أقلام وأراء

هشام ملحم – الإعلام الأميركي يزج بايدن في أول معمودية بالنار

هشام ملحم *- 24/8/2021

الانهيار السريع للحكومة الأفغانية في وجه الحملة العسكرية الشاملة التي شنتها قوات حركة طالبان، وسقوط العاصمة كابل والفوضى التي أحاطت بإجلاء الرعايا الأميركيين والأجانب من المطار الدولي، عرضّت الرئيس بايدن وإدارته الى انتقادات سياسية وإعلامية قاسية، بما في ذلك من اعلاميين ومحللين، كانوا قد أيدوا في السابق إنهاء الحرب كما باركوا قرار بايدن المبدئي إنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. وشهدنا في الأسبوع الماضي ظاهرة إعلامية وسياسية تتجدد بعد كل حرب أميركية يطول أمدها ولا تحقق أهدافها، أو تنتهي بانسحاب محرج. فجأة ارتفعت أصوات لمحللين وصحافيين يعتبرون أنفسهم محايدين، وقطعا ليسوا جزءا من الإعلام الأميركي اليميني ليقولوا إن الرئيس بايدن سوف يدخل التاريخ بصفته الرئيس الذي أشرف “على الفصل الأخير والمهين في التجربة الأميركية في أفغانستان” كما كتب الصحافي والمحلل المخضرم دافيد سانغر في صحيفة نيويورك تايمز. المحلل ايان بريمير مؤسس Eurasia Group وهو مركز لتحليل الأزمات والنزاعات، والمعروف برصانته ودقته، قال إن الانسحاب والفوضى التي أحاطت بعملية إجلاء الرعايا من مطار كابل قد تخلق احتمالات عديدة يمكن أن تؤدي بدورها الى “تدمير رئاسة بايدن”.

السياسيون والاعلاميون الأميركيون أيدوا بأكثريتهم معظم الحروب التي شنتها الولايات المتحدة بمفردها أو مع حلفائها بدءا من حرب فيتنام وانتهاء بالحملة الجوية الدولية التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) في 2014. كان هناك تأييد سياسي وإعلامي لحرب 1991 لإنهاء الاحتلال العراقي للكويت، وكان هناك تأييد واسع في أوساط الاعلاميين والمعلقين السياسيين وكتبة العواميد في كبريات الصحف الأميركية لقرار الرئيس جورج بوش الابن غزو أفغانستان، وهو قرار رأته أكثرية الأميركيين بحق دفاعا مشروعا قانونيا وأخلاقيا عن النفس. 

وحتى قرار بوش الابن غزو العراق، وهو قرار حرب اختياري بعكس غزو افغانستان، حظي بدعم واسع في أوساط الإعلاميين والمحللين بمن فيهم العاملين في صحف ليبرالية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست. الكثير من هؤلاء الإعلاميين والمعلقين لم يشككوا كثيرا في ادعاءات إدارة الرئيس بوش الابن آنذاك حول وجود اسلحة دمار شامل في الترسانة العراقية، او تضليل بعض المسؤولين الحكوميين آنذاك للرأي العام حول وجود علاقة بين نظام صدام حسين القمعي وتنظيم القاعدة الإرهابي. أصوات إعلامية قليلة دقت ناقوس الخطر وحذرت من التورط في مثل هذا الغزو خاصة وان حرب أفغانستان كانت مستمرة أيضا.

في سنة 2004 نشر الكاتب مايكل ماسينغ كتيبا بعنوان “الان يقولون لنا ذلك” Now They Tell Us وثّق فيه تقاعس واخفاق الصحافيين والمحللين العاملين في المؤسسات الاعلامية الرئيسية في البلاد في طرح الأسئلة الصعبة على المسؤولين في إدارة الرئيس بوش الابن، حول أسلحة الدمار الشامل في العراق، أو المعلومات الخاطئة والمضللة التي قدمها بعض السياسيين العراقيين من أصحاب السمعة السيئة أو المعروفين بفسادهم مثل أحمد شلبي والذين كانت لهم مصلحة خاصة وشخصية بتشجيع غزو العراق. (كانت هناك زمرة أفغانية فاسدة ممثلة للزمرة العراقية صاحبت الغزو الأميركي واستفادت منه، وأبرزها كان الرئيس السابق حميد كرزاي). بعد أن تبين بشكل قاطع أن نظام صدام حسين لم يكن يمتلك أسلحة دمار شامل أو البنية التحتية لتطوير أسلحة نووية، رأينا بدايات خجولة من قبل بعض المعلقين وهيئات تحرير بعض كبريات الصحف لممارسة النقد الذاتي، ولكن كل ذلك جاء بعد “خراب البصرة” وهي العبارة التي يكررها العرب منذ خراب البصرة بعد انهيار ثورة الزنج في سنة 883 ميلادية.

خلال الأسبوع الماضي برزت سردية محددة وسلبية للغاية للانسحاب من أفغانستان وعملية الجلاء مماثلة للإجماع الذي أحاط بسردية أسلحة الدمار الشامل في العراق في 2003. وهذه السردية كانت بارزة بشكل صارخ في البرامج الحوارية في مختلف شبكات التلفزيون التي وفرت المنابر لمسؤولين سياسيين واستخباراتيين وعسكريين سابقين خدموا في إدارات الرؤساء جورج بوش الابن، وباراك اوباما ودونالد ترامب وساهموا في القرارات الكارثية التي أدت الى إطالة غزو واحتلال افغانستان لعشرين سنة. شخصيات مثل وزيرة الخارجية في ولاية بوش الثانية كونداليزا رايس التي انتقدت قرار الانسحاب ذاته وليس الفوضى التي أحاطت به أو تحديدا بعملية الجلاء، وقولها إن عشرين سنة غير كافية لنقل أفغانستان من القرن السابع لحكم طالبان إلى حكومة مستقرة، وعسكريين مثل الجنرال المتقاعد دافيد بيتريوس وغيره. وحتى المسؤولين في ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، مثل وزير دفاعه ليون بانيتا، جميعهم التقوا على انتقاد الانسحاب بقوة ولم يكتفوا فقط بانتقاد التقصير الاستخباراتي أو الفوضى التي أحاطت بالجلاء وهي انتقادات مبررة. وكان هناك حضور كبير للجنرالات المتقاعدين في هذه البرامج الحوارية، حيث كان يتم تقديم هؤلاء كعسكريين خدموا في أفغانستان، ولكن دون الاشارة إلى مهامهم الحالية خاصة وأن معظمهم يعملون كمستشارين لشركات تنتج الأسلحة.

وكانت صحيفة واشنطن بوست في 2019 قد كشفت عن آلاف الوثائق الحكومية بما فيها مقابلات مع 400 شخصية معنية بحرب أفغانستان، أظهرت أن المسؤولين السياسيين والعسكريين أخفقوا في قول الحقيقة حول الحرب وانهم قدموا “تقويمات وردية كانوا يدركون انها خاطئة كما أخفوا أدلة دامغة تثبت أنه لم يعد بالإمكان تحقيق الانتصار في الحرب”.

اللافت في هذه التغطية هو غياب الأصوات المتعاطفة مع قرار بايدن بالانسحاب، أو تلك التي يمكن أن تضع التقصير الذي صاحب عملية الجلاء في سياق مختلف، مثل الاشارة الى أن تنظيم عملية جلاء لعشرات الألاف لا يمكن أن تكون خالية من الشوائب والمشاكل في دولة ضعيفة ومفككة مثل أفغانستان. المفارقة أن قرار بايدن بالانسحاب قد حظي بدعم شعبي واسع شمل الديموقراطيين والمستقلين والجمهوريين وفقا لمختلف استطلاعات الرأي، التي واصلت إظهار أكثرية متعاطفة مع الانسحاب، على الرغم من ازدياد الانتقادات الشعبية للتخبط الذي احاط بعملية الجلاء.
إحدى الطروحات الخاطئة التي كان يطرحها منتقدو الانسحاب من عسكريين متقاعدين أو محللين، ولم تحظ بالتدقيق من معظم مقدمي البرامج الحوارية، هي التي تدعي أن ابقاء ما بين 2500 و4 الاف عسكري في أفغانستان، يكفي لمواصلة الحرب ضد الإرهاب بكلفة محدودة، ويشيرون الى أن الأميركيين لم يتكبدوا خسارة جندي واحد خلال الثمانية عشر شهرا الاخيرة. هؤلاء يتناسون أن عدم سقوط قتيل عسكري واحد يعود لوجود الهدنة العملية التي برزت بعد الاتفاق الذي توصلت اليه إدارة الرئيس ترامب مع حركة طالبان في مطلع 2020 والذي يحدد أيضا تاريخ الانسحاب الأميركي بنهاية مايو 2021. ولو قرر الرئيس بايدن بقاء مثل هذه القوة المحدودة في أفغانستان فهذا كان سيعني إنهاء الهدنة العملية، وإعادة وضع القوات الأميركية في “مناخ عدائي”. دعاة هذا الطرح كانوا يشيرون إلى وجود عشرات الالاف من الجنود الأميركيين في كوريا الجنوبية وألمانيا بعد انتهاء حروب أميركا فيها. ولكنهم يتناسون أن هذه القوات الأميركية هي لردع أخطار خارجية وإن الدول المضيفة تريد بقائها وأنها موجود في مناخ غير معادي.

من الطبيعي أن تحظى التطورات الميدانية في أفغانستان باهتمام إعلامي أميركي كبير لأسباب انسانية وسياسية عديدة، ولكن يجب أن ننوه بأن اهتمام وسائل الاعلام الأميركية بالحرب الأفغانية خلال العقد الماضي قد انحسر كثيرا ووصل حتى إلى مستوى تجاهل هذه الحرب المزمنة. وفي هذا السياق تجاهلت معظم وسائل الإعلام الأميركية تغطية عشرات التقارير الصادرة عن المفتش العام حول عملية إعادة بناء أفغانستان والتي كانت تؤكد فشل الاحتلال الأميركي في هذه العملية. وكشفت بعض الدراسات الاعلامية أن شبكات التلفزيون الأميركية خصصت خمسة دقائق لتغطية أفغانستان خلال سنة 2020. وجاء في مقال للصحافي الاستقصائي جيم لوب أن الشبكات الرئيسية الثلاثة : CBSوNBC وABC خصصت 362 دقيقة فقط لتغطية أخبار افغانستان خلال السنوات الخمسة التي سبقت 2020، أو ساعتين فقط لكل شبكة، أي بمعدل 24 دقيقة لكل شبكة كل سنة.

من المستحيل إصدار تقويم نهائي لقرار بايدن الانسحاب من أفغانستان ولعملية الجلاء التي لا تزال في بداياتها، وهذا التقويم سوف يتأثر سلبا أو إيجابا إذا تعرض المدنيين الأميركيين أو الأفغان لاعتداءات مكلفة، أو إذا نجحت عملية الإجلاء بتوفير الملجأ لألاف المدنيين الأفغان الذين تعاملوا مع القوات الأميركية خلال العقدين الماضيين. ما هو واضح من النشاطات الإعلامية للرئيس بايدن وكبار مساعديه مثل وزير الخارجية أنطوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جايك ساليفان، هو أن إدارة بايدن تدرك أن عليها دحض السردية الإعلامية الراهنة والسلبية التي وضعتها في موقع دفاعي صعب. إدارة الرئيس بايدن تواجه الان أول معمودية بالنار لها في علاقاتها المعقدة مع وسائل الاعلام الاميركية.

انتقاد التخبط الذي صاحب عملية إجلاء الرعايا الاميركيين والأجانب من مطار كابل صحيح ومطلوب ومبرر. ولكن انتقاد الإعلاميين والمحللين للانسحاب بحد ذاته إضافة الى انتقاد المشاكل التي أحاطت بعملية إجلاء الرعايا سوف يخدم – بقصد أو دون قصد – دعاة إطالة “الحروب التي لا نهاية لها”، كما سيخدم المسؤولين في إدارة الرئيس ترامب الذين ينتقدون بايدن اليوم، على الرغم من أنهم هم الذين وقعوا اتفاقية سحب القوات الأميركية في مايو 2021 مع حركة طالبان في فبراير 2020، وخفّضوا عديد القوات الأميركية الى 2500 عنصر. الإعلاميون والمحللون يتحدثون ويتساءلون دائما عما إذا كانت الحكومات الأميركية تتعلم الدروس الحقيقية والصعبة من الأخطاء والهفوات العسكرية والاستراتيجية التي ترتكبها، وهذه أسئلة شرعية ومطلوبة وحتى ملحة. ولكن الاعلاميين والمحللين يجب أن يمارسوا أيضا ما يبشّرون به، وأن يتفادوا التأييد غير النقدي لحروب الولايات المتحدة، أو النقد غير الموضوعي لإنهاء هذه الحروب.

*كاتب وصحفي يغطي الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط ، زميل غير مقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى