أقلام وأراء

هاني المصري يكتب –  المقاومة والسلطة والاحتلال وشعار “ارحل”

هاني المصري – 13/7/2021

منذ جريمة قتل شهيد الرأي نزار بنات، تدور نقاشات حول الشعارات الصحيحة المفروض رفعها. وهل يتم الاكتفاء بتحقيق العدالة وإنزال العقوبة بالمسؤولين عن ارتكاب الجريمة، أم أن التراكمات التي حدثت، والأخطاء والخطايا التي ارتكبتها السلطة، وآخرها إلغاء الانتخابات، وقمع المتظاهرين الذي شمل الزوجات والأبناء والصحافيين والمحامين، وتعذيب العديد منهم بالضرب المبرح؛ تقتضي رفع شعارات “إسقاط النظام” و”ارحل” و”حل السلطة”، أو الأنسب الاكتفاء فقط بتحقيق العدالة وتحميل الحكومة والأجهزة الأمنية ومحافظ الخليل المسؤولية، وما يقتضيه ذلك من إقالة الحكومة ؟

يستخدم أنصار شعارات إسقاط النظام والرحيل وحل السلطة، وما يقتضيه ذلك من تشجيع الصدام الداخلي، من أجل إثارة الناس ودفعهم للمشاركة ضد ما تقوم به السلطة على كل المستويات، لمنع أي إصلاح أو مشاركة سياسية، بما في ذلك منع مقاومة الاحتلال؛ كدليل على خطأ دعوات الإصلاح والتغيير الممكن، ويزعمون أن مقاومة الاحتلال غير ممكنة من دون التصدي للسلطة وإسقاطها.

للتعرف إلى الموقف السليم، لا بد من النظر إلى تاريخ السلطة، فهي خاضت معركة النفق بُعيد تأسيسها، التي أدت إلى ارتقاء العديد من الشهداء من أفراد الأجهزة الأمنية، وسقوط عدد من القتلى من جنود الاحتلال، ثم استأنفت الأجهزة الأمنية التنسيق الأمني ضمن عملية سياسية توجد فيها التزامات متبادلة لم تلتزم قوات الاحتلال بمعظمها، إلى أن فجّر الرئيس الشهيد القائد ياسر عرفات انتفاضة الأقصى ردًا على مؤامرة كامب ديفيد، التي ارتقى فيها آلاف الشهداء، وأضعافهم من الجرحى، وأضعاف أضعافهم من الأسرى والمعتقلين، وكان العديد العديد منهم من أفراد الأجهزة الأمنية، وهذا فتح الباب واسعًا لتغيير السلطة لو لم يتم الارتداد والعودة إلى بيت الطاعة (أوسلو). 

وبعد اغتيال ياسر عرفات، دخلت السلطة مرحلة مختلفة نوعيًا عن السابق، إذ أبقت التزامها بالتزامات أوسلو، بما فيها التنسيق الأمني، رغم تخلي الحكومات الإسرائيلية عن العملية السياسية وأوسلو والتزاماتها فيه.

تنطلق السلطة في موقفها، ليس من الأوهام فقط حول “عملية السلام”، وإنما من الاعتقاد بأن وجود، ولو سراب عملية سياسية، يعطيها شرعية ما ومبررًا للبقاء، ومن قناعة بأن المقاومة المسلحة دمرتنا، وهي سبب هزيمتنا، وأن المقاومة الوحيدة المثمرة هي المقاومة السلمية التي بقيت شعارًا لا ينفذ إلا بشكل محدود وموسمي وانتقائي، وكردة فعل أو خضوع للإرادة الشعبية التي تبادر دائمًا إلى المقاومة الفردية، أو ضمن هبات وموجات لا تنقطع دفاعًا عن الأرض والحقوق، لا سيما حق العودة، والقدس والمقدسات، ومن أجل إطلاق سراح الأسرى، ورفع الحصار عن قطاع غزة.

وإذا عدنا إلى السلطة والمقاومة، سنجد أن الشعب الفلسطيني في مرحلة تحرر وطني تقتضي مقاومة الاحتلال بكافة الأشكال، ضمن قرار وطني وإستراتيجية وطنية، وتشكيل جبهة وطنية عريضة، وتناقضه الرئيسي كان ولا يزال مع الاحتلال الذي يستهدف الفلسطينيين جميعًا. أما الصراع مع السلطة فيبقى ثانويًا، فهي مع أنها تستمد أحد مصادر شرعيتها ووجودها من الاحتلال ومن مصادر شرعية خارجية، إلا أنها استمدت شرعيتها أيضًا من منظمة التحرير وتاريخها الكفاحي، خصوصًا تاريخ وتضحيات ونضال حركة فتح، ومن الانتخابات التشريعية والرئاسية التي جرت في أعوام 1996 و2005 و2006، ومن بقائها على درجة لا يمكن إنكارها من التناقض مع الاحتلال، فهي تتعاون معه وتلعب دور الوكيل من جهة، ولكنها تصطدم معه من جهة أخرى بأشكال من المقاومة الشعبية والمقاطعة، إلى المقاومة الديبلوماسية عبر الأمم المتحدة ووكالاتها، والحصول على عضو مراقب لدولة فلسطين، والانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتقديم الادعاءات ضد جرائم الاحتلال، والوقوف ضد صفقة ترامب نتنياهو ومخططات الضم والتهويد، ورفض الخضوع التام فيما يتعلق برواتب الأسرى وأسر الشهداء.

ويضاف إلى ما سبق أن حركة فتح – التي تمنح أهم مصدر للشرعية للسلطة – قدّمت تاريخيًا سيلًا لا ينقطع من الشهداء والتضحيات، بما في ذلك في المواجهات الأخيرة مع الاحتلال، ، إذ قدمت عشرات الشهداء في مختلف مواقع المواجهة، خلال الأشهر القليلة الماضية. وحتى أثناء قمع السلطة للمتظاهرين، ورغم زجّ حركة فتح في المواجهة، تتواصل المواجهات في بيتا والقدس ومختلف مناطق الضفة التي تلعب فيها “فتح” دورًا أساسيًا.

ومن تاريخ السلطة، نجد أن قيود والتزامات السلطة لم تمنع فوز حركة حماس بعد قرارها المشاركة في السلطة، حيث حصلت على أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وذلك بفضل المقاومة وردة فعل الشعب على فشل برنامج السلطة وأدائها، وقامت السلطة بتأجيل الانتخابات الأخيرة خشية من خسارتها، ما يعني أن الانتخابات كانت تحمل تغييرًا مهمًا، كما تدل العديد من المؤشرات.

إن تغيير السلطة لتصبح أداة في خدمة البرنامج الوطني لا يمكن أن يتم عن طريق السعي لإسقاطها أو حلها، وتغليب التناقض معها، لأن هذا سيؤدي إلى تعميق الانقسام والاستقطاب، وصبّ الزيت على نار التعصب الفصائلي، وسيفتح الطريق للفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات. فيجب ألا ينسى أحد أن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة تحرر وطني، ولكن لديه في نفس الوقت سلطة لها جذور وبنية قوية ومدعومة من الاحتلال والوضعين الإقليمي والدولي، وباتت بعد الانقسام سلطتين متنازعتين لكل منهما مصادر قوة محلية وخارجية، وإذا غُلّبت الصراعات الداخلية فلن يستفيد من ذلك أحد سوى الاحتلال.

فالحديث عن إسقاط النظام غير مفهوم ولا مقبول، كون السيادة في أيدي الاحتلال الذي لن يرضى – إلا مرغمًا – بسقوط السلطة أو حلها أو تغييرها.

لقد استفاد الاحتلال من تجربته الماضية، لذلك لن يعود إلى احتلال مباشر، كما يتصوّر البعض، إذا انهارت السلطة، بل سيساعد على نشوء سلطات متعددة، بذر ويبذر بذورها منذ سنوات في الأرض الفلسطينية، تمامًا مثلما مهّد الطريق للانقسام في قطاع غزة من خلال عدم تنسيق “انسحاب” قواته منه مع السلطة، فهو يخطط لإقامة إمارات في الضفة تضاف إلى إمارة غزة ضمن خطة شهيرة وضعها الباحث الصهيوني مردخاي كيدار.

هل يعني ما سبق التغاضي عن فساد السلطة واستبدادها وقمعها وتبعيتها وتعاونها مع الاحتلال؟ لا طبعًا، ولكن الكفاح ضدها يجب ألا يكون الأولوية، ويجب أن يرى تناقضها مع الاحتلال، بدليل وقف تحويل أموال المقاصة المتكرر لإبقاء السلطة/تين ضعيفة في الضفة والقطاع، ويجب أن يكون فقط عبر وسائل سلمية وجماهيرية وقانونية، وعبر الضغط من أجل إجراء الانتخابات على كل المستويات وفي كل القطاعات، وخصوصًا الانتخابات العامة (الرئاسة، المجلس التشريعي، المجلس الوطني)، وعن طريق بلورة جبهة وطنية عريضة تستند إلى برنامج وطني وديمقراطية توافقية، توفر أساسًا للتوافق الوطني الذي يعبّر عن مختلف ألوان الطيف، وإن تعذر ذلك، يعبر عن الأغلبية، لا سيما إذا أصرّ البعض على الخروج عن المصلحة الوطنية، ومواقف الإجماع الوطني، التي تستند إلى النضال لتحقيق أهداف الشعب في إنهاء الاحتلال وتحقيق السيادة والاستقلال الوطني والمساواة وحق العودة، على طريق إنجاز الحل النهائي الجذري بإقامة دولة ديمقراطية على أنقاض المشروع الاستعماري الاستيطاني.

السلطة الآن أمام اختبار مصيري نهائي: هل ستواصل طريقها وتصل إلى الارتماء التام في خدمة الاحتلال، أم تكون جزءًا من عملية تهدف إلى تغيير السلطة ضمن معادلة شراكة وطنية؟ 

لست معجبًا برفع شعار “ارحل يا عباس”، مع أن من يطرحه محق تمامًا، فالرئيس في موقعه منذ أكثر من 16 عامًا، ولم يجر انتخابات، بل أجلها إلى أجل غير مسمى، ولم ينجح برنامجه السياسي، ولم ينجح في إنهاء الانقسام الذي وقع في عهده رغم مرور أكثر من 14 عامًا، وتجاوز قرارات مؤسسات المنظمة، وفرّغ مؤسساتها، وتجاوز قرارات اجتماع الأمناء العامين فيما يتعلق بالعلاقة مع الاحتلال والاتفاقيات، وفيما يخص إجراء الانتخابات، وتغوّلت السلطة التنفيذية على مختلف السلطات، وعلى الحقوق والحريات، حتى باتت السلطة بيد شخص واحد، وتقترب أكثر إلى سلطة بوليسية من دون مشاركة ولا مساءلة ولا رقابة.

ولكن، لا يكفي أن تكون على حق ليكن ما تقوم به صحيحًا، بل تقتضي الحنكة والحكمة، أحيانًا، بألا تأخذ حقك، لأن الوقت غير مناسب والإصرار على أخذه سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، فكما قيل “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”. فالحرص على تحقيق شعار “ارحل” أو استقالة الرئيس أو إقالته في وقت لا يريد الاستقالة و”فتح” والمؤسسات في السلطة والمنظمة لا تريد ولا تقدر إذا أرادت، وقد يؤدي الاستعجال إلى جعل هذا الهدف أبعد عن التحقيق. 

كما أن التركيز على شعار “ارحل” و”إسقاط النظام” يجعل المسألة تبدو لا تتعلق بجريمة اغتيال نزار بنات، وإنما تستغل الجريمة لتحقيق مآرب أخرى، وهذا يعطي السلطة وأنصارها والمترددين والخائفين من عدم الولوج في مرحلة عدم استقرار مادة للترويج للمؤامرة والأجندات الخارجية. فخوض المعركة وكأنها معركة فاصلة بطرح الإسقاط والرحيل وأنت غير قادر على حسمها، يعطي الخصم الداخلي إمكانية حسمها لصالحه.

هل يمكن إسقاط النظام ورحيل الرئيس من دون انتخابات، ومن دون توافق وطني؟ يجب تنظيم الثورة الشعبية ضد الاحتلال وليس ضد السلطة، فلا يكفي مئات المتظاهرين، ولا حتى الآلاف، مع أن الكثير منهم لا يوافق على شعار “ارحل” وغيره من الشعارات المتطرفة، أو ليس وقتها، خصوصًا في ظل تعقيد الوضع الفلسطيني وملابساته لدفع النظام إلى الرحيل، بل قد يؤدي ذلك إلى تقويته، لا سيما بعد أن أخذت الإدارة الأميركية سياسية دعم السلطة خشية من تقدم “حماس” لقيادة الفلسطينيين.

لقد كتبت منذ أشهر عدة أن ساعة التغيير دقت، سواء إذا جرت الانتخابات أو لم تجر، لأن الوضع بلغ من السوء إلى درجة لم يعد قابلًا للاستمرار، والشعب لم يعد قادرًا على الاحتمال، ولكن لا يعني هذا أن التغيير سيحدث حتمًا، أو على الأرجح، وخلال أيام أو أشهر، فحوامل التغيير في الاتجاه الصحيح لم تولد بعد، وكذلك الإرهاصات الموجودة لم تنضج بعد، ويجب الحرص على أن يأتي التغيير ليكون خطوة إلى الأمام، وبما يساعد الشعب الفلسطيني على تحقيق أهدافه وحقوقه الوطنية، لا أن يصب في الاتجاه المعاكس.

إن التغيير الممكن هو الذي يكون من خلال إعطاء الأولوية للمقاومة، وبعد ذلك الكفاح لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، عبر إعادة بناء وتغيير مؤسسات السلطة والمنظمة، على أساس المبادئ والمصالح وتوازن القوى، وبرنامج القواسم المشتركة وأسس الشراكة والتعددية، وأخذ العوامل المحيطة والمؤثرة والتطورات والتغييرات الحاصلة والمحتملة بالحسبان، لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي للشعب الفلسطيني داخل الوطن وخارجه، التي تؤمن بالمشاركة من دون تفرد ولا هيمنة ولا إقصاء أو تخوين أو تكفير أو احتكار للحقيقة والوطنية والدين.

إنجاز الوحدة والشراكة هدف صعب التحقيق، ولكنه قابل للتحقيق، وطرحه لا يهدد بخسارة كل شيء.

الخلاصة مما سبق: لا يمكن الاستناد إلى جريمة اغتيال نزار بنات للمطالبة بكل شيء – رغم أن أداء السلطة إزاءها لم يتميز بالقمع والارتباك، وعدم الوحدة فقط، بل يفتقر إلى الحد الأدنى من الكفاءة والمهنية، ويدل على غباء يؤدي إلى مضاعفة الخسائر – لأن هذا سيؤدي إلى عدم تحقيق أي شيء، ومن يعتقد أن السلطة شارفت على الرحيل، وأن إنهاء الاحتلال على مرمى حجر، وأن زوال إسرائيل بات قاب قوسين أو أدنى، عليه أن يراجع حساباته، فالسلطة في وضع صعب جدًا، وفي الزاوية، لكنها لا تزال قادرة على البقاء لأسباب داخلية وخارجية.

وأهم الأسباب الداخلية، اشتباكها، ولو بحدود، مع الاحتلال، وعدم تبلور بديل مقبول قادر على التحليق، وتجري محاولة لتأهيل “حماس” وعناصر ليبرالية ومجتمعية مختلفة لتشكل هذا البديل، ونأمل ألا تنجح، وأن تبقى “حماس” جزءًا وفي قلب البديل الوطني، ضمن معادلة شراكة لا تستبدل هيمنة فصيل بفصيل ولا فرد بفرد.

أما أهم الأسباب الخارجية، فهو عدم رفع الكرت الأحمر الخارجي في وجه السلطة حتى الآن، والسبب عدم معرفة من هو خليفة الرئيس عباس، وماذا سيحصل في الوضع الفلسطيني إذا غاب لسبب أو لآخر قبل نُضج البديل. وقد تكون المحاولات قد بدأت لإيجاد البديل المناسب للخارج، لأن السلطة بدأت تفقد قدرتها على الحكم، ويهدد بقاؤها من دون تغيير أو إصلاح بردات فعل وحدوث أشياء غير مسيطر عليها، كما تدل المقالات والأخبار والمؤشرات في الصحف الإسرائيلية والأوروبية والأميركية وبعض العواصم العربية، وهذا ما يخيف السلطة أكثر من أي شيء آخر، ويجب ألا يكون الثوار سذجًا ويعبّدون الطريق بحسن نية لغيرهم كما حدث في تجارب أخرى.

إن التركيز على تحقيق العدالة بخصوص جريمة قتل نزار بنات، بما في ذلك إقالة الحكومة ومحاسبة المسؤولين عن الجريمة بشكل مباشر وغير مباشر، لا يعني عدم ضرورة تقديم مبادرات شاملة تستهدف الإنقاذ الوطني الشامل. فالربط بين تحقيق كل المسائل والقضايا لا يؤدي إلى حلها، وإنما إلى تعقيدها. فتغيير الحكومة يختلف نوعيًا عن إسقاط النظام ورحيل الرئيس، وتحقيقه يساعد على إحداث تغيير أكبر.

وفي هذا السياق، طرح البعض مطالب متناقضة، مثل مطالبة الرئيس بتحقيق العدالة وتغيير الحكومة ورحيله في ذات الوقت، هذا مع العلم أن الأمر يجب ألا ينحصر بتغيير حكومة بحكومة، بل بتغيير نهجها وسياساتها ورموزها، وأن تكون مسؤولة في أقرب وقت أمام مجلس تشريعي، وفي ظل سيادة القانون، وقضاء فاعل ومستقل! .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى