إلى قيم ومصالح مشتركة، فهما الديمقراطيتان الأكبر في العالم، ووطنان لشعبين شديدي التنوع الثقافي، كما أنهما يتشاركان المخاوف نفسها من صعود الصين، الجارة الشمالية للهند.
لكن هذه العلاقة المبنية بعناية خرجت فجأة عن مسارها خلال الأشهر الأربعة الماضية، فعودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للبيت الأبيض تأتي مهددة بتبديد إنجازات ربع قرن من الزمن.
في أفعال ترمب وتصرفاته تجاهل لكثير من المخاوف الهندية الأساس المتعلقة بالسياسة الخارجية، وهي تجاوزت خطوطاً حمراء حساسة كانت الإدارات الأميركية السابقة تميل لاحترامها، إذ كانت الولايات المتحدة في الماضي تعامل الهند كشريك أميركي مهم في آسيا، أما اليوم فتواجه الهند أعلى نسبة رسوم جمركية مفروضة حالياً في الولايات المتحدة بنسبة 50 في المئة، وذلك بزعم معاقبتها على شراء نفط روسي بعد غزو أوكرانيا عام 2022، وتجد الهند نفسها أمام تعرفة جمركية أعلى حتى من تلك المفروضة على الصين، البلد الذي أرادت واشنطن من نيودلهي، في الأقل حتى وقت قريب، أن تُسهم في احتوائه، ويبدو ترمب في الواقع أكثر حرصاً على التوصل إلى صفقة مع الصين من التراجع عن موقفه الصارم تجاه الهند، وقد أعلن ترمب في أواخر يوليو (تموز) الماضي، دافعاً الأمور إلى مزيد من السوء، صفقة مع باكستان، الخصم التقليدي للهند، إذ ستعمل الولايات المتحدة بموجب الصفقة المذكورة على تطوير احتياطات النفط الباكستانية.
وتأتي هذه الأزمة الناتجة من التعرفات الجمركية في أعقاب صدمة أخرى للمشهد السياسي في الهند، والتي تمثلت بتدخل ترمب في مايو (أيار) الماضي بالصدام الذي وقع بين الهند وباكستان، فبعد بضعة أيام من الهجمات المتصاعدة بين البلدين إثر مجزرة إرهابية ارتكبت في الهند، أعلن ترمب منفرداً أنه توسط لوقف إطلاق النار بين الطرفين، والهند نفت بشدة هذا الزعم، إذ ترفض نيودلهي منذ زمن أي توسط خارجي في خلافاتها مع إسلام آباد، وقد حرص المسؤولون الأميركيون على عدم الإساءة إلى الحساسيات الهندية في هذا الجانب، لكنه ضاعف تمسكه بمزاعمه، وهو انزعج بالتأكيد من الرفض الهندي للوساطة، تماماً بمقدار ارتياحه تجاه التبني الباكستاني الفوري لادعاءاته وقيام باكستان في نهاية المطاف بترشيحه لـ “جائزة نوبل للسلام”.
المسؤولون الهنود بلا شك يستشيطون غضباً لكنهم يفهمون أن الغضب لن يفضي إلى نتيجة، على الأرجح بعدما خاب رهان المنطق، لذا قررت نيودلهي في الوقت الحاضر انتظار انقضاء العاصفة وصياغة ردودها بعناية كي تحاول عدم تأجيج الموقف، وذلك بموازاة إيصال رسالة إلى الرأي العام الداخلي بأنها لا تنصاع ببساطة للبيت الأبيض ولتنمر ترمب على الهند تبعات عميقة على إستراتيجيتها الكبرى، فسياسة ترمب الخارجية أدت إلى قلب افتراضات جيوسياسية أساسية لنيودلهي رأساً على عقب، كما إلى زعزعة أسس الشراكة الهندية – الأميركية، فالسياسة المفضلة للهند والمتمثلة في “تعدد الاصطفافات”، أي توسيع الشراكات على أكثر من محور مع تجنب عقد تحالفات رسمية، أثبتت عدم فعاليتها، ومع هذا فإن أفعال ترمب وتصرفاته لن تدفع نيودلهي إلى إجراء مراجعة شاملة للسياسة الخارجية الهندية، بل على العكس ستقوم نيودلهي بتأمل المشهد الجيوسياسي المتبدل ويرجح أن تقرر أن ما تحتاج إليه يتمثل في مزيد من العلاقات المنتجة لا أقل، والهند في هذا الإطار، كي تحمي نفسها من تقلبات إدارة ترمب، لن تتخلى عن تعدد الاصطفافات بل ستتمسك بها بقوة أكبر.
أخذ الأمور كمسلمات
منذ استقلالها عام 1947 اتبعت الهند عموماً سياسة عدم الانحياز متجنبة بذلك الدخول في أحلاف رسمية ومقاومة الانجرار إلى أي من الكتل المتنافسة، وقد طبع ذلك الموقف دبلوماسيتها إبان الحرب الباردة لكنه راح يتبدل بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عندما فتحت الهند اقتصادها وسعت إلى علاقات أفضل مع الولايات المتحدة.
وتقوم دوائر السياسة الخارجية الهندية اليوم بالتشديد على الالتزام بـ “تعدد الاصطفافات” التي تقوم على تنويع الشراكات ورفض الانضمام إلى أحلاف عسكرية، والترويج لنظام عالمي متعدد الأقطاب، حيث لا تهيمن قوة عظمى واحدة ولا قوتان كبيرتان، كما تظهر هذه الدوائر استعدادها للدخول في صيغ تعاون على قضايا محددة، مطروحة مع مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة عبر خطوط الصدع الجيوسياسية.
وهذه السياسة نابعة من براغماتية ومن الأمل في أن تتمكن الهند من أن تصبح قطباً ضمن النظام العالمي القادم، فلقد رأى صناع السياسة الهنود أن حاجات بلادهم الاقتصادية والإستراتيجية والعسكرية لا يمكن تأمينها من شريك أو حلف واحد، وقد افترضوا أن بوسع الهند الحفاظ على روابطها مع دول مثل إيران وروسيا مثلاً، فيما تدخل في تعاون وثيق مع إسرائيل والولايات المتحدة، وتبني ائتلافات في ما يسمى بـ “الجنوب العالمي” مع دول مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، وقد افترضت نيودلهي أن واشنطن، على وجه التحديد، ستتسامح مع هذا السلوك حين يتعلق الأمر بالتنافس مع الصين والتنافس الجيوسياسي في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لأن الهند لا غنى عنها هناك.
لقد صدّعت عودة ترمب للبيت الأبيض أسس الإستراتيجية الهندية وطرحت تحدياً أمام الافتراضات الراسخة عند نيودلهي، وسيواجه الاقتصاد الهندي في هذا السياق رياحاً معاكسة متزايدة مع دخول الرسوم الجمركية الأميركية حيز التنفيذ، مما يُرجح أن يبطئ النمو الاقتصادي، أما الروابط الأميركية مع باكستان في أعقاب المواجهة العسكرية في مايو الماضي فلم تزدد إلا قوة على ما يبدو، وتشعر الهند الآن على نحو متزايد أنها غدت غير ضرورية ومهمشة في مشهد جيوسياسي متحول لم تألفه.
لقد افترضت الإستراتيجية الهندية عدداً من الشروط الهيكلية التي أدخلها ترمب في حال من الاضطراب، فقدرت الهند لسبب وجيه أنها تلعب دوراً حيوياً في إطار المنافسة بين القوى العظمى، بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين الصين وروسيا في الجهة المقابلة، وبدت باكستان هامشية ضمن تلك المنافسة الكبرى، إذ إن المكانة الدولية لإسلام آباد تراجعت بعد أن قامت مؤسستها الأمنية بتسهيل عودة “طالبان” للسلطة في أفغانستان عام 2021، وعلى رغم رفضها إدانة روسيا لمهاجمتها أوكرانيا، ظلت الهند شريكاً مفضلاً للولايات المتحدة وأوروبا، ففي النهاية أسهم تصور واشنطن لنيودلهي كوزن إقليمي محتمل في مواجهة بكين في ترسيخ القيمة الإستراتيجية للهند، ثم جاءت حرب روسيا على أوكرانيا لتمنح الهند فرصة فريدة لإبراز سياسة “تعدد الاصطفافات” التي تعتمدها ورفع مكانتها في السياسة الدولية، وعلى الأثر قام الجميع، روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وأوروبا، وهي الأطراف الأساس في النزاع، بالتودد للهند، وتمكنت الهند في السياق من المحافظة على روابطها بكل من الولايات المتحدة وأوروبا، على رغم قيامها بشراء نفط روسي بأسعار تفضيلية.
وفي الحالات التي تصرفت فيها الولايات المتحدة بما أزعج الهند في جنوب آسيا (مثلاً عندما لم تفعل شيئاً لوقف الإطاحة بزعيم مؤيد للهند في بنغلاديش عام 2024)، ظل المسؤولون الهنود يرون الدور الأميركي في المنطقة مفيداً لبلادهم عموماً، ودليلاً على أن الولايات المتحدة ترى شبه القارة الهندية كجبهة أساس في تنافسها الأكبر مع الصين، فقد فضلت الهند تدخل قوة عظمى بعيدة (الولايات المتحدة)، وإن كان مزعجاً أحياناً في جنوب آسيا، على عدوانية وطموح جار يسعى إلى الهيمنة (الصين).
صدمة حتى النخاع
أدت عودة ترمب للبيت الأبيض إلى تقويض كل الافتراضات التي تمسكت بها نيودلهي، فبدلاً من أن يهيئ نفسه لمنافسة القوى العظمى، ينشغل البيت الأبيض بمطاردة مكاسب قصيرة الأجل، ومن هذا المنظور ترى واشنطن أن لديها ما تكسبه من الصين أكثر بكثير مما تكسبه من الهند، فالحرب في أوكرانيا يجب أن تنتهي لأن دعمها لا يستحق أموال دافعي الضرائب الأميركيين، ومشكلات أوروبا مع روسيا تخص أوروبا وحدها ولا تعني الولايات المتحدة، ونتيجة لهذه الرؤية تتراجع مكانة الهند الجيوسياسية على نحو متزايد.
خذوا مثالاً على ذلك موضوع الساعة: الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها ترمب على الهند، فتقليدياً أبقت الحكومات الهندية على نظام رسوم مرتفع لحماية الصناعة والزراعة المحليتين وتوليد الإيرادات وضبط الميزان التجاري، وبررت نيودلهي هذه الرسوم باعتبارها ضرورة لاقتصادها النامي، لكن واشنطن غير راضية عن العجز التجاري المستمر في السلع وعن الإعانات الزراعية التي تحد من دخول المنتجات الأميركية، وعن مناورات الهند الجيوسياسية المتشعبة، بما في ذلك عضويتها في تكتل “بريكس” واعتمادها المتواصل على النفط والمعدات الدفاعية الروسية، وقد غضت إدارات أميركية سابقة الطرف عن هذه السلوكيات مما أتاح للهند تحرير اقتصادها والابتعاد تدريجياً من روسيا بوتيرتها الخاصة، أما إدارة ترمب فليست بهذه الصبر.
والنهج الجديد الذي تعتمده واشنطن تجاه منافسة القوى الكبرى لم يبدل سياستها مع نيودلهي وحسب، بل أثر أيضاً في حسابات قوى أساسية أخرى مع تداعيات بالغة على الهند، فروسيا، مثلاً رأت أن ترمب أقل التزاماً من بايدن في دعم أوكرانيا وأقل اكتراثاً بالتحدي البنيوي الذي تمثله الصين للنظام الدولي، وأكثر تردداً في تقديم التزامات أمنية لحلفاء أميركا في أوروبا وآسيا، وعلى رغم لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً في ألاسكا، يسعى ترمب إلى معاقبة الهند على شرائها النفط الروسي، وهو الخيار الذي كانت واشنطن قد شجعته في السابق، وبوجود ترمب في البيت الأبيض بات لدى موسكو خيارات أوسع ولم تعد في حاجة ملحة إلى نيودلهي.
وبالفعل باتت موسكو أقل التزاماً تجاه الهند وغير مستعدة لتقديم دعم يفوق ما تتلقاه، وهو ما ظهر في موقفها الفاتر خلال المواجهة الهندية – الباكستانية في مايو الماضي، فجاءت بياناتها غامضة ولم تذكر باكستان بالاسم، ولم تؤيد الردود العسكرية الهندية، واكتفت بالدعوة إلى تسوية الخلافات دبلوماسياً، وهو موقف أعاد للأذهان مقاربة الهند نفسها بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، لكن هذا الغموض أثار قلق المسؤولين في نيودلهي والذين كانوا يتوقعون من الكرملين موقفاً أوضح: إدانة باكستان والتأكيد على حق الهند في الرد، كما فعلت إسرائيل حين أعلنت دعماً صريحاً وكاملاً للهند، ويرجح محللون هنود أن امتناع روسيا من ذلك كان لتجنب استفزاز الصين التي صارت شريكاً إستراتيجياً لباكستان، وزودتها بكميات كبيرة من الأسلحة الحديثة.
ومع مضي الأمور قدماً يُرجح أن تعطي موسكو الأولوية لتعزيز شراكتها مع بكين على حساب علاقتها المتدهورة مع نيودلهي، فبعد أن رأت نفسها على طريق النصر في أوكرانيا أعادت روسيا ترتيب أولوياتها وأصبحت تبحث عن شركاء قادرين على تحدي الولايات المتحدة وأوروبا، لا عن شركاء تجاريين فقط.
والصين يمكنها فعل ذلك، أما الهند فلا تزال تركز على التجارة، وبالتالي فقد تتردد موسكو في مساندة الهند في أي نزاع مقبل مع باكستان بسبب تحالفها مع الصين، مما يعني أن دعمها للهند سيكون أضعف في حال نشوب مواجهة مباشرة مع بكين، أما اللامبالاة النسبية التي يبديها ترمب تجاه جنوب آسيا فستمنح الصين مساحة أوسع لترجيح ميزان القوى الإقليمي لمصلحتها عبر “دبلوماسية فخ الديون” والاتفاقات العسكرية وتوسيع نفوذها السياسي والدبلوماسي مع دول المنطقة، وقد أسهمت الأسلحة والخبرات الصينية بالفعل في تعزيز القدرات الباكستانية خلال أزمة مايو الماضي وساعدت قواتها في اختبار الدفاعات الهندية، واليوم أصبحت الصين أكثر دخولاً من أي وقت مضى في شؤون جنوب آسيا، وستلعب صناعاتها الدفاعية دوراً متنامياً في النزاعات المقبلة، وإذا استطاعت التغلغل أكثر في المنطقة فسيعود الفضل جزئياً لترمب الذي يسعى إلى عقد صفقة تجارية مع بكين فيما يضغط على نيودلهي لإخضاعها، وهو لا يُبدي اهتماماً يذكر بالمصير الجيوسياسي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ عموماً، ولا بجنوب آسيا خصوصاً، وهكذا فإن هذا التوجه الغريب في سياسته الخارجية لن يفعل سوى تمكين بكين من تعزيز نفوذها على حساب الهند بالدرجة الأولى.
مزيد من الأمر ذاته
تكشف الانتكاسات في السياسة الخارجية خلال الأشهر الماضية أوجه القصور الجوهرية في التزام الهند بـ “تعدد الاصطفافات”، فخلال صدامات مايو الماضي مع باكستان كان معظم شركاء الهند أكثر قلقاً من احتمال اندلاع مواجهة نووية في جنوب آسيا، حتى لو كان ذلك مستبعداً إلى حد كبير، من اهتمامهم بمساعدة الهند دبلوماسياً أو سياسياً أو عسكرياً، وبعيداً من المخاوف النووية اتسمت مواقف أصدقاء الهند وشركائها بحياد مشروط، فكرروا موقفها من الغزو الروسي لأوكرانيا، ذلك الموقف المتمثل في عدم الانحياز لا إلى روسيا ولا إلى أوكرانيا، والمنبثق من سياسة “تعدد الاصطفافات”، وهو ما لم يُرض لا موسكو ولا الحكومات الغربية، ونتيجة لذلك لم يقف أحد إلى جانبها عندما واجهت أزمة.
لقد تصورت الهند أنها ستستفيد من منافسة القوى الكبرى، فتناور بين الصين وروسيا والولايات المتحدة لمصلحتها، وقد نجحت بالفعل إلى أن تبدلت ديناميكيات المنافسة جذرياً، فعدت نيودلهي نفسها لاعباً أساساً في آسيا لكن ترمب قوض هذا التصور لدى المسؤولين الهنود، فجاء فرضه رسوماً جمركية باهظة هذا الشهر بمثابة صدمة لصناع القرار الذين اعتقدوا أن البيت الأبيض، انطلاقاً من مصالحه، سيعامل الهند دوماً بما تستحقه من اعتبار.
لكن ترمب يسعى اليوم إلى عقد صفقات مع الصين وروسيا ويضغط على الحلفاء والأصدقاء التقليديين، ويبدو مرتاحاً لتسريع نشوء ما يشبه شراكة ثنائية (G-2) تتقاسم فيها الولايات المتحدة والصين النفوذ في العالم، وفي عالم كهذا تتراجع الأهمية الجيوسياسية للهند بصورة دراماتيكية، وهذا لا يشكل مأزقاً للهند وحدها، بل هو واقع مشابه في أوروبا وبين حلفاء أميركا في آسيا، غير أن في هذه الشكوك المشتركة إزاء الولايات المتحدة ما قد يشكل بديلاً علاجياً للسياسة الخارجية الهندية المتعثرة، فبوسع نيودلهي أن تعزز شراكاتها مع الدول الأوروبية والقوى الآسيوية الكبرى، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، التي تواجه بدورها معضلات توازن بسبب عدم موثوقية إدارة ترمب، ويمكنها أيضاً السعي إلى توثيق العلاقات مع الصين وروسيا، أو في الأقل الإيحاء بذلك، وفي هذا السياق أكد رئيس الوزراء ناريندرا مودي هذا الشهر أن بوتين سيزور الهند في وقت لاحق من العام.
لا شك في أن نيودلهي تنظر بقلق عميق إلى المقاربة التصالحية التي تعتمدها واشنطن تجاه بكين، وقد بدأت فعلاً التفكير في كيفية تعزيز دفاعاتها وتطوير منصاتها التسليحية وبناء شراكات وسلاسل إمداد موثوقة، وعليه فقد تتمكن الهند من تجاوز هذه الزوبعة الجيوسياسية بقدر من الدبلوماسية الحذقة والصبر، لكن هذه المرحلة المضطربة ستترك على الأرجح تداعيات طويلة الأمد على سياستها الخارجية ورؤيتها الإستراتيجية، فالعلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة ستتضرر بشدة، والعوامل الداخلية الأميركية التي كان يفترض أنها ضامنة للعلاقات الجيدة مع الهند، لم توقف هذا التراجع الحاد، فعلى رغم نفوذها تبدو الجالية الهندية في الولايات المتحدة عاجزة، والإجماع الحزبي المفترض المؤيد للهند لم ينجح في كبح جماح ترمب، فيما ظل الساسة وقادة الصناعة المقربون من نيودلهي صامتين بصورة لافتة، وها هي النزعة المعادية لأميركا تعود للارتفاع في أوساط السياسة الخارجية الهندية بعد عقود من التراجع، وبالنسبة إلى مؤسسة السياسة الخارجية في نيودلهي، المتمسكة بإصرار بالوضع القائم، يبقى ترمب لغزاً مستعصياً.
لكن، وبالمفارقة، يُرجح أن تكون استجابة الهند لأزمتها الحالية مزيداً من المضي في النهج ذاته، فالثغرات الكامنة في سياسة “تعدد الاصطفافات” قد تدفعها عملياً إلى التمسك بها أكثر، وإذا لم تعد واشنطن شريكاً موثوقاً فستتجه نيودلهي إلى بناء شراكات أخرى وتعزيزها، كما أن انفتاح ترمب على بكين وموسكو سيدفعها إلى السير في الاتجاه نفسه معاكسة نهجها السابق القائم على الابتعاد التدريجي منهما، فلقد خضعت سياسة “تعدد الاصطفافات” لاختبار قاس في الجغرافيا السياسية وخرجت منه مثقلة بالإنهاك، لكن صانعي القرار في نيودلهي لم يستنتجوا ضرورة التخلي عنها، بل على العكس يتهيأون لترسيخها أكثر.
*هابيمون جاكوب أسس في نيودلهي “مجلس الأبحاث الإستراتيجية والدفاعية”، وتولى تحرير مجلة “إندياز وارلد” (India’s World).