هآرتس – زكريا الزبيدي .. غاريبالدي جنين ..!!
هآرتس – بقلم ديمتري شومسكي – 23/9/2021
” نظرة على تاريخ انظمة قمعية توضح بأنه لا يوجد ما يدعو للانفعال والحماس من “صورة الانتصار” لزكريا الزبيدي وهو يقاد مضروب الى سيارة الشرطة “.
“صورة الانتصار الكبرى لاسرائيل تساوي الف كلمة: العقل المدبر للهرب وكبار رجالات الجهاد وهم ينقبون في حاويات القمامة بحثا عن بقايا طعام؛ وزكريا الزبيدي المرتعب وهو يقاد الى سيارة الشرطة، ووجهه متعب ومنتفخ بسبب اللكمات. اخفض رأسك، أمرته بطلة الساعة، الشرطية”. هكذا احسن جدعون ليفي وصف لحظة القاء القبض على اثنين من السجناء الفارين، زكريا الزبيدي ومحمد العارضة، في أم الغنم (11/9). لا شك أن صورة الانتصار هذه التي عرضت بتفاخر في ذروة البث رفعت معنويات اسرائيليين كثيرين بتأكيدها على التفوق التام لاسرائيل أمام مظاهر المقاومة الفلسطينية، وأعادت لهم ايضا الشعور بالأمن بأنه يمكن مواصلة روتين الوضع القائم دون أن ندفع في المقابل أي ثمن حقيقي.
لكن عند قراءة اقوال ليفي رأيت فجأة صورة انتصار اخرى، اتضحت بأثر رجعي، بالنسبة لمن يبدو أنهم منتصرون، وهي صورة مضللة جدا. تذكرت المقال الحاد والمؤثر لزئيف جابوتنسكي الذي كتبه في أواخر العام 1905، وهي سنة الثورة الروسية الاولى، الذي مثل معظم مقالاته بالروسية، رغم جهود الترجمة المباركة من قبل معهد جابوتنسكي في السنوات الاخيرة، ما زالت لم تترجم للغة العبرية. جابوتنسكي الذي في صباه غازل بقدر لا بأس به الاشتراكية، وعندما اصبح صهيونيا اظهر تعاطف واضح مع معارضي حكم الفرد الديكتاتوري لقيصر روسيا، عرض في هذا المقال ذكرياته الغضة نسبيا من معتقل الاوديسي، في 1901 سجن هناك لبضعة ايام بتهمة علاقاته مع اوساط الثوريين في المدينة. في السجن التقى جابوتنسكي مع أحد الثوار اليهود الشباب، الذي كان يسمى من قبل اصدقائه غريبالدي، ووضعه الجسدي كان متدهور جدا لأنه اثناء اعتقاله تم ضربه بشدة من قبل رجال الشرطة. السبب الذي من اجله تم ضرب غريبالدي واعتقاله هو رفع العلم الاحمر على رأس مظاهرة معارضي نظام القيصر، حيث كان على العلم الشعار الاستفزازي والمتحدي وهو “الى الامام، يا اوتوقراطية”. يمكن التخمين بأنه من ناحية جنود الاوتوقراطية القيصرية فان الشخصية المهانة التي تعرضت للكدمات من اوديسا بعد اعتقاله مثلت صورة انتصار مثالية.
غريبالدي آخر هو الذي من مدينة نيس، الزعيم المبجل لحركة توحيد ايطاليا والذي اعجب به جابوتنسكي ربما اكثر من أي شخصية تاريخية اخرى، جسد بشخصيته بوضوح الصورة المعاكسة: صورة الانتصار المطلق غير المتنازع عليها للرغبة في التحرر بدلا من القمع والاستعباد. من غير المعروف اذا كان الثوري اليهودي الشاب، الذي تعرض للضرب المبرح من قبل الشرطة القيصرية ووجد نفسه في زنزانة السجن المجاورة لجابوتنسكي، قد اطلق عليه اصدقاءه حقا اسم غريبالدي، أو أن المعجب الصهيوني بمقاتل الحرية الايطالي الذي أخذ لنفسه حرية أدبية ودعا بطل مقاله بهذا الاسم. اذا كان جابوتنسكي قد اختار حقا أن يعطي المعارض اليهودي للنظام القيصري اسم البطل القومي الذي حظي بأن يرى في حياته حلمه يتحقق، فانه بهذا اراد اعطاء اشارة على أن “الغريبالديين” اليهود من مجال الاستيطان اليهودي، الى جانب باقي مضطهدي الحكم القيصري، يمكنهم في نهاية المطاف الانتصار على الاوتوقراطية المكروهة حتى لو كانت في هذه المرة يد النظام هي المتفوقة.
جابوتنسكي كان على حق. كما هو معروف في شباط 1917 النظام الاوتوقراطي القمعي للقياصرة الروس انهار بشكل نهائي. ضمن امور اخرى، هذا حدث بفضل المساهمة الفريدة لمعارضي النظام اليهود مثل “غريبالدي” الاوديسي، الذين عانوا من القمع والتمييز اللاسامي من قبل هذا النظام.
زكريا الزبيدي ليس مثل غريبالدي اليهودي من اوديسا. وليس نظام الاحتلال الاسرائيلي مثل النظام الاوتوقراطي القيصري. وليس غريبالدي اليهودي من اوديسا مثل غريبالدي الايطالي من نيس. وليس النظام الاوتوقراطي القيصري مثل النظام الهابسبورغي الذي حكم البلاد الايطالية. وعلى الرغم من ذلك إلا أن هناك أمر واحد، واضح ومكشوف، من كل ذلك وهو أن مدافن التاريخ مليئة بأنظمة، التي “صور انتصارها” كانت تشبه صورة الزبيدي المرتعب والذي يقاد الى سيارة شرطة الاحتلال الاسرائيلي، أو تشبه صورة “غريبالدي” الاوديسي الجابوتنسكي وهو يُجر الى سجن النظام القيصري. يجدر بهؤلاء الاسرائيليين الذين يحتفلون الآن بتصفيق كبير للانتصار الاسرائيلي في قضية هرب السجناء، أن يكونوا مدركين لذلك.