أقلام وأراء

وليد فارس –  الأجندات المتناقضة لـ”الناتو” تجاه الشرق الأوسط

وليد فارس 13/10/2021

هل لدى الولايات المتحدة ثوابت استراتيجية نحو هذه المنطقة أم أنها تتبدل رأسا على عقب كل أربع أم ثماني سنوات؟

يكثر الكلام ويتشعب دائماً حول موقف الحلف الأطلسي بين واشنطن وبروكسل والشرق الأوسط الكبير، لا سيما لدى أصحاب القرار والرأي العام على شطري الأطلسي والمتوسط. فدول المنطقة، لا سيما تلك المنخرطة في أزمات وصراعات من سواحل اليمن إلى صحاري ليبيا إلى جبال كردستان، مهتمة إلى أبعد الحدود بموقف “الناتو” وقراراته، وثقله في الميزان. هل يقف الحلف مع فريق أم آخر، هل يدعم حكومة أم أخرى، وهل يتدخل في ساحة ما أم لن يتدخل؟ الجواب على هذه الأسئلة ثمنه حياة أم موت لنظام، لمقاومة، ولأقلية ما. وطالما نُسأل من العالم العربي، مباشرة أم عبر الإعلام، ماذا يريد “الناتو” من هذه القضية، وما سوف يفعل في هذا الملف؟ هذا المقال سيضيء بعض الشيء على ما يرى وربما ما يرى أقل في مواقف الحلف وأدائه، ونبدأ بنقطتين لا خلاف حولهما.

“الناتو” والاتحاد السوفياتي

من الواضح تاريخياً أن “حلف شمال الأطلسي” قد أطلق في الرابع من أبريل (نيسان)، 1949 أساساً للتوازن مع قوة الاتحاد السوفياتي الصاعدة بشكل دراماتيكي وقتها. ما دفع الحلفاء الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لبناء حلف عسكري لصد السوفيات في أوروبا وردعهم عن أي تقدم باتجاه الغرب. وتحول “الناتو” إلى أكبر حلف عسكري في التاريخ مع ثلاث قوى عظمى ونووية. وكانت وحدة الهدف والعمل والانضباط بين أعضائه واضحة وجلية. فخلال عقود الحرب الباردة، وقف أعضاء الحلف صفاً واحداً مرصوصاً لمواجهة الأزمات المتتالية مع موسكو، مركزين على وحدة أوروبا الغربية مع كندا والولايات المتحدة عسكرياً وسياسياً، وكانت فترة الرئيس ديغول قد تميزت بارتباط سياسي بالحلف وعلاقة مستقلة على الصعيد العسكري، إلا أن القوة العسكرية والنووية الفرنسية استمرت في المعسكر الغربي المواجه للسوفيات.

قيادة أميركية مستمرة

منذ أن انطلق، كانت للحلف قيادة عالمية واضحة وحاسمة، و”للعم سام”، أي للولايات المتحدة. فهي المارد الغربي و”الكوبوي النووي” ذو الترسانات العسكرية الواسعة. أميركا كانت القوة الوحيدة القادرة على ردع، وربما كسر السوفيات لو تفجرت حرب كبيرة، لذا لم يناقش أعضاء “الناتو” قيادة واشنطن للحلف كما لم يناقش أعضاء حلف “وارسو” قيادة الاتحاد السوفياتي المطلقة للكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة، واستمرت ريادة أميركا في زعامة الغرب وحلفائه لستة عقود من دون منازعة.

بعد السوفيات

خلال التسعينيات، استمر الحلف موحداً وراء الأميركيين، وأرسل قواته إلى جبهات خارج المواجهة مع الشيوعيين. فتحرك “الناتو” في يوغوسلافيا، أولاً في البوسنة، وبعدها في كوسوفو، واستمر الأعضاء موحدين وراء الولايات المتحدة يشاركون عسكرياً وسياسياً، فوصل الحلف إلى ذروة قوته ونفوذه الدولي في غياب قوة عالية تهدده، ودخلت دول أوروبا الشرقية إلى صفوفه، فوصل الحلف إلى البلطيق على حدود روسيا الاتحادية.

ورداً على ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، تحرك “الناتو” ليؤازر أميركا في حملتها لإسقاط حركة “طالبان” في أفغانستان، وشاركت الدول الأوروبية وكندا في الحملة لعشرين سنة. وكانت هذه أطول حملة وأبعدها عن أراضي الغرب وعن الأطلسي، والتزمت دول الحلف كلها بمواجهة تمدد التكفيريين و”الإسلامويين”، بدلاً من الشيوعية التي سقطت منذ عشر سنوات.

إلا أن بعض الدول الأوروبية الكبرى كفرنسا وألمانيا رفضت تشريع اجتياح العراق تحت راية “الناتو” في 2003، وكان ذلك أكبر انقسام أطلسي منذ تأسيس الحلف في 1949. واستمر الانقسام حول العراق من دون أن يؤثر على الوحدة الأطلسية على أفغانستان، وعادت لحمة “الناتو” خلال حملة إسقاط نظام القذافي في 2011، حيث عادت فرنسا لتلتحق بالحلف العسكري في العمليات في ليبيا. وعادت الوحدة مجدداً مع عودة القوات الأميركية والأطلسية إلى العراق لمواجهة تنظيم “داعش” في 2014.

الأطلسي الجديد

بعد ثلاثين سنة من سقوط الاتحاد السوفياتي، بات هناك حلف أطلسي جديد لا يزال يلبس الثوب العسكري الموحد نفسه، ويتحرك تحت القيادة الأميركية نفسها، إلا أن “العدو” يتغير، والقرارات باتت أكثر تعقيداً، والأجندة الأميركية أكثر تبدلاً، لا سيما في ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط. فالعدو كان الاتحاد السوفياتي من 1949 إلى 1991، وبعد ذلك، بات الخصم أخصاماً موزعين في قارات عدة، ولكن من يقرر أن هذه القوة باتت عدوة يجب ضربها، وتلك لاعبة مارقة، ولكن يجب عدم ضربها؟ طبعاً لا تزال الولايات المتحدة تقرر من هو “الهدف للمعالجة” ومتى، ومن في واشنطن يقرر ذلك؟ طبعاً من في السلطة، ومن في المعارضة، واللوبيات الداخلية والخارجية، فمن له القدرة السياسية الأكبر على الحسم بين البيت الأبيض والكونغرس، ومن له نفوذ وتأثير أكبر من بين تكتلات الضغط، يدفع بالقرار في الحرب والسلم. ويدفع معه حلف شمال الأطلسي باتجاه أو آخر، فتسقط أنظمة، وتقوم غيرها، وتُدعم معارضات، ويتم التخلي عن غيرها.

لذا فـ”الأطلسي الجديد” يخضع في سياسته الخارجية، والشرق أوسطية خصوصاً لتوازنات اللوبيات وكتل النفوذ داخل واشنطن مع تداخلات للاعبين أوروبيين بحسب الملفات. فما المعادلات التي تحكمت بسياسات “الناتو” تجاه الشرق الأوسط بعد انتهاء الحرب الباردة؟

الأطلسي في الشرق الأوسط

أول حملة عسكرية كبرى في الشرق الأوسط بقيادة أميركا عند انتهاء الحرب الباردة، ولكن من دون تسميتها بـ”الناتو”، كانت حرب إخراج قوات صدام حسين من الكويت في 1991 حيث التقى أعضاء الحلف، بمن فيهم فرنسا، على المشاركة، ولكن من دون تسمية “الناتو” رسمياً، ووقف الغربيون صفاً واحداً مع المملكة العربية السعودية ومعظم جامعة الدول العربية ضد النظام البعثي العراقي.

ثاني عملية مشتركة، وأولها تحت الحلف الأطلسي، انطلقت إلى عمق آسيا لإسقاط “طالبان”، ودعمتها روسيا والأمم المتحدة. الحملة العسكرية الثالثة للأطلسيين في الشرق الأوسط كانت احتلال العراق في 2003، إلا أن فرنسا وألمانيا عارضتا، فلم تنفذ تحت راية “الناتو”. الحملة الرابعة كما ذكرنا كانت أطلسية تحت شعار الحلف، لتغيير النظام في ليبيا في 2011، إلا أنها في النهاية صبّت في مصلحة “الإخوان”، كما انتهت العملية في العراق في 2011 لمصلحة الميليشيات الإيرانية. والملفت للانتباه أن نهاية مهمة الحلف في أفغانستان منذ أكثر من شهر، أدت إلى سيطرة “طالبان” من جديد، هل أن ذلك يعني أن حملات “الناتو” في الشرق الأوسط تبدأ ضد أطراف معادية، ولكنها تنتهي بتسلم القوى الراديكالية من إيران إلى “الإخوان”، السلطة بعد انسحاب “الناتو” أو أعضائه؟

أجندات أعضاء “الناتو” اليوم

أما اليوم، فإن لكل دولة أو تجمع دول أعضاء في الحلف أجندات خاصة في الشرق الأوسط، وأحياناً متناقضة مع بعضها البعض، وأخيراً، غير متناسقة مع من يحكم البيت الأبيض. هذه لائحة بأمثلة حالياً.

دول البلطيق وبولندا، والنرويج، قلقة من “التهديد الروسي”، وهي تتبع واشنطن في تحركاتها الشرق أوسطية، بولندا تتحرك لمواجهة النفوذ الإيراني، ألمانيا وبريطانيا وهولندا تؤيد الاتفاق النووي مع إيران وتتحرك مع الولايات المتحدة، فرنسا تؤيد الاتفاق النووي ولكنها تواجه “الإسلامويين”، والتكفيريين، حتى من دون أميركا، إسبانيا وإيطاليا يهمهما خطر مسألة اللاجئين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أولاً، اليونان تريد مواجهة “الإسلامويين” في شرقي المتوسط، والتقارب مع التحالف العربي وإسرائيل، وقد تعبر إلى معسكر التصدي لإيران، المجر ودول البلقان قلقة من اللاجئين والمتطرفين، وبعضها من الروس، تركيا طورت سياسة خاصة بها مؤيدة لـ”الإخوان” و”الإسلامويين” في المنطقة، متعارضة مع معظم الأوروبيين.

هذه النماذج تبين مدى تناقض أم تباعد أولويات الأمن القومي لأعضاء الحلف، ولكن تبقى كلها علاقة خيطية مع واشنطن. ولكن السؤال هو، هل لدى الولايات المتحدة ثوابت استراتيجية تجاه الشرق الأوسط أم أنها تتبدل رأساً على عقب كل أربع أم ثماني سنوات؟

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى