منوعات

هوزان عثمان القاضي تكتب – ستة أمتار وملعقة ..!

قصة اعداد هوازن عثمان القاضي

     فتح آدم النافذة، تسلَّقها، قفز إلى الشجرة المقابلة لها (للنافذة).. كان الليل قد أرخى أثوابه.. وبمهارة قط صغير وخفَّته تنقل بين الأشجار.. وعندما اقترب من سور الحديقة، اطمأن إلى أنَّ لا أحد في الجوار، وبلمح البصر، قفز عن الشجرة الملامسة لسور الحديقة إلى الخارج، خطا بضع عشرة خطوة مبتعداً عن السور: لابدَّ أن هذا هو المكان، كما سمعتُ من نشرة الأخبار.. ستة أمتارٍ بعيداً عن السور.

     تلفَّت يميناً وشمالاً؛ قبل أن يُخرج الملعقة التي يخفيها تحت ملابسه. انحنى على الأرض، وبدأ بالحفر.. وبعد مُضيِّ فترة قصيرة، تناهت -إلى سمعه- أصوات مختلطة؛ صفير، ومواء، أو لعله عواء.. ذئب يقترب.. أخذت الأصوات تتجمَّع في أذنيه وتتكاثف، وكأنها صوت وحوش بريَّة تقترب منه.. سقطت الملعقة من يده، وتسلق السور، وركض باتجاه المنزل، والأصوات تعدو وراءه.. وفجأة، وقبل أن يصل إلى البيت، تلاشت الأصوات جميعها، وعمَّ الهدوء، يتخلله صوت يأتي من خلف السور، يشق سكون الليل بقوة وجبروت، ويدعوه إلى العودة حيث كان.. 

قال مؤنِّباً نفسه: ما بك يا آدم؟! أجبنتَ؟! لا يليق الخوف بك!!! ينبغي ألا تتراجع.. ثم خبرني بالله عليك، من أين يأتي الذئب، وكيف يأتي، وكيف سيصل إليك…و… و…؟!! وهل تخشى الذئب؟!!!!! لا تترك نفسك ضحية للخوف والوهم، فيثنيك عمَّا عزمت عليه.. نظر إلى السماء، أبهجه منظر القمر المنير، وهو يبسم له، والنجوم تتلألأ إلى جانبه مشجعة..

     عاد آدم إلى حيث كان، والتقط الملعقة، وعاود الحفر.. وما إن بدأ الحفر، حتى عادت الأصوات تصمُّ أذنيه من جديد.. مزيج من الأصوات، يأخذ هذه المرة بعداً آخر؛ فتراقصت أمامه بعض الأشكال المخيفة المرعبة في صحبة الأصوات.. أوجس خيفة، لكنه دفع الخوف عن نفسه؛ فقد طوى النية على متابعة الحفر مهما حصل..  تشاغل عن الأصوات التي يسمعها، بترديد أغنية وطنية طالما سمعها، وترنَّم بها..”.. والصهيونية تقتل حمامكو فِ حماكو حماكو.. يا فلسطينية وأنا بدي أسافر حداكو..”.  

     يخفض صوته؛ كي لا يسمعه أحد، لكن وتيرة صوته ترتفع بشكل مفاجئ وتلقائي، بانسجامه مع كلمات الأغنية، وقد اشتعل حماسة: ” ناري في إدية، وإدية تنزل معاكو.. على راس الحية..”.

     أخذ يجدُّ في الحفر؛ لينجز مهمته في زمن قياسي، فما عاد لديه متسع من الوقت.. يجب أن يخرجهم بسرعة قبل بزوغ الفجر.. آلمته يده.. أمسك الملعقة باليد الثانية وأكمل الحفر.. لم يعد قادراً على الحفر أكثر.. يبدو أن يده الأخرى قد تعبت.. قرر أن يرتاح قليلاً.. لكنه خائف.. هل يعود إلى المنزل، وينسى ما خرج من أجله؟ فكر قليلاً.. عاد الصوت يناديه من جديد.. دبَّ الحماس في كل أوصال جسده، واستعاد نشاطه، وصرخ: أنا قادم.. وهبَّ بنشاط يتابع الحفر، يسمع الصوت، يشجعه، يقترب منه أكثر فأكثر كلما تابع الحفر.. لابد أنه صوت زكريا، أو لعله صوت محمد.. لا يهم صوت مَن يكون، سأخرجهم جميعاً.. الصوت يقترب منه أكثر.. آدم يحفر، ويحفر، ولا يتوقف عن الحفر: امنحني بعض الوقت يا زكريا..

     بغتة، هبط شيء على كتفه.. فزع.. افتُضح أمره.. رفع رأسه.. يد والده تحط على كتفه: ماذا تفعل في هذا الوقت يا آدم؟!!!!!! 

     وضع آدم سبابته على فم والده،: اخفض صوتك يا أبي.. كما ترى.. أنا أحفر..

وانهمك آدم  في متابعة الحفر..

الأب: عم تبحث يا بُني؟! هل دفنت شيئاً هنا؟!!!!!

آدم: كلا.

الأب: ماذا تفعل إذن يا ولدي؟!!!

آدم: سأُخرج زكريا ورفاقه.. 

     اتسعت عينا والد آدم دهشة، تظاهر بمسايرة ابنه؛ كي لا يصدمه أو يحبطه، وهو موقن بعبثية ما يفعل، فبادره: لكن الملعقة لا تصلح للحفر.. انظر كم الحفرة صغيرة!!!

آدم: من قال هذا؟! لقد حفروا بالملعقة نفقاً قبل عدة أيام.. 

الأب: ألا تخشى أن يُعيد اليهود أسرهم ثانية، بعد أن تُخرجهم؟!

آدم: إن حدث هذا؛ فسأعيد تحريرهم.. مع أن اليهود  لن يتمكنوا من الوصول إليهم هذه المرة..

الأب: كيف؟

آدم: سأخبِّئهم بين لُعبي في خزانتي؛ ففيها الرشاش، والمسدس، والبندقية.. ولن تتمكن جيوش الاحتلال منهم، إن باغتتهم بفتح الخزانة..

وتابع: أرجوك يا أبي، لا تشغلني عن الحفر..

     جلس والد آدم إلى جانبه، وقد لزم الصمت، وترك آدم يحفر، وهو يراهن على أن يتعب آدم، ويعود إلى سريره.. 

     بدأت خيوط الشمس الذهبية تشقُّ طريقها، تداعب خصلات شعر آدم المستمر في الحفر.. الليل والنهار يتعاقبان، الفصول تتوالى، وآدم يواصل الحفر ولم ييأس، والتعب لم ينل منه.. 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى