أقلام وأراء

وليد فارس: غزة شرقية وغزة غربية مرحليا؟

وليد فارس 26-102-2025: غزة شرقية وغزة غربية مرحليا؟

مع توسع النقاش الصاخب حول مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإنهاء حرب غزة وإعادة إعمارها، باتت الأوساط المراقِبة والصحافية عربياً وإقليمياً ودولياً تتساءل حول قدرة المشروع على اجتياز المصاعب التي باتت تبرز وتنتشر من كل صوب وحدب، وقد وصل بعضها إلى التشاؤم وبعضها الآخر إلى تفاؤل معقول. ففي الأسابيع الماضية شاهدنا سلسلة تطورات من زيارة ترامب إلى إسرائيل إلى قمة شرم الشيخ وإعلان وتوقيع “مشروع العشرين نقطة”.

وبدأت إسرائيل بالانسحاب إلى خط أصفر وأطلقت “حماس” الرهائن الأحياء، إلا أن الشيطان دخل في تفاصيل المرحلة الثانية. ومن أهم التعقيدات التعثر في الانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية، وهذه الأخيرة عملياً هي مفتاح إعادة الإعمار. فماذا حدث في المرحلة الأولى، ولماذا تتعثر المرحلة الثانية وتتجمد المرحلة الثالثة؟ سنحاول إيجاد الأجوبة.

المرحلة الأولى التي أتت في مشروع ترامب شملت انسحاباً إسرائيلياً حتى الخط الأصفر على طول حدود القطاع مع إسرائيل، يقابله تحرير الرهائن الإسرائيلية من ناحية، وإطلاق المعتقلين الفلسطينيين من ناحية أخرى، وقد شمل الاتفاق تسليم “حماس” جثث الإسرائيليين الذين قُتلوا، ولكن الجثث لم تصل كلها في الوقت نفسه، فأطال الموضوع إقفال الفصل الأول.

ولكن المرور إلى الفصل الثاني بات الآن في غاية الصعوبة، لكنه غير مستحيل. فالشروط الأميركية التي وقع عليها “شركاء شرم الشيخ” تمر عبر فقرة أمنية واضحة، وهي نزع سلاح “حماس” (Disarming Hamas)، ويلي ذلك تأليف قوة أمنية دولية تتولى تثبيت الأمن في قطاع غزة. إلا أنه يبدو أن تسليم الرهائن شيء والانحلال العسكري الذاتي لـ”حماس” شيء آخر. الميليشيات الإسلامية ليست لديها أي أفق فعلي خارج كونها قوة عسكرية في السلطة، فكيف تقبل أن تتحول إلى مجموعة سياسية خارج السلطة؟ لذا، فمن المنتظر أن ترفض أو على الأقل تؤخر نزع سلاحها.

أما إسرائيل، فهي أساساً غيرت استراتيجيتها لإنهاء “حماس” بسبب هدفها باسترجاع الرهائن، والطرف الدولي الوحيد القادر على إعادتهم الرئيس ترامب الذي طلب من نتنياهو العودة عن قراره الحربي وأن يتسلم الرهائن، وينسحب وراء خط إلى الشرق.

“حماس” من ناحيتها حصلت على انسحاب إسرائيلي معين، ودخلت في معادلة تحميها اتفاقية ترمب وغطاء عربي- تركي. وبما أن “القوة الأمنية” ليست جاهزة بعد، فيبدو أن “حماس” اتخذت قراراً بإعادة النظر في البند الأمني، وهو مفتاح الفصل الثاني، فتقدمت مجموعاتها خلف الجيش الإسرائيلي المنسحب وتمركزت في المواقع التي أخلتها. ومع اقتراب الميليشيات من خطوط جيش يعيد تمركزه، حصلت اشتباكات بين الطرفين، إذ لا يمكن ضبط وقف إطلاق النار من دون مراقبين ومن دون قوات فصل.

إلا أن “حماس” وحلفاءها الإقليميين باتوا يسربون مواقف تقول إن الفصل الثاني من الاتفاق يجب إعادة صياغته، ومن ثَم ربط نزع سلاح “حماس” بما سُمي “قراراً وطنياً فلسطينياً”، وما وصفوه بأنه “حل شامل يقود إلى الدولتين”. لذا فالمحور الحمساوي، وهو عملياً محور إقليمي إسلامي، قرر أن “يُغير” في نص الاتفاق الذي وقع عليه زعماء دول متعددة، لمنع نزع السلاح حتى استبدال هذا الحل بمعادلة تسمح باستمرار “حماس” ولو بصيغة أخرى.

الرئيس ترامب يريد تنفيذ مشروعه بطريقة أو بأخرى، ولو كلف ذلك “إعطاء فرصة إضافية” لـ”حماس” بطلب من “الأصدقاء الإقليميين”. ويجد الرئيس نفسه بين ضغطين: اللوبي المؤيد لإسرائيل والمسيحيين الإنجيليين من جهة، الذين يطالبون بفكفكة “حماس”، و”اللوبي” المدعوم من قطر وتركيا من جهة أخرى، الذي يسعى لإقناع البيت الأبيض بإعطاء الوقت لـ”حماس” حتى إيجاد حل لسلاحها.

فخرجت مواقف من الرئيس بالاتجاهين: تصريح هدد فيه “حماس” بأن تسلم سلاحها أو “ننزعه نحن” (أي بالقوة العسكرية)، وتصريح آخر أعلن فيه “أنه لا بأس أن تستمر مجموعات (حماس) على الأرض حتى قيام القوة الأمنية”. لذلك، أصبح الفصل الثاني شبه مشلول، لكن مع أمل أن يتم نشر القوة المتعددة بأسرع وقت ممكن، إلا أن غياب قوة فصل بين الطرفين المتواجهين في غزة يزيد الأمور تعقيداً.

إسرائيل لم تكن مسرورة بفكرة الانسحاب الجزئي إلى أطراف القطاع، لكنها قبلت بذلك عندما وعدتها الإدارة بتنفيذ سريع لنزع السلاح. كانت تفضل الاستمرار في العملية حتى تفكيك “حماس”، إلا أن مبعوثي ومستشاري ترامب أقنعوا الرئيس بضرورة وقف العملية الإسرائيلية واستبدالها بمفاوضات أميركية.

انكفأت إسرائيل إلى حزامها حول غزة، وأعلنت أنها لن تقوم بأي انسحاب جديد قبل نزع سلاح “حماس” في المنطقة الأخرى. لكن تقدم الميليشيات باتجاه الخطوط الإسرائيلية الجديدة، وسعيها لإعادة السيطرة على المناطق التي عادت إليها، وتنفيذ الإعدامات بالمعارضين، ورفضها نزع السلاح، فُسر في إسرائيل على أن الحركة قررت السيطرة على غزة غرب الخطوط الإسرائيلية.

ولذا ستظل الحكومة الإسرائيلية ترفض الانسحاب من شرق غزة ما دامت “حماس” موجودة في غربها. وهذا يعني أمراً واحداً: إن لم تحسم واشنطن الموقف وتنزع سلاح “حماس” بمفردها أو مع حلفائها، فإن المرحلة الانتقالية للقطاع ستشهد بروز “غزتين”: غزة الشرقية تحت حكم إسرائيلي، وغزة الغربية تحت سيطرة “حماس”، إلى أن تتخذ إدارة ترمب قرارها. وقد تطول مرحلة هذا “الستاتيكو”، وقد لا تطول، بحسب من سيحسم صراع النفوذ في واشنطن.

والأسئلة ستتفرع حتماً: هل ستقبل الإدارة بواقع جديد لمنطقتين في غزة إذا حصل؟ وهل ستكتفي إسرائيل بغزة شرقية “كغلاف” داخلي إسرائيلي يبعد “حماس” وحلفاءها عن الحدود لمنع غزوات مستقبلية؟ وإن تمركزت إسرائيل في الشرق، فستتمركز “حماس” في الغرب، لكن غزة الغربية ستكون أكبر وأكثر سكاناً وتشمل الساحل، فيما ستكون غزة الشرقية منطقة أمنية إسرائيلية.

“حماس” ستستفيد من سيطرتها على غزة الغربية، لأنها ستتحكم بالمدن الأساسية والاقتصاد والإعلام، وستحاول الاستفادة من أي مشروع مالي أو اقتصادي مطروح. وإذا لم تسلم “حماس” سلاحها في الغربية، فقد تسلح إسرائيل “المقاومة الفلسطينية” في المنطقة الشرقية من غزة. وإن لم يدخل جيش عربي مع سلطة فلسطينية معتدلة ومقبولة، فسيكون هناك ميليشيتان عربيتان في القطاع وسلطتان فلسطينيتان، وربما علاقات سياسية متبادلة من الطرفين.

في الخلاصة، الخيارات تتمحور حول عناوين كبرى. أصدقاء “حماس” سيسعون إلى مراجعة اتفاق شرم الشيخ لتشريع “حماس” وسلاحها، فيما ستضغط إسرائيل لتنفيذ اتفاق شرم الشيخ كما ورد في نصه، أي نزع سلاح الحركة. أما عرب الاعتدال، فيقفون مع قرارات قمة سيناء وقد يطلبون من مصر التدخل للفصل بين المعسكرين. ويبقى القرار الأخير بيد الرئيس ترامب، على ألا يتأخر، فإما العودة إلى الحرب، أو “لبننة” غزة، أو اتخاذ قرار حاسم من ترامب، وهو قرار غير سهل.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى