#شؤون فلسطينية

هاني المصري: لماذا لم تولد أو لم تنجح الأحزاب والحركات الفلسطينية الجديدة؟

هاني المصري 25-4-2023: لماذا لم تولد أو لم تنجح الأحزاب والحركات الفلسطينية الجديدة؟

هاني المصري
هاني المصري

من الظواهر التي تستحق التأمل والدراسة، ظاهرة عدم نجاح تشكيل أحزاب وحركات سياسية جديدة، على الرغم من عشرات المحاولات التي نشهدها، ومن أن الفصائل التي لا تزال قائمة أو فاعلة جرى تأسيسها منذ عشرات السنين، والأهم عدم إنجاز البرنامج أو المشروع الوطني الذي تبنته، ولا الشعارات التي رفعتها، بل ما حصل في المحصلة أسوأ بكثير، فالاحتلال توسع باحتلال بقية فلسطين (أراضي 1967)، وتعمق منذ ذلك التاريخ، والدليل الدامغ على ذلك وصول عدد المستعمرين المستوطنين في الضفة إلى نحو مليون، فضلًا عن وضع مخططات جار تطبيقها لزيادة العدد إلى مليونين.

وهناك أدلة أخرى مثل وقوع الانقسام السياسي والجغرافي والمؤسسي، واستمراره، وسيره الحثيث للتحول إلى انفصال، وتهميش القضية الفلسطينية؛ حيث تراجعت مكانتها وأهميتها في الأولويات العربية والإقليمية والدولية.
هناك أسباب عدة وراء عدم نجاح محاولات تشكيل أحزاب وحركات سياسية جديدة، ومن أهمها ما يأتي:

السبب الأول: هيمنة حركتي فتح وحماس على الفضاء السياسي

ثمة من يعزو عدم نجاح المحاولات المتكررة لتشكيل أحزاب وحركات جديدة إلى هيمنة الفصائل، وخصوصًا حركتي فتح وحماس على معظم الفضاء السياسي، وسيطرة كل واحدة منهما على سلطة، حتى لو كانتا تحت الاحتلال وفي ظل الانقسام؛ ما مكّن كلًا منهما من التحكم في أوراق وأدوات القوة، مثل القدرة على توظيف أعداد كبيرة على أسس، أهمها حزبية وفصائلية، وتمويل السلطتين من الجمارك والضرائب ومن الدول والحركات والجماعات الداعمة للقضية الفلسطينية بشكل عام. كما تحظى السلطتان بدعم من أطراف ودول محددة، مع ملاحظة الفرق بينهما في العديد من الأشياء، وخصوصًا فيما يتعلق بدعم السلطة في الضفة التي لا تزال توصف من أوساط واسعة بالسلطة الشرعية، وبين دعم سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة.

وهناك آراء يذهب أصحابها إلى أنه لولا تأسيس السلطة، وما حصلت عليه من مساعدات عربية ودولية مناسبة وصلت منذ تأسيسها إلى حوالي 40 مليار دولار؛ لكانت حركة فتح التي تقود السلطة، أو الأصح تُقاد السلطة باسمها، قد تراجعت، أو حتى اندثرت، وقد كتبت سابقًا عن ذلك، وأنا من الكتاب الذين كتبوا منذ سنوات عديدة عن تحول “فتح” إلى “حزب السلطة” أو “حزب الموظفين”.

وهذا الأمر بدأت بذوره منذ أن ذابت “فتح” بالكامل في السلطة؛ حيث يندر ألا يكون عضوًا في “فتح” غير منتسب أو موظف في وزارة أو جهاز أمني أو ضمن دوائر منظمة التحرير. وأدى ذوبان “فتح” في السلطة إلى أن تصبح رهينة للسلطة، وليست قائدة لها، فكيف يمكن أن يقود الموظف مديره ووزيره في العمل؟

لقد ترافق تأسيس السلطة مع تهميش منظمة التحرير وتقزيمها؛ حيث وضعت مؤسساتها في الثلاجة، وتستدعى عند اللزوم فقط، وأصبحت موازنتها بندًا صغيرًا في موازنة السلطة، فضلًا عن تهميش الحركة الوطنية بمختلف فصائلها، وعدم خلق بديل الذي كان بمقدوره إذا تبلور أن يوقف هذا المصير. وما حدث مع “فتح” حصل مع “حماس”، وإن بشروط وخصائص مختلفة، ولكنها غرقت إلى حد كبير في السلطة التي سيطرت عليها من أجل حماية المقاومة، وتحول الأمر جراء أعباء السلطة إلى أن المقاومة تحمي السلطة في القطاع أكثر مما تحمي السلطة المقاومة.

السبب الثاني: عدم طرح مشروع وطني بديل متكامل

لم تطرح الأحزاب والحركات الجديدة مشروعًا وطنيًا بديلًا متكاملًا، فهي إما تدور في إطار المشاريع والبرامج والفصائل القائمة، أو تكتفي بنقدها ومعارضتها من دون تقديم بديل متكامل نظري وعملي.

وتخفي هذه الحقيقة من خلال الاختباء وراء الدعوة إلى إجراء لانتخابات، أو وراء الدعوة إلى تبني المقاومة، فالانتخابات وسيلة وليست هدفًا، وهي جزء مهم من النظام الديمقراطي وليس أهم جزء منه، وإذا لم تكن ضمن نظام ديمقراطي تتحول إلى مسألة شكلية تجميلية لأنظمة ديكتاتورية، تستخدم الانتخابات الصورية لإدامة عمرها وتعميق سيطرتها، وهذا بالنسبة إلى الدول المستقلة ذات السيادة، بينما بالنسبة إلى السلطتين تحت الاحتلال المباشر وغير المباشر فتلك قصة أخرى.

أما المقاومة فهي وسيلة وليست غاية أو هدفًا أو صنمًا نعبده، وإذا لم تكن جزءًا من مشروع متكامل محدد الأهداف والقيم والمبادئ وأشكال النضال والتحالفات والمراحل والقواعد والأسس التي تحكم العلاقات الداخلية والخارجية؛ لن تكون إستراتيجية تحرير، وإنما قاطعة طريق، أو وسيلة لخدمة مصالح خاصة أو مشروع محلي أو إقليمي أو دولي، أو كلها، أو مجرد آلية من آليات الدفاع الذاتي عن النفس في وجه العدوان الاستعماري الاحتلالي الاستيطاني العنصري المستمر، الذي لم يغلق ويكتفي بما حققه، بل لا يزال مفتوحًا ووصل إلى مرحلة يعتقد فيها بعض أقطابه أنهم باتوا قادرين على الحسم، وتصفية القضية الفلسطينية بخطوات كبيرة سريعة، وليس متدرجة كما حصل لفترات طويلة، وهذا أوقع إسرائيل في أزمة غير مسبوقة حول هويتها ودورها بين مؤسسيها وبين قادتها الحاليين.

نعم، من دون مقاومة، وأولها المقاومة المسلحة، لا يمكن أن يحصل فصيل أو حزب فلسطيني قديم أو جديد على شعبية كبيرة، وذلك بحكم جذرية الصراع وعدوانية المشروع الصهيوني الاستعماري وإجرامه، وهذا من الأسباب التي تفسر عدم شعبية الأحزاب والحركات الجديدة، ويكفي للدلالة على ما سبق التذكير بأن “عرين الأسود” على الرغم من أنها محلية وغير مبلورة وتفتقد إلى الكثير من العناصر والمقومات عندما توجه نداء للتظاهر يتجاوب معها الآلاف في مختلف التجمعات.

كما لا يمكن النهوض من دون مشروع وطني ديمقراطي، ينطلق من الخصوصية الفلسطينية، التي تتطلب الجمع ما بين المهمات الوطنية والديمقراطية، ولكن مع غلبة المهمات الوطنية؛ لأن الصراع صراع وجودي وجذري، وليس على الحدود، والمرحلة مرحلة تحرر وطني، تترافق معها مهمات بناء ديمقراطي، وأن الحركة الصهيونية لا تقبل التسوية حتى لو كانت مختلة لصالحها، ومصير اتفاق أوسلو خير شاهد على ذلك.

إن الديمقراطية الحقيقية التي تتضمن الفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء وسيادة القانون، والاحتكام إلى الشعب بالانتخابات بشكل دوري، وتحقيق العدالة والتقدم الاجتماعي، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بما فيها حرية الرأي والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وإنجاز المساواة والمحاسبة والمساءلة والعلنية؛ لا يمكن أن تقام بشكل حاسم تحت الاحتلال، مثلما لا يمكن أن تقام الانتخابات الدورية الحرة والنزيهة التي تحترم نتائجها تحت الاحتلال، مثلما لا يمكن تحقيق التنمية المستدامة والاستقلال الاقتصادي تحت الاحتلال.

ما سبق لا يعني عدم النضال من أجل تجسيد الديمقراطية، بما فيها الانتخابات الدورية، ولا عدم إجراء الانتخابات في كل القطاعات وعلى كل المستويات كلما كان ذلك ممكنًا، ولكن ضمن الإدراك أن ذلك في سياق الكفاح الوطني الديمقراطي، ضمن فهم أن لا حرية جدية ولا ديمقراطية حقيقية ولا تنمية مستدامة إلا بعد إنهاء الاحتلال، وإنجاز السيادة ضمن دولة فلسطينية على حدود 1967، أو ضمن دولة ديمقراطية على كل فلسطين بعد هزيمة الحركة الصهيونية، وتفكيك نظام الامتيازات العنصري.

السبب الثالث: تأثير العوامل الخارجية

نشأت القضية الفلسطينية بوصفها قضية دولية، تؤثر فيها المحاور والدول الإقليمية والدولية، خصوصًا المتحكمة في النظام الدولي والإقليمي؛ نظرًا إلى أهمية فلسطين وموقعها الإستراتيجي، ونشوء إسرائيل بوصفها امتدادًا وجزءًا من مشروع استعماري عالمي، وليس لحل المسألة اليهودية. وبعد قيام إسرائيل واحتلالها الجديد في العام 1967، أصبح الاحتلال لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله، ويجب وضع الخطط لإفشال مخططاته وأهدافه، وليس التصرف وكأننا في سويسرا.

في هذا السياق، أي بديل فلسطيني يجب أن يكون له امتداد أو عمق عربي وإقليمي ودولي، فالاحتلال صاحب السيادة على الأرض والسكان والموارد لا يقف مكتوف اليدين وهو يرى تغييرًا حصل أو يمكن أن يحصل ضد مصالحه وأهدافه، فهو يتدخل لمنع حصوله أحيانًا قبل وقوعه، وأحيانًا بعد وقوعه.

فعندما جرت الانتخابات الفلسطينية التشريعية في العام 2006، سمح الاحتلال بإجرائها؛ لأن التقديرات الأميركية والإسرائيلية والعربية والفلسطينية توقعت حصول حركة فتح وحلفائها على الأغلبية؛ أي معسكر التسوية وأوسلو، وهذا سيمكّن إن حصل المخطط له من احتواء حركة حماس والفصائل المقاومة الأخرى، التي شاركت في الانتخابات الثانية بينما قاطعت الانتخابات الأولى في العام 1996، من خلال انضوائها تحت سلطة أوسلو؛ أي من دون وضع شرط التخلص من أوسلو بوصفه شرطًا للمشاركة في الانتخابات، وعندما جاءت النتائج مخالفة للتوقعات تم الانقلاب عليها.

كما ساعد الاحتلال على وقوع الانقسام الذي يشكل نكبة ثانية للفلسطينيين، على الرغم من أن البعض يشيد بنعمته بسبب أنه حال دون احتواء المقاومة على حد زعمهم ، متجاهلًا أن المقاومة موجودة، ولكنها باتت محاصرة ومعرضة للعدوان باستمرار، وتخدم السلطة في غزة جراء الانقسام أكثر مما هي إستراتيجية للتحرير.

السبب الرابع: طغيان المحلي والجهوي على الوطني

يطغى على الحراكات والأحزاب الجديدة المحلية أو الجهوية والعفوية ومنهج “في الحركة بركة”؛ بمعنى أنها تكون محصورة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأحيانًا في أحدهما، أو أجزاء منهما، بينما الشعب الفلسطيني الذي بات يعد أكثر من 14 مليونًا خارج حساباتها، أو يدرج بصورة شكلية، مثلما تتم مشاركة المرأة كإكسسوار، وليس إيمانًا بدورها بوصفها نصف المجتمع الذي من دون إشراكها وتفجير طاقاتها لا يمكن أن يتحرر الشعب سياسيًا ولا اجتماعيًا. كما أن بعضها يركز على قطاع معين، مثل المعلمين أو الضمان الاجتماعي، من دون ربطه بالقطاعات الأخرى، وبأهمية التغيير في المؤسسات السياسية التي هي في النهاية تتحكم في القرار، ومن دون تغييرها لا يمكن حدوث تغيير جوهري مستقر في أي قطاع أو مجال.

إعادة إنتاج التجارب السابقة

هناك أسباب أخرى، مثل أن مؤسسي الحراكات والأحزاب الجديدة يندرجون في معظمهم من كبار السن الذين كانوا منتمين إلى الفصائل القديمة التي لا تزال قائمة، وبالتالي يعيدون إنتاج التجارب القديمة نفسها، أو بتغييرات قليلة، من دون أن يملكوا القدرة على مواكبة التغييرات والمستجدات والتفاعل المنتج معها، ولا أدوات التغيير المطلوبة، ومن دون أن يقدروا على جذب الشباب، الذين من دونهم لا يمكن نهوض أي حزب أو حراك.

كما أنهم يركزون على العمل من أعلى، وليس من أسفل إلى أعلى، ويراهنون على استجابة القيادة نفسها، أو الفصائل بشكل عام، أو اليسارية، أو يتخذ بعضهم موقفًا عدميًا من الجميع، ويركزون على شعار وهدف الإطاحة بالقيادة الراهنة، وهم غير قادرين على تأثير أو حشد يذكر في المظاهرات والتحركات التي ينظمونها، فليس الأمر الحاسم أن تبشر بالتغيير القادم، بل بتوفير شروطه، وتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه في كل مرحلة.

وهناك منهم من يقلل من أهمية القضية الوطنية، ومناهضة الاحتلال، ويركز على تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال، ويعلي من أهمية الدفاع عن الحقوق والحريات على حساب القضية الوطنية، فضلًا عن وجود حراكات موسمية يشارك فيها شباب مرة كل عام أو أعوام عدة، أو في المرحلة الفاصلة ما بين حصولهم على شهادتي الماجستير والدكتوراة. وثمة من يقلل من قوة النظام السياسي، على الرغم من إدراك ضعفه، غير مدرك أن العوامل الخارجية تضطلع بدور متزايد في بقائه، وقد تسعى إلى إعادة بنائه بشكل جديد أسوأ، وأن عدم وجود بديل يجعله الواقع الوحيد المستمر.

هناك حاجة إلى رؤية شاملة

لا يمكن أن تحقق هذه الأحزاب والحركات ما تصبو إليه من دون بلورة رؤية شاملة، وفكر يستوعب التجربة الفلسطينية، ويستخرج الدروس والعبر منها، ويجيب عن سؤال: لماذا لم ينتصر الشعب الفلسطيني على الرغم من نضالاته وتضحياته ومعاناته الطويلة، ولماذا لم يحقق إنجازات بما ينسجم مع هذه البطولات والتضحيات، فلا يكفي تحميل العوامل الذاتية أو الخارجية أو كلتيهما المسؤولية، بل يجب التقدم بالتشخيص وتقديم العلاج؟

فحركة فتح قادت؛ لأنها طرحت طرحًا جديدًا، وركّزت على أهمية البعد الفلسطيني في الصراع وأولويته، من دون تجاهل أهمية الأبعاد الأخرى، وانفتحت على جميع التيارات، وساعدها على تبوأ القيادة وقوع هزيمة حزيران ومعركة الكرامة.

أما “حماس” فنافست على القيادة؛ لأنها طرحت نفسها بديلًا، وخاضت الانتخابات تحت برنامج التغيير والإصلاح، بعد أن وصلت القيادة وبرنامجها إلى طريق مسدود، كما ساعدها نهوض الإسلام السياسي، فضلًا عن أن المقاومة المسلحة كانت من أهم الروافع التي رفعت حركتي فتح وحماس.

كما لا يمكن تحقيق أهداف هذه الأحزاب والحركات من دون إدراك العلاقة بين الوطني والديمقراطي، بين الوطني والقومي والإسلامي والأممي مع أولوية الوطني، وبين المعيشي والمباشر والمرحلي والأهداف والأحلام الكبيرة والبعيدة، وبين فلسطين وعمقها العربي والإنساني التحرري، وتأثرها وتفاعلها المتبادل بما يجري في المنطقة والعالم، ومن دون إعادة تعريف المشروع الوطني، بعد أن جرت مياه كثيرة في النهر الفلسطيني … المشروع الذي يحدد الأهداف والحقوق والمبادئ والقيم الأساسية، وأشكال العمل والنضال والمراحل والتحالفات الجامعة لكل الفلسطينيين أينما تواجدوا، والمنسجم مع وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، والذي يأخذ بالحسبان كذلك الظروف والمهمات الخاصة التي يعيشها كل تجمع فلسطيني.

تأسيسًا على ما سبق، التغيير قادم قادم؛ لأنه سنة الحياة، ولا يبقى على ما هو إلا هو، وهو عملية تاريخية تدرجية أحيانًا، وثورية أحيانًا أخرى تحدث بقفزات نوعية، ولكنها تبدأ بإعطاء الأولوية لبلورة البديل النظري والعملي عما هو قائم من دون استسلام للواقع ولا القفز عنه، وهناك متغيّرات عربية وإقليمية ودولية وإسرائيلية وفلسطينية تشكل فرصة تاريخية تنتظر من يوظفها، فهل ينهض المارد الفلسطيني ويلتقطها؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى