أقلام وأراء

رفيق خوري: شرق الحروب وشرق الحلول

رفيق خوري 23-8-2025: شرق الحروب وشرق الحلول

تعددت السيناريوهات والشرق الأوسط القديم-الجديد واحد. شرق أوسط “لعبت الحروب دوراً كبيراً في تشكيله” كما في كتاب صدر في السبعينيات للدبلوماسي والبروفسور ويليم كوانت، الذي كان له دور في مفاوضات ما سميت “عملية السلام” بين العرب وإسرائيل. وشرق أوسط تتجذر فيه قضايا وأزمات وجودية حلولها إما صعبة أو ممنوعة وموضوعة في خانة المستحيل. ولا حديث عن شرق أوسط جديد إلا على نار حروب جديدة قد تقود إلى متغيرات جيوسياسية، لكنها لا تبدل في طبيعة الصراع في المنطقة، ولا تستحق التصنيف في خانة الشرق الأوسط الجديد.

ذلك أن الشرق الأوسط الجديد الحقيقي يبنى على الحلول لا على الحروب. والحد الأدنى للوصول إلى هذا الشرق الجديد بالفعل هو إيجاد حلول تاريخية وجريئة لخمس قضايا مزمنة.

الأولى هي حل دائم وعادل أو على طريقة “اللهم لا نريد رد الظلم بل اللطف فيه” لقضية فلسطين بقيام دولة فلسطينية على أساس “حل الدولتين” تضم الضفة الغربية وغزة في حدود ما قبل الخامس من يونيو (حزيران) 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

والثانية هي حل عادل للقضية الكردية بعد عقود من الظلم والقمع وتجاهل الهوية وتجاوز “معاهدة سيفر” لعام 1920 التي أعطت الكرد حق تقرير المصير.

والثالثة هي وضع نهاية للمشاريع الإقليمية التوسعية الإسرائيلية والإيرانية والتركية على حساب العرب.

والرابعة هي إنهاء التمييز بين الأكثرية والأقليات لمصلحة الشعب الواحد في دولة مواطنة ونظام ديمقراطي هو الحل بدل الأنظمة السلطوية والشمولية الديكتاتورية أكانت دينية سلفية جهادية أو مدنية مزورة تغطي الوجه التعصبي بقناع من النوع الذي يقول فيه أوسكار وايلد: “أعطه قناعاً لتعرف وجهه الحقيقي”.

والخامسة هي التركيز على النمو الاقتصادي ومستوى التعليم العالي وتمكين المرأة والإبداع في صنع المستقبل في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ومن ثم كل ما تجاهلته سياسات التركيز على الحروب والصراعات على السلطة.

ولا مجال للخطأ في قراءة الأحداث. مشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يقول بنيامين نتنياهو إنه “مرتبط به عاطفياً” يقود إلى شرق قديم جداً، لا تاريخه مؤكد ثابت، ولا سند له سوى خيال حول وعد إلهي لإبراهيم الخليل وأبنائه بالأرض الممتدة من “وادي العريش إلى النهر الكبير” أي من النيل إلى الفرات، وما هو سوى مشروع لحرب دائمة في مواجهة مع الفلسطينيين والعرب من حيث ظهرت على خرائط صهيونية أراضٍ تابعة لسبع دول عربية ضمن حدود “إسرائيل الكبرى”. والأساس خطة طلبها ديفيد بن غوريون وأعدها الجيش تحت عنوان “الخطة الإستراتيجية للجيش الإسرائيلي”، والهدف تلازم هدفين أدنى وأعلى، الأدنى هو الاستيلاء على الأرض “الضرورية لإسرائيل في زمن الحرب”، وهذا ما حققته تل أبيب في حرب 1967 بالاستيلاء على أراضٍ مصرية وسورية وفلسطينية وأردنية، والأعلى هو السيطرة على أراضٍ “تلبي جميع متطلبات إسرائيل”، وبعض هذا ما يعمل نتنياهو على تحقيقه في لبنان وسوريا وبلدان أخرى.

والمشروع الإقليمي الإيراني حيث الطموح إلى استعادة الإمبراطورية الفارسية بثوب إسلامي، يؤدي أيضاً إلى شرق قديم جداً عبر “ولاية الفقيه”. شرق قائم على الغيب واستنفار مكون مذهبي في بلدان المنطقة واستخدام التكنولوجيا العسكرية في خدمة الأيديولوجيا الدينية. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية أسست ميليشيات مذهبية مسلحة في العراق وسوريا ولبنان ودعمت ميليشيا تريد العودة إلى “الإمامة” في اليمن بعد عقود من الثورة الجمهورية، وسلّحت ومولّت ميليشيات تقاتل إسرائيل في غزة والضفة الغربية. مهمة هذه الفصائل هي تشكيل “الدفاع المتقدم” عن إيران ضد إسرائيل وأميركا.

قبل “طوفان الأقصى” ومعه في البدايات كانت طهران تفاخر بأنها “تحكم أربع عواصم عربية” هي صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت، وبعد حرب غزة ولبنان وإيران بدأ انحسار المشروع. الضربة الأولى الكبيرة دمرت غزة وأجزاء من لبنان وقضت على قادة وكوادر وأفراد من “حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله”.

والضربة الكبيرة الثانية جاءت من خارج الحسابات والتوقعات: سقوط نظام الأسد على يد فصائل سلفية جهادية، وخروج إيران ونفوذها وعسكرها وعسكر “حزب الله” من الجغرافيا السورية التي قطعت “الهلال الشيعي”. والضربة الكبرى الأميركية والإسرائيلية جاءت في إيران نفسها التي بدت مكشوفة ومخترقة وعاجزة عن مواجهة الطيران الأميركي والإسرائيلي.

ثم جاءت الضربة السياسية في لبنان عبر قرار مجلس الوزراء سحب سلاح “حزب الله” وتكليف الجيش إعداد خطة وبرنامج زمني لذلك بين آخر أغسطس (آب) ونهاية العام الحالي.

مشروع “العثمانية الجديدة” في تركيا هو أيضاً ردة إلى شرق أوسط قديم. فأنقرة تلعب في سوريا والعراق وليبيا والقوقاز وما يسمى “العالم التركي” في آسيا. وما تحاوله على طريقة الأكروبات هو إقامة نوع من التوازن بين إنشاء القواعد العسكرية وتنظيم النفوذ السياسي وترتيب العلاقات الاقتصادية والسيطرة على أقسام من الشعوب بدل السيطرة على الأرض.

لكن تركيا التي “هندس” لها أحمد داوود أوغلو الانتقال من دور “الجسر” إلى دور “المركز” محكومة بعضوية “الناتو”. وإمكانات التبدل في تركيبة السلطة عبر الانتخابات، وحساسية الحسابات في أي صدام إقليمي. وإذا كان هناك من يبكي على السلطنة العثمانية ومن يريد استعادة الخلافة، فإن ما يفضله هؤلاء هو تولي الخلافة بأنفسهم، ولا أحد يريد العودة إلى أيام السلطنة التي أضرت بالخلافة.

والحواجز أمام هذه المشاريع الكبرى هي أولاً شعوب المنطقة، وثانياً حسابات القوى الكبرى الأميركية والروسية والصينية والحسابات الأوروبية. واللعبة أكبر من الشرق الأوسط، بحيث يرى المفكر البريطاني هالفورد ماكيندر أن “السيطرة على أوراسيا وخصوصاً في المنطقة الممتدة من شرق أوروبا إلى وسط آسيا هي مفتاح التحكم بالعالم”.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى