الضفة

وليد حباس يكتب –  توسع الدور الاقتصادي لـ”الإدارة المدنية”.. عن المشاريع الزراعية الإسرائيلية في أراضي الضفة !

وليد حباس *- 8/3/2021

في العام 1921، أقام مستوطنون يهود جدد من عناصر الهجرتين الثانية والثالثة موشاف نهلال في الجليل ليصبح من أوائل المستعمرات التي نفذت سياسة “العمل العبري” وحاربت حق الفلسطينيين في العمل على أراضيهم. تطور تاريخ الموشاف بشكل ساخر بحيث أنه في العام 2017 قام باستضافة عشرات المهندسين الزراعيين من الضفة الغربية المحتلة ليقدم لهم دورة مختصة في كيفية زراعة نبتة الأفوكادو، وتحسين جودتها.

في هذه الدورة، نقلت كلية غليلي الزراعية خلاصة تجربتها التاريخية في الاستعمار الزراعي للطلاب العرب الذين كانوا قبل حوالي قرن من الزمن من ألد أعدائها. وتقف خلف هذا المشروع، وبشكل غير مباشر، الإدارة المدنية بالإضافة إلى صندوق الدعم الاقتصادي الذي أنشأه يائير هيرشفيلد (وهو أحد مهندسي اتفاق أوسلو). جدير بالذكر بأن دوف تسادكا، رئيس الإدارة المدنية بين الأعوام 1998-2002، يشغل دورا فاعلا داخل مجلس إدارة هذا الصندوق.

بدأت الإدارة المدنية في السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ العام 2014، بتغيير طبيعة نشاطها من خلال توسيع دائرة علاقاتها المباشرة مع الفلسطينيين. وبالإضافة إلى تطبيق “المنسق” الذي فرض على معظم سكان الضفة الغربية التعامل مباشرة مع مكتب “وحدة تنسيق أعمال الحكومة”، فإن الإدارة المدنية بدأت تفرض نفسها كلاعب اقتصادي ذي نفوذ وقدرات لا يمكن منازعتها في التحكم بالعديد من الموارد الطبيعية (الأرض والمياه) واللوجستية الحيوية (المعابر)، بالإضافة إلى تقديم نفسها باعتبارها البوابة الأنجح للوصول إلى السوق الإسرائيلية. وتعتبر المشاريع الزراعية التي تقوم بها الإدارة المدنية من أهم التطورات التي قلما يتم الالتفات إليها، ولا سيما من طرف صناع القرار الفلسطيني ومؤسسات المجتمع المدني العاملة في مجال الزراعة.

يتمثل أحد أهم أهداف الإدارة المدنية في زيادة تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي من خلال توسيع حلقة الفلسطينيين المعتمدين على الخدمات التي تقدمها الإدارة المدنية على أن تتحول الأخيرة إلى الطرف الوحيد القادر على خلق فرص عمل في ظل نسبة البطالة العالية والظروف الاقتصادية القاهرة. من هنا، قام المنسق الحالي لشؤون الزراعة في الإدارة المدنية، سمير معدي، بتنفيذ مشاريع زراعية تشغيلية كبرى في السنوات الأخيرة. ويمكن تصنيف هذه المشاريع على أنها “تعاقد من الباطن”، بحيث تقوم الشركات والمصانع الإسرائيلية بزراعة محاصيلها في أراضي الضفة الغربية ومن خلال الاستعانة بالإدارة المدنية. وهذا التعاقد من الباطن يأخذ شكلين: إما أن تقوم مصانع إسرائيلية بتحديد طبيعة المحصول والإشراف على زراعته ومن ثم شرائه، كما هي الحال في زراعة الخيار الصغير (البيبي)، أو أن المزارع الإسرائيلية تقوم بتصدير محاصيلها عالية الجودة إلى السوق الأوروبية على أن يغطي الإنتاج الزراعي الذي تشرف عليه الإدارة المدنية في الضفة حاجات السوق الإسرائيلية من المحصول نفسه، كما هي الحال على ما يبدو في ثمرتي الأفوكادو والأناناس.

وتقوم الإدارة المدنية مؤخرا بمشاريع زراعة لثمار تعتبر غريبة عن أرض الضفة الفلسطينية. من جهة، تعتبر هذه الثمار مربحة جداً بالنسبة للمزارع الفلسطيني لكنها من جهة أخرى تحتاج إلى تكنولوجيا عالية، ورعاية من نوع خاص، بحيث أن المزارع الفلسطيني يحتاج بشكل مستمر إلى الإدارة المدنية للحصول على الإرشاد الزراعي الملائم. مثلا، في العام 2016 بدأت الإدارة المدنية بزراعة 2 دونم من أراضي جيوس بأشتال الأناناس، كتجربة (pilot)، للبدء بمشروع واسع النطاق. في بداية العام 2020، وصل عدد شتلات الأناناس إلى حوالي 60 ألف شتلة موزعة بين طولكرم وجنين وغور الأردن. والجدير بالذكر أن هذه النبتة الاستوائية تحتاج إلى تكنولوجيا خاصة لتنبت في أماكن خارج بيئتها الطبيعية. من هنا، لم توفر الإدارة المدنية الاشتال وحسب، وإنما أيضا التكنولوجيا (دفيئات من نوع خاص وأجهزة تحافظ على نسبة رطوبة وحرارة معينتين)، وتتدخل في خصوبة التربة وعمليات التسميد وتقدم دعما وإشرافا فنيا بشكل حثيث بحيث أن النبتة تحتاج إلى فترة تتراوح ما بين عام وعام ونصف عام لتعطي ثمارها. ويصل سعر حبة الأناناس (800-1500 غرام) إلى حوالي 30-50 شيكلا داخل إسرائيل بينما أن الزراعة الفلسطينية في الضفة الغربية توفرها مقابل 15-30 شيكلا.

ويعتبر الخيار الصغير (البيبي) من أهم المشاريع التي يهتم بها معدي بشكل خاص. في العام 2020، توسعت زراعة الخيار لتشمل نوعين: الأول، الخيار الربيعي حيث تصل الأراضي التي تتبناها الإدارة المدنية وتمولها إلى حوالي 3 آلاف دونم تحقق إنتاجا سنويا يصل إلى 25 ألف طن. وتصل مبيعات هذه الأراضي إلى حوالي 90-100 مليون شيكل سنويا. النوع الثاني هو الخيار الصغير (baby cucumber)، الذي يُزرع في مساحة تقدر بحوالي 3500 دونم وتصل مبيعاته إلى 80 مليون شيكل سنويا. وتقوم الإدارة المدنية بتوفير الأشتال، والأسمدة، والتسويق حيث يذهب أكثر من 90 بالمئة من منتوج الخيار إلى مصانع المخللات والمعلبات الإسرائيلية. جدير بالذكر، أن هذا النوع من “التعاقد من الباطن” والذي يقوم على منتجات غذائية أو محاصيل زراعية يستدعي موافقة المؤسسة الدينية اليهودية لتحويله إلى منتج “حلال” (كاشير).

كما قام فرع الزراعة في الإدارة المدنية “بمبادرة” يقوم من خلالها بدعوة مختصين من وزارة الزراعة الإسرائيلية لزيارة الأراضي الزراعية الفلسطينية، وأخذ عينات على مدار الموسم الزراعي كشرط لإصدار الشهادات المطلوبة للتصدير عبر المعابر. في مرحلة لاحقة، قامت الإدارة المدنية وعبر شركات إسرائيلية باقتراح لاستخدام مبيدات من أنواع معينة يمكن استخدامها بإشراف شركات إسرائيلية والتي يعتبر حضورها أساسا لإصدار شهادات الجودة. وتوظف الإدارة المدنية منسقين فلسطينيين ليجوبوا الأراضي الزراعية ولينظموا عمل شركات المبيدات الإسرائيلية فيها بالترتيب المسبق مع الإدارة المدنية.

إلى جانب هذه المشاريع تعمل الإدارة المدنية على زراعة التوابل، والأعشاب الطبية، والتوت الأرضي والمعلق، بالإضافة إلى البندورة الشيري. في بداية العام 2020، أدخلت الإدارة المدنية مشروعها الجديد لإنشاء مزارع أسماك. تم في البداية تشييد بركة تتسع إلى 300 كوب. وبعد “نجاح” التجربة بدأت الإدارة المدنية ومنذ بداية هذا العام ببناء ست برك إضافية تتسع إلى حوالي 15 ألف سمكة. تتيح هذه المشاريع الزراعية المجال لتشغيل مئات من الفلسطينيين الذين يعملون في المزارع التي تتوزع ما بين مناطق “أ” و”ب” و”ج”، الأمر الذي يعني تحولا نوعيا في مهام الإدارة المدنية وممارساتها.

تأسست الإدارة المدنية في العام 1981 بموجب القرار العسكري رقم 947 والذي وضع نهاية لسيطرة مؤسسة الجيش المطلقة على شؤون حياة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وعلى العكس من الإدارة العسكرية (1967-1981)، حاولت الإدارة المدنية إحداث فصل ما بين الدور العسكري للجيش (تحريك القوات والمداهمات وغيرها) وما بين الدور المدني المتعلق بإدارة شؤون الفلسطينيين اقتصاديا، تعليميا وصحيا، وغيرها. لهذا الغرض، تم تعيين ما بين 20-25 أخصائياً من قبل الوزارات والسلطات الإسرائيلية المختلفة يعملون تحت إمرة رئيس الإدارة المدنية (الذي ظل عسكريا برتبة عقيد). يعتبر هؤلاء الأخصائيون، مثل سمير معدي الذي يحمل حقيبة الزراعة، بمثابة مندوبين للوزارات الإسرائيلية المختلفة في الضفة الغربية. جاء هذا التغيير في أعقاب اتفاقيات كامب ديفيد مع المصريين والتي بموجبها اعترفت إسرائيل لأول مرة بحق الفلسطينيين في إدارة شؤون حياتهم اليومية تحضيرا للوصول إلى اتفاق سلام. وعليه، قام هؤلاء الأخصائيون الذي يحملون صفة شبيهة بالوزير في الأرض المحتلة بتعيين فلسطينيين في دوائرهم داخل الإدارة المدنية حيث وصل عدد الموظفين الفلسطينيين في العام 1990 إلى ما يقارب 14 ألفا موزعين على فروع الاقتصاد، الضريبة، الصحة، التعليم، الشرطة المدنية وغيرها. لكن مع توقيع اتفاق أوسلو، هبط عدد الموظفين الفلسطينيين ليصل إلى حوالي 130 فقط في العام 2000، إذ تم تحويل معظم المهام الإدارية التي أوكلت للإدارة المدنية إلى أجهزة السلطة الفلسطينية ووزاراتها. وقد نص اتفاق أوسلو على أن الإدارة المدنية ستصل إلى نهايتها وتتفكك مع الوصول إلى اتفاق حل دائم، الأمر الذي لم يحصل.

في التعديلات التي جرت على اللوائح الناظمة لعمل الإدارة المدنية في أعقاب التوقيع على اتفاق أوسلو، أوضحت الإدارة المدنية أنها ستشكل ذراعا تنفيذيا للحكومة الإسرائيلية فيما يخص البنية التحتية والتخطيط والبناء في مناطق “ج”. أما فيما يتعلق بمناطق نفوذ السلطة الفلسطينية، فلم تتطرق اللوائح الناظمة بشكل واضح لدور الإدارة المدنية عدا عن كونها جهة الارتباط الرسمية التي تنسق مع السلطة الفلسطينية. لا يخولها هذا الدور الرسمي الذي تلعبه أمام السلطة الفلسطينية بالتدخل المباشر في الحياة الاقتصادية للفلسطينيين، وإنما يمنحها صفة الوسيط ما بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية في كل القضايا العالقة قبيل الوصول إلى اتفاق حل دائم.

وفي الأعوام الأخيرة، تقوم الإدارة المدنية وبشكل أحادي الجانب بتوسيع نطاق تدخلاتها لتمس حياة الفلسطينيين بشكل مباشر من خلال إنشاء علاقات ثنائية مع رجال أعمال، مزارعين، عمال، رياديين وحتى منظمات دولية. ويعتبر الدور الذي تلعبه الإدارة المدنية في المجال الزراعي منذ العام 2014 مهما جدا وذا أبعاد سياسية استراتيجية خاصة وأن التقرير السنوي الذي ينشره مكتب تنسيق أعمال الحكومة بموجب قانون حرية النشر يشير إلى أن الإدارة المدنية “تبادر وتنفذ العمليات المدنية التي ستغير وجه المنطقة بناء على المصالح الإسرائيلية”.

وتتركز المصالح الإسرائيلية حاليا في جانبين متداخلين: أولا، التنسيق ما بين القطاع الخاص الإسرائيلي ومزارعين ومهندسين زراعيين في الضفة الغربية للاستفادة من الأراضي والأيدي العاملة الرخيصة. وثانياً، ربط عدد متزايد من المزارعين والمهندسين الزراعيين والشركات الفلسطينية بالإدارة المدنية باعتبارها بوابتهم للوصول إلى التكنولوجيا والسوق الإسرائيليين. لكن بعيدا عن البعد الاقتصادي للنشاطات الزراعية، فإن هذه المشاريع تضع أجزاء واسعة من أراضي الضفة الغربية تحت تصرف الإدارة المدنية والشركات الإسرائيلية من دون أن يحمل الأمر دلالات قانونية أمام المجتمع الدولي.

* عن مركز مدار – المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلي “مدار”.

أنظر الرابط التالي: https://bit.ly/3qohGWh
أنظر التقرير السنوي لـ”مكتب تنسيق أعمال الحكومة في المناطق” من العام 2019 على الرابط التالي: https://bit.ly/30eG2Hs
أنظر تقرير المنسق على الرابط التالي: https://fb.watch/430–NS6F3/
أنظر تقرير المنسق على الرابط التالي: https://www.facebook.com/COGAT.ARABIC/posts/1802171369933934

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى