شؤون إسرائيلية

هشام نفاع يكتب – الرقابة الإسرائيلية تسمح بنشر تقرير يوثق جرائم قتل للهاغناه والبلماح بعد 73 عاماً رغم أن تفاصيله نُشرت أصلاً !

هشام نفاع *- 1/3/2021

نقل موقع “معهد عكيفوت”، وهو منظمة غير ربحيّة تنشط من أجل كشف وثائق تمنع السلطات الإسرائيلية نشرها، على الرغم من انقضاء الوقت المحدد لحجبها وفقاً لقانون الأرشيفات، أنه بعد مرور 73 عاماً سمحت الرقابة العسكرية بالكشف عن النص الرسمي لتقرير بعنوان “تقرير ريفتين” وثق جرائم قتل قامت بها عناصر منظمتي “الهاغناه” (الدفاع) و “البلماح” (كتائب السحق) ضد عرب فلسطينيين وكذلك ضد مهاجرين يهود، تم اختطافهم واحتجازهم – “اعتقالهم” وفقاً للمعجم الصهيوني.

اسم التقرير يعود إلى سياسي إسرائيلي من حزب “مبام” اسمه يعقوب ريفتين كلّفه دافيد بن غوريون حين كان رئيسا لـ”لجنة أمن المستوطنات”، في 10 شباط 1948، بالتحقيق في سلسلة من الحوادث التي تم لفت نظره إليها، والتي اشتبه فيها أفراد من “الهاغناه” بارتكاب جرائم خطيرة للغاية من بينها القتل والتعذيب خلال التحقيق، إضافة إلى السرقة والنهب. وبعد حوالي ثلاثة أسابيع، قدم ريفتين إلى بن غوريون تقريراً يلخص إجراءات التحقيق التي قام بها، بالإضافة إلى سلسلة من الاستنتاجات والتوصيات.

يشير “عكيفوت” إلى أن وجود “تقرير ريفتين” ليس سرا. فقد تم نشر تفاصيل منه، وتم الإقرار بأن توصيات ريفتين شكلت عاملاً مهماً في قرار تعيين المدعي العسكري العام في الجيش وإنشاء مكتب المدعي العسكري. وقرار تعيين ريفتين ورد مرارا في أدبيات العلوم السياسية والتاريخ، وتم الاستشهاد بنتائج التحقيق في الأحداث وإيراد الاستنتاجات، وعلى الرغم من ذلك فإن التقرير نفسه لم ينشر بالمرة. وهذه الأيام فقط أبلغت الرقابة العسكرية “عكيفوت” بأنه ليس هناك ما يمنع النشر. والمعهد المذكور قدم إلى الرقابة العسكرية طلباً للنشر في تشرين الثاني 2017، ومرّت أكثر من 3 سنوات على اتخاذ قرار “تحرير التقرير”.

كتب بن غوريون في خطاب تعيين ريفتين: “لقد وصلت إليّ شكاوى واتهامات قاسية تتعلق بالانفلات لدى عدد من أعضاء المنظمة (الهاغناه) والبلماح: نهب وسطو على عرب، قتل بولنديين وعرب بدون سبب أو بدون سبب كاف، وفي جميع الأحوال بدون محاكمة، وهناك ممارسات غير نزيهة أيضا تتعلق بيهود، حالات سرقة، احتيال مالي، تعذيب عرب خلال التحقيق وما شابه. هذه الممارسات إذا صحت فإنها تشكل خطرا سياسيا وأخلاقيا على المنظمة وعلى الييشوف ويجب اتخاذ الوسائل الأكثر حدة لغرض اقتلاعها من جذورها. أولا يجب استيضاح حقيقة الأمور وإحضار المسؤولين إلى المحاكمة. ولذلك فاني ألقي عليك مسؤولية فحص سلسلة الحقائق التي نقلها إليّ مديرو شاي” (جهاز استخبارات الهاغناه).

أرفق بن غوريون برسالته قائمة بـ 15 حادثة قدمها له رئيس “شاي” ديفيد شلتئيل: حالات قتل، إعدام بدون محاكمة، نهب وسطو. وقد أجرى ريفتين تحقيقه في الأيام التالية. وفي آخر صفحات تقريره المؤلف من 18 صفحة، وضع شرحا مفصلا لقائمة من 15 عنصراً في الهاغناه ومنهم مسؤولون كبار قام بالتحقيق معهم. وقد فصّل التقرير معطيات ومعلومات عن الحالات الـ15 التي ورد ذكرها في رسالة التعيين، وهذا بالإضافة إلى قائمة مؤلفة من 15 حادثة إضافية تكشفت لريفتين خلال قيامه بالتحقيق، ولكنه لم يقم بفحصها.

عناصر الهاغناه قتلوا سائقا من طبريا وساقوا ذرائع متناقضة

عن جرائم قتل العرب هناك الحالة التالية: استأجرت وحدة سرية من المستعربين تابعة للهاغناه سيارة أجرة لرجل عربي من طبريا، من أجل استخدام سيارته لأغراض العمليات السرية، وكان قصدهم ربط يديه وقدميه ووضعه على جانب الطريق والمضيّ بالسيارة. وفقاً لإحدى شهادات عناصر الهاغناه: عندما كان السائق يعتقد أن ركاب السيارة عرب تفاخر أمامهم بأنه نشط في “العصابات” (المنظمات الفلسطينية)، وعندما سمع “المستعربون” ذلك، أرادوا “اعتقاله للاستجواب لكنه قاوم بقوة، وفتح الباب وأراد القفز واضطر رجالنا إلى القضاء عليه”. وبحسب رواية أخرى عن نفس الحادثة فقد “خطفوا سائق تاكسي في طبريا بسيارته. وفي الطريق، حقنوه بالمورفين، لكن الأمر لم ينجح فوضعوه في صندوق السيارة الخلفي، لكنه بدأ يدقّ بعنف، ثم اضطروا إلى إطلاق النار عليه في أعلى الجبل ثلاث مرات”.

يذكر التقرير بوضوح أنه تم إعدام ستة “مسيحيين بولنديين” دون محاكمة في تل أبيب والقدس على أيدي مسلحي الهاغناه. أحد الأمثلة التي أوردها التقرير هو التالي: “منذ حوالي ثلاثة أسابيع، تم اعتقال بولندي مسيحي في تل أبيب، ونقل إلى معسكر يونا. لم يتم التحقيق معه. وأطلق الحارس النار عليه. وقتله. ثم أخذت الجثة وألقيت في متنزه هداسا”. ويورد التقرير شهادات من الهاغناه منها الادعاء بأن المعتقل البولندي هاجم الحارس، وأطلق الأخير النار عليه رداً على ذلك. وكتب أن مسؤول استخبارات الهاغناه قال: “كان المعتقل بعد إطلاق النار عليه في حالة احتضار. لذلك وبعد النظر في الأمر تقرر القضاء عليه وإخراجه من المعسكر”. ويروي التقرير قصة إعدام “بولندي مسيحي” آخر تم اعتقاله في تل أبيب واستجوابه تحت التعذيب، ووُصف كـ “رجل من العالم السفلي… تبين أنه كان على اتصال بالألمان في الخارج. تم إعدامه”. والأقسى إعدام بولنديين في ظروف مماثلة بالقرب من محطة الباصات المركزية في القدس لأنهما “لم يتمكنا من تفسير سبب وجودهما هناك”. وتباينت وتناقضت الإفادات حول سبب إعدامهما وتراوحت بين “لم يؤد التحقيق إلى توجيه تهم إليهما” ولكن “على الرغم من ذلك تم إعدامهما”، و”أنهما يتلصصان على موعد انطلاق قافلة الباصات إلى تل أبيب” وصولا إلى أنه عُثر بحوزة أحدهما على “رسالة توصيه بأنه ألماني نازي”، من دون تقديم تفاصيل.

يقول “عكيفوت”: ملف التحقيق الذي أجراه يعقوب ريفتين موجود في أرشيف الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن. يحتوي الملف على نسخة من التقرير الذي قدمه ريفتين إلى بن غوريون، بالإضافة إلى 35 ملحقاً للتقرير – يبدو أنها توثيق لوقائع التحقيق الذي أجراه ريفتين والشهادات التي جمعها، واستخدمت في كتابة التقرير.

المجلس الوزاري تهرّب من القرار سنتين ثم واصل فرض التكتّم

في العام 2004، طلب الصحافي شلومو نكديمون من أرشيف الجيش الإسرائيلي الكشف عن التقرير. لكن الطواقم المسؤولة عن كشف الوثائق في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيلي سعت إلى منع الكشف عن المواد، وأيّد مسؤولو الأرشيف موقفها وطالب بتعريف التقرير بأنه “سري”. ولهذه الغاية، اتصلت إدارة الأرشيف بسكرتارية الحكومة طالبة تأكيد قرارها، وهو ما حدث. في وثيقة معلومات أساسية أعدها الأرشيف لاحقاً، قام بتفصيل أسباب قراره بضرورة فرض السرية على المواد، ومنها: أولاً، لأسباب تتعلق بحماية خصوصية الفرد: فالتقرير يتضمن أسماء الجناة وأسماء الضحايا. ثانياً، بسبب خطر الإخلال بالأمن القومي، لأن النشر التفصيلي للحوادث بما في ذلك قتل السجناء “قد يؤدي إلى زوبعة وربما إلى أعمال انتقام”. وثالثا، لأن النشر يضرّ بالعلاقات الخارجية لدولة إسرائيل، لأن المعلومات عن قتل السجناء، إلى جانب الأعمال الأخرى، هي انتهاك للقانون الدولي. عامل آخر هو أن بعض الفظائع التي ارتكبت كانت ضد منشقين بولنديين، وهذه القضية حساسة للغاية ويمكن أن تضر بالعلاقات بين البلدين، بولندا وإسرائيل.

اجتمعت اللجنة الوزارية بشأن كشف مواد أرشيفية سرية في حزيران 2004 بغياب عضوين ولم تبتّ في طلب الأرشيف: صوّت وزير العدل يوسف لبيد على طلب الأرشيف التحفّظ على التقرير، أما مئير شطريت الذي شغل منصب وزير بدون حقيبة في وزارة المالية، فقد رفض مواصلة التكتم على تقرير ريفتين لمدة خمس سنوات إضافية. وبعد سنتين وشهر، في تموز 2006، قررت اللجنة الوزارية الموافقة على طلب الأرشيف بمواصلة فرض السرية على تقرير ريفتين لمدة خمس سنوات، ولكن حتى بعد انقضاء هذه السنوات الخمس، لم تُفتح الوثيقة لاطلاع الجمهور في أرشيفات الجيش الإسرائيلي.

أعيد موضوع “تقرير ريفتين” إلى اللجنة الوزارية عام 2017 بخصوص طلب آخر لمراجعته والسماح بنشره. ففي أيلول 2016 وفي كانون الثاني- شباط 2017 نظرت اللجنة الوزارية في قضية كشف “تقرير ريفتين”، إلى جانب مسألتين إضافيتين كانتا على بساط بحثها. طلب أحد المواطنين قراءة نسخة عن التقرير موجودة في أرشيف الجيش الإسرائيلي، وبما أن فترة تقييد كشف الوثيقة قد انتهت، فإن الطريقة القانونية الوحيدة لمنع الاطلاع عليها هي بواسطة صدور قرار عن مسؤول أرشيف الدولة، ثم مصادقة لجنة الوزراء المذكورة على هذا القرار.

ولكن، على الرغم من توصية مسؤول الأرشيف نفسه حينذاك، د. يعقوب لزوفيك، بكشف هذا التقرير، قررت لجنة الوزراء عدم كشفه في الأرشيفات الحكومية، إضافة إلى مواصلة التستر على المواضيع والمواد الأخرى التي بحثتها وذلك لمدة 5 سنوات إضافية أخرى. وقال معهد “عكيفوت” إنه قبل عقد اجتماعات لجنة الوزراء بشأن “تقرير ريفتين”، عثر باحثو المعهد على نسخة من التقرير وذلك في أرشيف ياد طبنكين في كيبوتس “رمات إفعال” وأجروا لها مسحا ضوئيا. ثمّ، حوّل “عكيفوت” هذه الوثيقة في الخامس من تشرين الثاني 2017 إلى الرقابة العسكرية بطلب نشرها، وهو ما تواصل حتى هذه الأيام.

الرقابة تذرّعت بالحكومة وبعد تدخّل قضائي تراجعت وسمحت بالنشر

نُشرت تفاصيل تعامل الرقابة العسكرية مع طلب المعهد لنشر “تقرير ريفتين” في تموز 2018 في جريدة “هآرتس” وترافقت بمعطيات من التقرير. بعد نشر المقال، التقى مدير معهد “عكيفوت” بمسؤول رقابي كبير وسمع منه أن الرقابة امتنعت عن مراجعة “تقرير ريفتين” بسبب قرار اللجنة الوزارية – ولم تمنع نشره اعتمادا على اعتباراتها ومعاييرها المهنية. لاحقا، يقول “عكيفوت”، أقرّ أحد مسؤولي الرقابة في محادثة هاتفية بأن قرار لجنة الوزراء المسؤولة عن المواد الأرشيفية السرية الموجودة في الأرشيف الرسمي، لا تلزم جهاز الرقابة، لكنه قال إنهم راغبون في فحص نشر الوثيقة وفقا لما اعتبره “اعتباراتنا الخاصة”. لكن بعد مرور عدة أشهر وبعد التوجه الخطي ومطالبة الرقابة بإصدار قرارها خلال سبعة أيام، جاء الرد لممثل “عكيفوت” على شكل نسخة من التقرير وعلى كل واحد من صفحاته رُسمت دائرة كبيرة وختمت كل صفحة بختم كتب فيه “مُرجأ نشره”؛ أي أن النشر ممنوع إلى أن يتم اتخاذ قرار نهائي من قبل الرقابة العسكرية. وعلى الرغم من رسائل التذكير المتكررة منذ ذلك الحين، لم تقدم الرقابة العسكرية قرارها حول ما إذا كان نشر الوثيقة التي تعود إلى آذار 1948 مسموحا أم لا.

في آب 2020 توجهت جمعية حقوق المواطن إلى الرقابة العسكرية باسم “عكيفوت” وأكدت أن من واجب الرقابة فحص التقرير دون أية علاقة بقرارات السلطات الأخرى. وهكذا، ففي تشرين الثاني 2020، بعد أن فحصت الرقابة “تقرير ريفتين”، صادقت خطياً على أنه “ليس هناك مانع رقابي في نشر التقرير”. وكما سبق الذكر هنا، تم النشر الرسمي للتقرير الذي سبق نشر تفاصيل الحوادث التي شملها التحقيق والتوصيات التي خرج بها. لكن ملاحق التقرير التي يصل عددها إلى 35 ملحقاً ما زالت تحت طائلة حظر النشر. ووفقاً للتقديرات فهي عبارة عن نسخ الشهادات والإفادات التي جمعها ريفتين خلال مهمته، وهي مغلقة أمام اطلاع الجمهور ويجري التحفظ عليها في أرشيف الجيش الإسرائيلي.

“معهد عكيفوت” كان اعتبر قصة “تقرير ريفتين” جزءا من صورة جهود منع نشر وثائق أرشيفية تتعلق باعتداء إسرائيليين على مواطنين في العام 1948 وفي السنوات التالية لها. وعلى الرغم من أن الكثير من القضايا تم النشر عنها في الصحافة وفي الأدبيات التاريخية، فإن الدولة تبذل جهودا كبرى لمنع نشر المادة الأرشيفية التي توثق الأحداث، وتمنع نشر رد الدولة بعد أن حدثت. وكل هذا بادعاء حماية الأمن والعلاقات الخارجية. والنتيجة تشويه للتاريخ ومنع إجراء نقاش يستند إلى الحقائق والتوثيق حول التاريخ القريب، حول جرائم حرب نفذها جنود الجيش الإسرائيلي وعناصر جهاز الأمن على مر السنين – وحتى قبل قيام الدولة – وحول الشكل الذي يجب من خلاله مواجهة أحداث خطيرة في تاريخ الدولة والمجتمع في إسرائيل.

وهو يرى أن منع اطلاع الجمهور على وثائق تتعلق بالاعتداء على مواطنين بذريعة عدم عرض الدولة وأذرعها أو مبعوثيها في ضوء قاتم، ادعاءات تستند على مواقف ووجهات نظر سريّة ولا يجري اختبارها علانية. ويشكك في المحاولة المتكررة للربط ما بين نشر توثيق يعود عمره إلى عشرات السنين وبين تهديدات أمنية وعلاقات دبلوماسية راهنة في الحاضر. ويضيف أنه بالمقابل، لا يمكن التشكيك في أن كشف مادة أرشيفية مخبأة هو أمر إجباري لغرض تمكين مجموعات مختلفة في المجتمع من التعرف على ماضيها الموثق. ومعرفة هذا الماضي ضرورية لتطبيق حقوق ونيل اعتراف بممارسات ظلم ارتُكبت، ودفع سيرورات عدالة داخل المجتمع. كما أن كشف مواد أرشيفية بدون تأخيرات غير مبررة ضروري لدفع المجتمع الإسرائيلي إلى الأمام، وهو مصلحة عامة هامة لا تقل عن تلك المصالح التي يتم استخدامها لتبرير مواصلة التستر على ممارسات إجرام تم ارتكابها قبل قيام الدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى