أقلام وأراء

هاني المصري يكتب – نحو بلورة تيار وطني ثالث

بقلم هاني المصري

منذ منذ وقوع الانقسام في العام 2007، جرت محاولات ومبادرات كثيرة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة من قوى وشخصيات مستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، ومراكز الأبحاث، وحراكات وتجمعات المستقلين، والنساء والشباب وغيرهم، داخل الوطن وخارجه، أبرزها “وطنيون لإنهاء الانقسام” والتجمع الديمقراطي” ومركز مسارات، إلى جانب مشاركة دول عربية، أبرزها مصر، ودول أجنبية أبرزها روسيا، غير أن كل هذه المحاولات على أهميتها وضرورتها، كونها أبقت مسألة الوحدة الوطنية مطروحة، لم تحقق هدفها، ولم تستمر، ما يفتح الباب لمحاولات ومبادرات أخرى، وهكذا دواليك.

لم تتحقق الوحدة رغم مرور أكثر من 13 عامًا على وقوع الانقسام، وتزايد المخاطر على القضية والشعب والأرض لتغدو مخاطر وجودية تهدد أكثر من أي وقت مضى بتصفية القضية، وطي صفحة الثورة ومنظمة التحرير الفلسطينية.

سأجتهد فيما يلي لعرض الأسباب التي حالت دون نجاح هذه الجهود، وعدم حصول تراكم وزيادة في وزنها وتأثيرها بشكل مضطرد، رغم أنها تتبنى هدفًا ساميًا، وهو إنجاز الوحدة التي هي ضرورة وطنية وليست مجرد خيار من الخيارات، وتستجيب للمصلحة الوطنية، ويدعمها معظم الشعب.

لا يمكن فهم ما جرى من عدم جني حصاد المحاولات الوحدوية إلا في سياق رؤية أن جذور الانقسام وأسبابه وعوامله كثيرة وقوية (داخلية وخارجية أهمها الدور الإسرائيلي)، وتنعكس في تعمّق الانقسام أفقيًا وعموديًا، وتؤثر عليها الخلافات في البرامج والرؤى والتحالفات العربية والإقليمية والدولية، وعدم الإيمان بالشراكة، وما تولّد عن الانقسام من مصالح متراكمة على هامش السلطتين المتنازعتين، إذ أصبح من مصلحة أفراد وشرائح ومجموعات لا بأس بها استمرار الانقسام، لأن الوحدة ستحرمها من مكاسب ومناصب ونفوذ وثروة من المستحيل تحقيقها أو الحفاظ عليها في ظل الوحدة.

وعلى خلفية ما سبق، برزت خلافات واجتهادات متنوعة حول تشخيص أسباب وقوع الانقسام واستمراره، والطرف أو الأطراف المسؤولة عنه. والخلاف حول التشخيص بين معسكر العاملين لإنهاء الانقسام كان يؤدي حتمًا إلى الخلاف حول الحلول والعلاج.

فهناك فرق جوهري بين من يرى أن الطرف المسؤول عن وقوع الانقسام هو الذي نفذ الانقلاب/الحسم، وأصبحت الأولوية عنده الحفاظ على سلطته، وبين من يرى أن الطرف المسؤول هو الذي وقّع اتفاق أوسلو وتمسك به رغم وصولنا إلى الكارثة، ولم يمكّن الفائز من الانتخابات من الحكم رغم تكليفه بتشكيل الحكومة، وبين من يرى أن طرفي الانقسام يتحملان المسؤولية بغض النظر عن تفاوت هذه المسؤولية في كل مرحلة، وبين رأي رابع نافض يده كليًا من القوى المهيمنة ومن النظام السياسي الفلسطيني، بمختلف قواه ومكوناته، ولا يرى أي أمل بإمكانية تحقيق الوحدة في ظله.

وضمن أصحاب هذا الرأي، هناك من يرى طرفًا مستسلمًا ووكيلاً أمنيًا ولا يمكن ولا يجب الوحدة معه، ومن يرى في المقابل طرفًا ظلاميًا ورجعيًا، ليست الأولوية عنده القضية الفلسطينية كونه مرتهن لجماعة الإخوان المسلمين وتحالفاتها العربية والإقليمية والدولية.

وما دامت هناك خلافات واسعة حول التشخيص فستولد خلافات حول العلاج وأسس وكيفية وإمكانية تحقيق الوحدة والموقف من طرفي الانقسام.

يترتب على ما سبق أن العلاج عند البعض يتمثل في إسقاط الانقلاب وعودة غزة إلى سيطرة السلطة الشرعية، والتزام حركة حماس بقرارات القيادة والتزاماتها لتقبل كشريك يحتل الأقلية في السلطة والمنظمة، فيما يرى البعض الآخر الحل في إسقاط سلطة أوسلو والتزاماتها والقائمين عليها، أو بتمكين الفائز في الانتخابات الأخيرة من الحكم، أو على الأقل تمكينه من المشاركة الفاعلة في الحكم في السلطة والمنظمة، وهناك رأي ثالث يرى أنه لا إمكانية للوحدة الآن وحتى إشعار آخر، ولا بديل عن التغيير الجذري الشامل من دون الوقوف أمام إمكانية تحقيقه من عدمها، على المدى المنظور، وبالتالي من دون الإجابة عن سؤال “ما العمل” منذ الآن إلى حين حصول التغيير الذي سيمثل إن حصل خشبة الخلاص، وسيحصل ولكن بعد حين.

وهذا يقودنا إلى نقطة في منتهى الأهمية، وهي التأثير الكبير للاستقطاب الثنائي الحاد بين حركتي فتح وحماس وعدم وجود طرف ثالث قوي، بحيث لا يستطيع طرف أن يحكم وحده لعدم امتلاكه قوة كافية وأغلبية كبيرة وثابتة، بل هناك توازن في القوى بين الحركتين، إذ “يسيطر طرف على قطاع غزة”، ويمتلك قوة عسكرية وجماهيرية وتحالفات قوية، و”يسيطر الطرف الآخر على الضفة الغربية والمنظمة”، ويحظى بالشرعية العربية والدولية.

إن هناك توازنًا مستمرًا في القوى، فوفق استطلاع المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية الأخير، ستحصل حركة حماس على 34% وحركة فتح على 38% وبقية القوائم التي شاركت في انتخابات 2006 على 10%، في حين قالت ما نسبته 19% إنها لم تقرر بعد لمن تصوت. ويتوقع 23% من المستطلعين فوز قوائم حزبية ثالثة غير حركتي فتح وحماس وقوائم جديدة، وعلى الأغلب ستشمل هذه القوائم ممثلين محليين ومن العائلات وقوى السلام الاقتصادي، ففي ظل عدم وجود الرؤية والإستراتيجية والمؤسسة والقيادة الواحدة وتعطيل المقاومة وحصارها، ستطل هذه العناصر برأسها.

إن السبب الأبرز الذي ساهم في فشل كل من تجربة “وطنيون لإنهاء الانقسام” وتجربة “التجمع الديمقراطي” أنهما اعتبرتا أن رفع هذا الشعار وحده الذي يردده الجميع يكفي لإنهاء الانقسام، فضّما كل من يرغب في الانضمام وليس قوى وشخصيات منسجمة ويجمعها برنامج مشترك وإرادة للعمل، في حين كان من الأجدى وضع تصور وقواسم مشتركة على من يوافق عليها أن يكون ضمن هذا الحراك. كما لم تعطيا الأهمية اللازمة للضغط والحراك وعدم الاقتصار على مناشدات وبيانات ومظاهرات محدودة موسمية متباعدة.

في هذا السياق كانت القوى والحراكات والشخصيات والمبادرات تتوزع بين من تميل أو يميل بعضها لهذا الطرف أو ذاك، ما يعرضها لقبول ما يدعو له أو إلى دعم ما يتوصل إليه الطرفان من دون تدخل يذكر. فما ساهم في فشل حوارات المصالحة والاتفاقات المنبثقة عنها أنها كانت ثنائية، ويتم استدعاء القوى الأخرى والجميع لمباركتها، رغم الخلافات فيما بينها.

فعندما يتم الاتفاق بين حركتي فتح وحماس على حكومة وحدة يرأسها إسماعيل هنية يتم تأييد ذلك من الآخرين، ونفس الأمر حين اتفاقهما على أن يرأسها الرئيس، أو تتحول بقدرة قادر إلى حكومة وفاق وطني أو إلى تشكيل لجنة تحضيرية لعقد مجلس توحيدي، أو تمكين حكومة رامي الحمد الله حتى بعد تعديلها ووجود خلاف عليها ليصبح تمكينها أولًا هو المدخل للحل، ودائمًا وأخيرًا السير وراء الدعوة إلى الانتخابات أولًا، حتى بات عمل هذه القوى المباركة والتأييد لما يتفق عليه طرفا الانقسام، ما حولها إلى شاهد زور ليس أكثر. مع أن البديل كان ولا يزال بلورة تصور حول أسباب الفشل، وتقديم اقتراحات لتجاوزها، والضغط المتراكم لفرض إرادة الشعب على الطرفين.

إنّ التستر وراء الدعوة لعقد الانتخابات ساهم في عدم النجاح، كونه لم يقيّم بشكل صحيح ما معنى أن فلسطين تحت استعمار استيطاني وإحدى أدواته الاحتلال العسكري، وما تأثير الانقسام المدمر وعدم رسوخ التقاليد والثقافة الديمقراطية والمؤسسية، وما أهمية الاتفاق على حل الرزمة الشاملة الذي يتضمن الاتفاق على البرنامج الوطني وأسس الشراكة والديمقراطية التوافقية في السلطة والمنظمة.

في هذا السياق إذا جرت الانتخابات من دون متطلباتها لن تكون شاملة للضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة وحيثما أمكن في أماكن اللجوء والشتات، ولن تكون كذلك حرة ونزيهة وتحترم نتائجها، وإنما ستكون معرضة للتدخلات والتمويل الأجنبي والتزوير، وسيتم السعي لتكون وظيفتها خدمة الاحتلال ومن يدعمه، ومن يريدون تجريم القضية وإدانتها أو إدارة الصراع وليس حله.

ستكون الانتخابات إن جرت من دون متطلباتها وعلى رأسها مشروع وطني مقاوم موحد، قفزة في المجهول، وفي أحسن الأحوال خطوة لتكريس الانقسام وإدارته، وقد تعطي الشرعية سواء إذا جاءت كتمهيد لتغيير السلطة القائمة بأسوأ منها بسرعة، أو بعد حين بعد أن تنطلق عملية سياسية جديدة توهم بالدولة، وأقصى ما يمكن أن تصل إليه تكريس سلطة المعازل والحكم الذاتي إلى الأبد.

على القوى والشخصيات والحراكات أن تبلور رؤية شاملة، وتضع إنهاء الانقسام في سياق العمل لإنقاذ القضية والشعب والأرض في مواجهة التحديات الجسيمة التي تهددها، وهذا يتطلب إحياء المشروع الوطني، ووضع الإستراتيجيات والخطط والبرامج الكفيلة بتحقيقه خطوة خطوة، ومرحلة وراء مرحلة.

يكمن المخرج في حل الرزمة الشاملة، الذي يطبق بشكل متواصل ومتوازٍ ومتزامن، ويضع الانتخابات في سياق النضال لإنهاء الاحتلال وليس لتكريسه، وهذا يتطلب إنهاء الانقسام قبل إجراء الانتخابات، من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة وفاق وطني تعطي الأولوية لتوحيد السلطة في الضفة والقطاع، وتوفير أجواء الثقة والحريات ومعالجة آثار الانقسام، فمن لا يريد تشكيل حكومة واحدة قبل الانتخابات لن يشكلها بعدها إلا إذا فاز في الانتخابات، وأراد إقصاء الآخرين عبر تطبيق مبدأ تداول السلطة الذي لا يناسب شعبًا تحت الاحتلال ويمر بمرحلة تحرر وطني.

لا بد أن تحتكم هذه المرحلة إلى قواعد العمل الجبهوي، التي تتطلب مشاركة الجميع في المؤسسات، سواء إذا جرت الانتخابات أو لم تجر، وبغض النظر عن الفائز والخاسر فيها، بحيث ما يختلف وزن كل فصيل أو مجموعة في تشكيلة الحكومة ومؤسسات المنظمة ومن سيرأس الحكومة والمنظمة … إلخ. ويمكن أن يشمل الاتفاق كيفية التعامل مع المقاومة وسلاحها، والموقف منها، وقرارات المجلسين الوطني والمركزي، والاتفاقات بما فيها نتائج اجتماع الأمناء العامين و”تفاهمات إسطنبول”، والتزامات أوسلو والمفاوضات، وشروطها، وكيفية التعامل مع القانون الدولي والشرعية الدولية وشروط الرباعية.

نقطة أخيرة، يمكن أن يبدأ تشكيل التيار الثالث بالذين يتفقون على أساس مشترك بغض النظر عن كونهم مستقلين أو أعضاء في أحزاب وفصائل، ثم يضم بشكل متلاحق وعندما يثبت نفسه كل المخلصين والوطنيين المقتنعين بأن الوحدة قانون الانتصار، خاصة إذا وجدوا أن المحاولة جادّة ولها فرصة بالنجاح.

من الأخطاء المرتكبة في التجارب السابقة أن التركيز كان على إنجاز الوحدة من أعلى، بينما يجب التركيز على تحقيقها من أسفل، ومن خلال ضرب المثل باتخاذ خطوات عملية لمنع استمرار الانقسام وتفاقمه، وإظهار أهمية الوحدة على مختلف الأصعدة، بما فيها النقابية والجماهيرية والقانونية، وعلى صعيد تجسيد المقاومة الميدانية.

ومن الأخطاء كذلك رهن كل خطوة بمشاركة القوى الأخرى رغم اختلافها، ما يشكل وصفة للفشل، وعلى أساس القناعة بأن الوحدة الحقيقية لن تتحقق إلا ببلورة تيار ثالث قوي يكسر الاستقطاب الثنائي، ويغير موازين القوى، ولا يكون حزبًا جديدًا مع أهمية تشكيل الأحزاب، ويعمل للضغط السياسي والجماهيري وتقديم النموذج، من خلال العمل والحراك المتراكم المتعدد، وليس بالمطالبة والمناشدة وانتظار الاستجابة من طرفي الانقسام، أو انتظار تحرك كل المؤمنين بالوحدة مرة واحدة وبسرعة.

أعرف ولست بحاجة إلى من من يقول لي بأن الوحدة ستحتاج إلى وقت، ولكن إهمال العمل من أجلها بشكل مبادر وإبداعي وعلى أساس واقعي، بمعنى التعامل بدون أوهام مع الواقع لتغييره وليس الخضوع له أو القفز المغامر عنه، سيؤدي إلى عدم تحقيقها، أو تأخر تحقيقها طويلًا، وربما أبدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى