أقلام وأراء

د. عمرو حمزاوي: أوروبا وغزة… أن تأتي دوما متأخرا

د. عمرو حمزاوي 12-2025: أوروبا وغزة… أن تأتي دوما متأخرا

تأخر كثيرا قرار الحكومة الألمانية حظر تصدير السلاح والمعدات العسكرية وقطع الغيار لإسرائيل. لكن أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا. وينطبق نفس الأمر على الدول الأوروبية الأخرى التي وبعد ما يقرب من عامين على حرب غزة قررت أخيرا التحرك في اتجاه الاعتراف بدولة فلسطين أو التلويح بالاعتراف إن لم تتوقف إسرائيل عن حربها.

يأتي الأوروبيون كعادتهم بعد خراب مالطة. ومع ذلك، تذهب خطواتهم الراهنة في الاتجاه الصحيح، وقد تنقذ شيئا من نظرة الفلسطينيين والعرب إليهم كقوى فقدت النفوذ والتأثير.

فقد أثبتت الحرب في غزة بما لا يدع مجالا للشك أن أوروبا لا سياسة خارجية موحدة لها، وأن دولها الكبرى كبريطانيا وفرنسا وألمانيا لا تعدو أن تكون كيانات غير فاعلة وتابعة فيما خص منطقة الشرق الأوسط وصراعاتها المتراكمة. غابت دبلوماسية الاتحاد الأوروبي مثلما غابت الدبلوماسية البريطانية عن جهود الوساطة بين إسرائيل وفلسطين إن لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب أو من أجل التوصل إلى هدن مؤقتة تحمي الأرواح والمنشآت العامة والخاصة. على مدار ما يقرب من عامين من الحرب، لم يفعل الأوروبيون شيئا.

ومع تنامي الاحتجاجات الشعبية في العواصم الأوروبية بسبب استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية وحقائق الدماء والدمار والنزوح والجوع والعطش التي كانت تفرضها على أكثر من مليونين من الفلسطينيين في القطاع وبسب تواصل عنف المستوطنين المتطرفين في الضفة الغربية، مع تنامي تلك الاحتجاجات اتجهت الحكومات الأوروبية إلى الضغط الأمني على المواطنين والمقيمين ذوي الأصول الفلسطينية والعربية والإسلامية وإلى المنع الإداري لبعض التجمعات والتظاهرات تارة بالدفع بحضور أعلام ولافتات لحركة حماس المصنفة إرهابية وتارة باستدعاء «معاداة السامية» كاتهام مسبق وجاهز للتعميم على جميع الفلسطينيين والعرب والمسلمين من غير دليل.

في هذا السياق أيضا، اتسمت ممارسات الحكومات الألمانية والبريطانية والفرنسية بالتعسف الشديد، وفي برلين بتعقب أمني لا سند قانوني له لمتعاطفين مع فلسطين وفي لندن بتصريحات عنصرية لوزيرة داخلية اضطرت إلى الاستقالة وفي باريس بشيطنة للحضور العربي والإسلامي ما لم يعلن تنصله من الحق الفلسطيني.

واختلف جذريا المشهد المجتمعي في أوروبا عن نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية. فالأخيرة وإن انحازت سياسيا وعسكريا وماليا بالكامل لإسرائيل، إلا أن لا سلطاتها الفيدرالية ولا حكومات ولاياتها قيدت الاحتجاجات المناهضة للحرب التي نظمت في عديد المواقع ولم تحدث بها ممارسات يمكن توصيفها كصنوف من التعقب الأمني بعيدا عن بعض الجامعات. بل أن الضغوط العامة التي واجهها المتعاطفون مع قضية فلسطين في الفضاء العام الأمريكي تراجعت تدريجيا على وقع تصاعد الانتقادات العلنية الموجهة إلى إسرائيل وشبهات تورطها في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في غزة. وبينما طالت تلك الانتقادات عتبة غير مسبوقة بمناقشة مجلس الشيوخ الأمريكي لمقترح السيناتور بيرني ساندرز المتعلق بفرض قيود على الدعم العسكري والمالي المقدم لإسرائيل بسبب الجرائم المرتكبة في القطاع، فإن أوروبا لم تتحرك لا على مستوى حكوماتها ولا على مستوى برلماناتها في اتجاهات مشابهة.

كذلك، وبعيدا عن تصريحات منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي المتعاطف مع الحقوق الفلسطينية المشروعة، ابتعدت أوروبا عن جهود الوساطة والتفاوض بين إسرائيل وفلسطين وتركت الأمر لأطراف إقليمية مؤثرة كمصر وقطر ومعهما الولايات المتحدة. كانت الوساطة المصرية-القطرية التي أنجزت الهدنة الأولى والوحيدة حتى الآن وأسفرت عن الصفقة التبادلية بين رهائن إسرائيل وأسرى فلسطين، كانت هذه الوساطة هي التي نجحت قبل الهدنة في إخراج رعايا أوروبيين من غزة وتمكنت مع الهدنة من الإفراج عن بعض حملة الجنسيات الأوروبية من الرهائن الإسرائيليين (أي بعض مزدوجي الجنسية).

ولم يجب الشرق الأوسط بحثا عن فرص لتهدئة الأوضاع واحتواء الحرب في غزة ومنعها تمددها الإقليمي من الغربيين سوى بعض المسؤولين الأمريكيين.

فقط في سباقين محددين يرتبطان بخطر التمدد الإقليمي للحرب نشط بعض الأوروبيين، في لبنان وفي المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. فقد عبرت فرنسا أكثر من مرة عن قلقها من خطر تجدد التصعيد العسكري في لبنان بين إسرائيل وحزب الله وأرسلت وزير خارجيتها إلى تل أبيب وبيروت لحث جميع الأطراف على ضبط النفس والبحث عن سبل دبلوماسية للاحتواء على نحو يمنع تجدد الحرب،

من جهة أخرى، شاركت أكثر من دولة أوروبية، من بينها ألمانيا، في التحالف البحري الدولي الذي شكلته الولايات المتحدة الأمريكية لحماية الملاحة الدولية في البحر الأحمر على خلفية هجمات الحوثيين ضد السفن التجارية ثم انضمت القوات البحرية والجوية البريطانية إلى القوات الأمريكية في شن هجمات على مواقع الحوثيين في اليمن بهدف الردع. كما اتجهت الدبلوماسيات الأوروبية صاحبة العلاقات الهادئة مع إيران، تحديدا دبلوماسيات باريس وبرلين وبدرجة أقل لندن، إلى مطالبة طهران بالضغط على القيادات الحوثية للتوقف عن مهاجمة السفن التي تمر في البحر الأحمر والامتناع عن تهديد الملاحة البحرية في ممر بالغ الأهمية للتجارة العالمية.

وكان الأوروبيون هنا يفعلون ما طالبتهم به الولايات المتحدة، مثلما طالبت الأخيرة الصين بالضغط على إيران السيطرة على وكيلها في اليمن.

بعيدا عن الساحة اللبنانية والتطورات في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، لم يخرج الأوروبيون من كمونهم فيما خص الحرب في غزة وسجلوا بذلك تقزيم دولهم إما إلى كيانات غير فاعلة أو كيانات تابعة للولايات المتحدة.

والحقيقة أن ذلك يمثل تحولا كبيرا في السياسات الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية التي سبقت القارة العجوز إلى دعمها وإقرار حق الفلسطينيين في تقرير المصير في 1980 (إعلان البندقية) وأتبعت ذلك بدبلوماسية سلام نشيطة في أعقاب حرب تحرير الكويت كما ظهر في استضافة العاصمة الإسبانية مدريد لمؤتمر السلام، وفي إجراء الإسرائيليين والفلسطينيين لمفاوضات السلام اللاحقة في العاصمة النرويجية أوسلو والتي أسفرت عن توقيع اتفاقيات سلام، وفي الدور الهام الذي اضطلع به الأوروبيون في اللجنة الرباعية الدولية التي عملت على الحيلولة دون انهيار مفاوضات الحل النهائي والتسوية السلمية على أساس حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين طوال النصف الثاني من التسعينيات والعقد الأول من الألفية الجديدة.

لم تعد أوروبا مأزومة فقط على صعيد تحولاتها السياسية والمجتمعية الداخلية التي تشهد صعودا حادا لليمين المتطرف وللتيارات العنصرية، بل أضحت عاجزة أيضا في سياقات سياستها الخارجية التي اتجهت إلى التورط في مواجهة خاسرة مع روسيا في أوكرانيا وها هي اليوم تتجاهل منطقة الشرق الأوسط وترتضي الانكماش إلى طرف هامشي في جوارها المباشر في شرق البحر المتوسط.

ومع كل ذلك تذهب الخطوات الأوروبية الأخيرة في الاتجاه الصحيح وأتمنى لها الاستمرار، خاصة مع تصاعد العدوانية الإسرائيلية واعتماد حكومة التطرف في تل أبيب لخطط احتلال غزة وترويجها مجددا لجريمة تهجير الفلسطينيين.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى