عبد الغني سلامة: حول تسليم السلاح

عبد الغني سلامة 11-8-2025: حول تسليم السلاح
هناك من يقول، إنه إذا تم تسليم سلاح «حماس» فسوف يستفرد الاحتلال بأهل غزة، وسيرتكب مجازر، ويضربون أمثلة صبرا وشاتيلا وسربرنيتسا في البوسنة وغيرها .. عدا أن هذه الأمثلة لا تنطبق على حالة غزة، والمقارنة معها لا تجوز، المشكلة أن هؤلاء لا يرون دماء 61 ألف شهيد ممن وصلت جثامينهم للمستشفيات، وأضعاف هذا الرقم من المفقودين والجرحى وذوي الإعاقة .. ولا يرون استباحة أعراض المدنيين وإذلالهم وتشريدهم وإجبارهم على النزوح في أماكن تفتقر لأبسط شروط الإنسانية وضمن ظروف مهينة وصعبة وتحط من الكرامة الإنسانية .. لا يرون آثار القصف والدمار واجتياح كل منطقة يقرر الجيش دخولها .. لا يرون كل هذا الإجرام الإسرائيلي الذي يمارسه جيش الاحتلال بكل جبروت وغطرسة وتفوق ودون أي إعاقة أو تأخير .. بالرغم من وجود سلاح «حماس»، الذي لم يحمِ بيتا ولم يمنع قصفا ولم يؤخر اجتياحا ولم ينقذ روحا واحدة.
لم يروا أكثر من ستين ألف شهيد قُتلوا في مجازر دموية شنيعة يرتكبها الاحتلال كل يوم، وكل ساعة .. لم يروا تلك المجازر، أو لا يعتبرونها مجازر !!! لأنهم يعتقدون أن قنص جندي أو إعطاب دبابة أهم من دماء مئات الآلاف من المدنيين .. يعتبرون مصير «حماس» أهم من مصير الشعب، وأهم من القضية الفلسطينية.
من يفكرون بهذه الطريقة، ويصرون على ترديد مقولات على طريقة النسخ واللصق دون تفكير، يبدو أن كل همهم تجنيب «حماس» أي نقد، وعدم تحميلها أي مسؤولية، ليس شرطا الدفاع باستماتة عن «حماس»؛ إنما عن فكرة المقاومة، وهذا مشروع ومن حق كل فرد الدفاع عن قناعاته، ولكن ليس إلى درجة التجرد من الإنسانية، واسترخاص الدم الفلسطيني. والانفصال عن الواقع.
لم يدعُ أحد «حماس» إلى أن تسلم سلاحها لإسرائيل، إنما للسلطة الوطنية، أو لأي جهة عربية أو دولية يتم اتفاق الأطراف عليها .. هذا أولاً، وثانياً، تستخدم إسرائيل سلاح «حماس» حجة وذريعة لإدامة أمد الحرب، وبالتالي لنسحب منها هذه الذريعة، هذا يضعف موقفها، ويفكك التحالف الدولي الداعم لها، ويضعها في موقف حرج. ثالثا، وربما الأهم: واهم من يعتقد أنه بمجرد تسليم «حماس» سلاحها ستتوقف الحرب وينتهي العدوان، وترجع الأمور إلى سابق عهدها .. استجابة «حماس» للمبادرات الأميركية والعربية المطروحة كان من الممكن أن تؤدي لإنهاء الحرب لو تمت في بداياتها، الآن فات الأوان، وكلما تأخرنا سندفع أثمانا إضافية.
ورابعا، لا يمكن لسلاح «حماس» أن يحسم من الناحية العسكرية، ليس في هذا أي ذم لـ»حماس»، فالتفاوت في موازين القوى كبير جدا، وسلاحها لم يمنع ولم يعطل ولم يؤخر أي تقدم لجيش الاحتلال، الذي يسيطر بالكامل على القطاع، رغم تكبده خسائر بشرية ومادية من حين لآخر، لكن هذا لا يغير شيئا من المعادلة، ولا يؤثر على مخططات إسرائيل الإستراتيجية؛ إذاً، ما جدوى السلاح من الناحية العسكرية؟ القيمة الوحيدة في رمزيته، خاصة عند من يقدسون السلاح، ويجعلون منه تابو يُحرم الاقتراب منه .. وهنا سنجعل من رمزية السلاح أهم وأولى من حياة مليوني إنسان، وأهم من مصير القضية الفلسطينية، وأهم من مستقبل الشعب الفلسطيني.
جميعنا يعلم أن سلاح «حماس» عبارة عن أسلحة خفيفة، ربما لدى عائلات غزة مثلها وأكثر، وعند الحديث عن دولة منزوعة السلاح، أو تسليم جهة ما أسلحتها لا يشمل ذلك الأسلحة الخفيفة .. مثل هذا الكلام قد ينطبق على سلاح «حزب الله»، الذي ما زال يمتلك صواريخ ومسيّرات وأسلحة متوسطة وربما ثقيلة .. لكن إسرائيل تصر على نزع سلاح «حماس» لأنها تستخدمه ذريعة سياسية، وتريد أن تحوّل تسليمه إلى صورة رمزية لانتصارها. طبعا، لا أحد يريد منح إسرائيل هذه الصورة، لكن إصرار «حماس» على موقفها يعني استدامة الحرب، ومقتل المئات، ومن يدفع فاتورة هذا الموقف هم الناس المدنيون: الأطفال والنساء والكهول.. ومستقبل قضية فلسطين.
تسليم السلاح وخروج «حماس» من المشهد السياسي لن يؤديا لإنهاء الصراع، هذا مؤكد، لكنهما سيفتحان نافذة سياسية، ما يعطي الفلسطينيين مساحة للمناورة، وعلى الأقل قد يؤدي إلى هدنة يستريح خلالها أهل غزة من القتل والقصف .. وهذا مهم جدا.
إسرائيل قادرة على مواصلة عدوانها كما تخطط مع وجود أسلحة «حماس» وبدونها، وهي راغبة بذلك، وصولا إلى تنفيذ مخطط التهجير، وضم الضفة الغربية وتصفية القضية، وبالتالي المطلوب كبح هذا الهجوم الإسرائيلي بالطرق السياسية وبالاستعانة بما هو مطروح من مبادرات دولية، تدعو لإقامة دولة فلسطينية.
في الضفة الغربية، لا توجد قوة لـ»حماس»، ولا توجد مقاومة عسكرية مثل غزة .. ومع ذلك قتلت إسرائيل خلال سنتي الحرب نحو ألف فلسطيني، بينما قتلت في غزة 61 ألفا، والفرق بين الرقمين هائل، والفرق في مستوى التدمير هائل، ولا تجوز حتى المقارنة .. وهذه المقاربة تدعونا لطرح السؤال بطريقة جديدة: ما هي النتيجة الحقيقية لوجود سلاح «حماس»؟ مع التأكيد أن إسرائيل تستهدف الشعب الفلسطيني كله وأينما تواجد، لكنها ليست مطلقة اليد للدرجة التي يتصورها البعض .. فلو كانت كذلك لقضت على كل الفلسطينيين، ولطردتهم من أرضهم بلا تردد.
السلاح بحد ذاته ليس مقدساً، المقدس الوحيد هو الإنسان، وحياته وكرامته .. المقاومة نفسها ليست هدفاً؛ إنما هي وسيلة وأداة .. الهدف الصحيح والأهم هو الحفاظ على الوجود الفلسطيني فوق الأرض الفلسطينية .. وهذا يتطلب إعادة النظر في أساليب المقاومة وأدواتها، ومدى نجاعة كل أسلوب .. فالمقاومة ليست سلاحا وحسب، السلاح الأقوى والأهم هو إرادة الشعب وتصميمه على نيل الحرية والتحرر من الاحتلال .. ومواصلته النضال والمقاومة بالأساليب والطرق التي تضمن بقاءه فوق أرضه، وتقوده إلى تحقيق أهدافه.
عدا ذلك مجرد أصنام فكرية يجري تقديسها وعبادتها: الحزب، والأيديولوجية، والشعارات، والزعامات، والسلاح بما يحمله من رمزية القوة والعنف والانتقام وعصاب الذكورية .. في عالم تغيرت فيه كل المفاهيم، وكل أدوات الكفاح.
دول وأنظمة وأحزاب وجيوش جبارة عديدة استسلمت وألقت سلاحها عندما قررت أن حياة شعوبها ومستقبلها هو الأهم والأولى .. ثم بنت نفسها بطريقة جديدة، وتطورت، وحققت انتصارها الحقيقي فيما بعد .. عندما استوعبت الصدمة واستفادت منها.