مروان إميل طوباسي: نهوض شعوب العالم في مواجهة فكر الاستعمار الجديد فرصة فلسطينية تاريخية يجب استثمارها

مروان إميل طوباسي 17-8-2025: نهوض شعوب العالم في مواجهة فكر الاستعمار الجديد فرصة فلسطينية تاريخية يجب استثمارها
في زمن تتسارع فيه الاحداث، وتتكشف فيه ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المدعوم سياسياً وعسكرياً من تحالفات عالمية يمينية شعبوية ونيوليبرالية، تظهر حركة شعوب العالم الحرة الرافضة للظلم والاحتلال كقوة جديدة لا يمكن تجاهلها. هذه اللحظة التاريخية تضع أمامنا نحن الفلسطينيين فرصة نادرة لاستثمار هذا النهوض الشعبي العالمي، ورفض مشاريع الاستعمار الجديدة التي تسعى لتدمير وطننا وتصفية قضيتنا الوطنية التحررية وتغيير وجه المنطقة .
من يتأمل اليوم مشهد الشوارع المشتعلة بالهتافات في عواصم العالم ومدنه، من نيويورك إلى جوهانسبرغ، ومن لندن إلى سانتياغو وطوكيو مرورا ببرلين وباريس وأثينا، يدرك أن ما يجري اليوم في فلسطين ليس قضية محلية، ولا نزاعا إقليميا محدودا، بل هو مرآة تعكس الصراع الأعمق بين عقلية استعمارية متجددة وإرادة الشعوب الحرة حين تتحول قصة فلسطين الى مشروع أممي تحرري لهذه الشعوب.
لقد تغيّر وجه الاستعمار، لكن عقليته لم تتبدل . فالاحتلال العسكري المباشر الذي عرفته قارات إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في القرن الماضي تحوّل اليوم إلى منظومة أكثر تعقيدا، تحالفات سياسية واقتصادية وإعلامية، تفرض الهيمنة تحت شعارات “الامن”، و”النظام العالمي”، و”القيم الديمقراطية” التي لا تُطبّق إلا على من يختار الغرب حمايتهم.
في قلب هذه المنظومة يقف التحالف الامريكي – الإسرائيلي، ومعه قوى اليمين الاوروبي التي عادت تُعيد إنتاج خطاب التفوق الحضاري وتبرير العنف ضد الآخرين، تماما كما فعل أسلافهم في القرون الماضية حين اعتبروا الشعوب المستعمَرة “أقل شأنا” و”بحاجة إلى التهذيب” . الفارق الوحيد أن إسرائيل تمثل اليوم رأس الحربة في هذا المشروع، وهي ترتكب جرائمها بحق شعبنا الفلسطيني وشعوب المنطقة بغطاء سياسي وعسكري من هذه القوى يفضح ادعائتها الأخلاقية المزعومة.
لكن في مقابل هذه العقلية، تتقدم الشعوب بخطوات واسعة غير مسبوقة. المظاهرات المليونية، والمقاطعة الاقتصادية، والضغط الشعبي على البرلمانات والحكومات ومحاصرة الموانئ أعظم ارسال شحنات الاسلحة او استقبال الاسرائيلين وبضائعهم، كلها اشكال اخذت بالتطور والإبداع تعبيراً عن وعي متنامٍ بأن ما يجري في غزة والضفة بحق الشعب الاصلاني الفلسطيني صاحب هذه الارض، ليس حدثا منعزلاً، بل امتداد لصراع عالمي على قيم العدالة والحرية والكرامة والسيادة الوطنية وحق تقرير المصير للشعوب.
بالنسبة لنا نحن كشعب فلسطيني، لا يمكننا أن نكون متفرجين أمام هذا التحول في الوعي العالمي، بل علينا أن نكون أكثر فاعلية في استثمار هذه اللحظة التاريخية التي قد لا تتكرر . هذا النهوض العالمي هو فرصة ذهبية لإعادة طرح قضيتنا على الساحة الدولية بقوة أكبر، وكسر الحصار السياسي والإعلامي الذي حاولت القوى الاستعمارية فرضه لعقود .
ولكن النجاح في استثمار هذا الدعم لا يأتي بمجرد الاحتفال بهذا التضامن مع كفاح شعبنا وتضحياته الجسام، او اصدار بيانات التأييد لها . بل يتطلب رؤية سياسية واضحة وخطة عمل وطنية تضمن أن يبقى صوتنا مسموعا ومؤثراً. علينا أن نتمسك بحقوقنا الوطنية غير القابلة للتصرف أو القبول بفرض “حقائق جديدة” على الأرض بحجج الواقعية السياسية او اختلال موازين القوى، من مثل ما يسمى “مشروع الشرق الاوسط الجديد” أو مخططات “إسرائيل الكبرى” التي تسعى لتصفية قضيتنا الوطنية وإلغاء وجودنا .
في هذه المرحلة، يجب على القيادة الفلسطينية في منظمة التحرير التي تحتاج الى القرار بأستنهاضها الجاد والفعلي لتعكس مفهومها كجبهة وطنية عريضة، والمؤسسات الوطنية، ومختلف الفصائل والقوى الاجتماعية والاهلية، أن توحد الصف وتنسق الخطوات لاستثمار هذا الزخم الشعبي العالمي في الضغط على الحكومات الغربية وحلفائها، وكشف زيف ادعاءاتهم عن “السلام” و”الامن”.
كما يجب تعزيز العمل الشعبي الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها، عبر دعم كفاح شعبنا ومقاومتها الشعبية والسياسية والقانونية بكل أشكالها المشروعة، وتفعيل المقاطعة الاقتصادية والثقافية، وتكثيف الحملات الإعلامية التي تكشف الوجه الحقيقي للاحتلال الاستعماري وأدواته.
إن النهوض العالمي الحالي ليس هبة عابرة، بل هو اختبار حقيقي لقدرتنا على فرض إرادتنا الوطنية في وجه عقلية استعمارية جديدة تحاول استدامة الهيمنة عبر أدوات سياسية واقتصادية، ومحاولة طمس هويتنا الوطنية .
واليوم ومع اقتراب موعد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول القادم، تبرز أهمية المبادرة السياسية العملية، ما يتطلب التقدم بورقة ضغط فلسطينية جادة بإعلان “دولة فلسطين تحت الاحتلال” أمام هذا اللقاء الاممي، مع التوجه لاستكمال إجراءات العضوية الكاملة للدولة في المؤسسات الاممية بعيدا عن القيود والالتزامات التي فرضها اتفاق أوسلو، والذي بات من الماضي .
ليكون بذلك، الاعتراف بدولة فلسطين ليس مجرد تظاهرة سياسية رمزية لا تأثير لها على مجريات الامور نحو ضرورة إنهاء الاحتلال ومعاقبة اسرائيل ولكي لا يكون الحديث عن مبدأ حل الدولتين دون إنهاء الاحتلال وتجسيد معادلته وفق حدود ما قبل الرابع من حزيران عام ٦٧، لكي تترجم الاعترافات إلى حقائق على الارض .
خاصة وان قرار الجمعية العمومية في ايلول العام الماضي ٢٠٢٤ قد أكد وجوب إنهاء الاحتلال والاستيطان وأعطى إسرائيل مهلة سنة لعمل ذلك تنتهي الشهر القادم .
وهنا يبقى السؤال كيف ستتعامل مع ذلك الجمعية العمومية لهيئة الامم المتحدة في دورتها السنوية الشهر القادم بشكل فعال يُبقي احتراما وماء الوجه لقراراتها دون مصادرته من جانب الهيمنة الامريكية، ام انه سيتم التغطية عليه وتجاهله في ظل الاجواء المهرجانية للاعتراف بدولة فلسطين والضغوطات التي تمارسها قوى الاستعمار الجديد وبالمقدمة منها الولايات المتحدة .
كل ذلك باعتقادي وكل الوطنيين، يستوجب فورا تعزيز الديمقراطية والتجديد في كافة فصائل العمل الوطني وبالمقدمة منها حركة “فتح” من خلال ضرورة انعقاد مؤتمراتها العامة المستحقة لاستمرار دورها كحركات للتحرر الوطني، والدعوة الى الحوار المسؤول العريض للتوافق الوطني على تشكيل مجلس تأسيسي للدولة، يضع أسس النظام السياسي الفلسطيني المستقل وإعلان دستور الدولة يَصدر بأعلان رئاسي، ليتبع ذلك إعلان موعد انتخابات برلمان دولة فلسطين ليحل مكان المجلس التشريعي للسلطة الوطنية، وذلك بالتزامن مع انتخاب المجلس الوطني لمنظمة التحرير، حين انتهاء عدوان الإبادة والتجويع والتطهير بحق شعبنا في غزة وضمان اجرائها بديمقراطية ونزاهة وفق الانظمة والقوانين لتجديد الشرعية الوطنية بعيداً عن أية تدخلات إقليمية أو دولية، أو قيود أو إستحقاقات تقيدنا أو تفرّقنا.
اليوم، ليس مجرد وقت للاشادة بالتضامن الدولي على أهميته التي ذكرتها فقط، بل هو وقت العمل والمبادرة السياسية. علينا أن نتحرك بإرادة وطنية موحدة، نستثمر فيها هذا الزخم الشعبي العالمي الذي بدأ يؤثر على المواقف الرسمية لدول عدة بالغرب في سبيل استعادة حقوقنا كاملة، ورفض أية حلول جزئية أو فرض وقائع جديدة على الارض . فالقضية الفلسطينية منذ نشأتها ليست قضية ذات بعد وطني او قومي فقط، بل هي قضية كرامة وحرية الإنسانية التي تنتفض اليوم بأكملها، ونصرها
سيعيد للعالم معنى العدالة والإنسانية .
ومع ذلك، وبينما يفتح العالم بشعوبه أمامنا فرصة تاريخية، لا يخلو مشهدنا الداخلي الفلسطيني من محاولات إلهائنا بقضايا جانبية أو مشاريع عبثية لا تخدم هدفنا الوطني التحرري الجامع . ففي خضم هذا المشهد المعقد واستمرار جرائم الإبادة دون اتفاق بنهايتها، يطلّ علينا البعض بما يمثل من مراكز مصالح او نفوذ قد تكون مرتبطة برؤى خارجية بحجج البراغماتية بأفكار أشبه بمحاولة بناء السقف قبل وضع الاساس، فلا البناء قائم ولا الارض مهيأة لتقبل لمفهوم مواقع “حاكم”، وكل ما يجري عملياً هو إدخال خلاف داخلي جديد إلى ساحتنا الفلسطينية المرهقة أصلاً بما يكفيها من أزمات وتحديات.