ترجمات عبرية

هآرتس: خالد داود، مدير مركز ثقافي في الدهيشة، رهن الاعتقال الإداري، لماذا؟

هآرتس 26/12/2025، مايا روزنفيلدخالد داود، مدير مركز ثقافي في الدهيشة، رهن الاعتقال الإداري، لماذا؟

قضاة المحكمة العليا نوعام سولبرغ واليكس شتاين وخالد كبوب قرروا في 19 تشرين الثاني الماضي رفض التماس صديقي خالد داود (67 سنة)، وهو من سكان مخيم الدهيشة ومدير مركز ثقافي هناك، ضد تمديد اعتقاله الإداري. وقد اتخذ القرار رغم تقديم ادلة دامغة للقضاة تثبت عدم وجود أي سبب معقول لاعتقال داود إداريا من الأساس، فضلا عن تمديد مدة الاعتقال، ورغم انهم لم يظهروا أي اعتراض على هذه الأدلة. مع ذلك، قرروا تمديد الاعتقال شهرين فقط وليس ثلاثة اشهر مثلما طلب الشباك، وان يكون هذا التمديد هو الأخير. ولو كانوا على قناعة بان داود يشكل أي خطر على ما يسمى “امن المنطقة” لما كانوا منعوا الشباك من ابقائه في الاعتقال الى الابد. ورغم كل ذلك فقد اختاروا الموافقة على استمرار حبسه.

انا اريد رواية قصة اعتقال داود الإداري لان استمرار حبسه يهدد حياته. يعاني داود من مرض مناعي ذاتي حاد (التهاب المفاصل الروماتويد) في مرحلة متقدمة، الامر الذي يستدعي مراقبة طبية دقيقة. وتتفاقم اعراض هذا المرض في الشتاء. آخر مرة اعتقل فيها إداريا (من كانون الثاني حتى حزيران 2024) لم يكن لينجو من الظروف القاسية والعنف وسوء المعاملة لولا تدخل محاميه الذي تمكن من تامين اطلاق سراحه المبكر. خلال فترة اعتقاله أوقفت مصلحة السجون تزويده بالدواء الذي كان ياخذه بانتظام، الميتوتريكست، وفقد داود القدرة على استخدام ذراعيه وساقيه لبضعة أسابيع.

إضافة الى ذلك فان جنود “وحدة متسادا”، الوحدة الخاصة التابعة لمصلحة السجون، قاموا بكسر ضلعين من اضلاعه وجزء من فكه في هجمات منفصلة؛ أيضا قام مقاتلون من وحدة نحشون، وهي وحدة مرافقة السجناء التابعة لمصلحة السجون، بضربه في كل انحاء جسده واصابته إصابة بالغة حتى نزف (اثناء نقله الى المحكمة العليا وفي طريق العودة الى السجن). وقد فقد 20 كغم من وزنه. وعندما تم اطلاق سراحه في حزيران 2024 كان متعب جدا. وفي الأشهر الـ 14 التي فصلت بين اطلاق سراحه وبين الاعتقال الحالي خضع لعلاج ترميمي متنوع، لكنه لم يستعد حالته البدنية والنفسية السابقة.

أنا أرغب في رواية قصة اعتقال خالد الإداري لانه قائد مجتمعي وله مكانة مرموقة واسمه يتردد صداه في الضفة وخارجها. لو انه كان مواطن إسرائيلي يهودي لكان عمله التربوي والاجتماعي من اجل رفاه المجتمع، خاصة من اجل النهوض بالأطفال والشباب، قد اهله على الأرجح للحصول على جائزة “انجاز العمر”. ولكن لانه فلسطيني يخضع للاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ 58 سنة فان افعاله جعلته هدف لحملة اضطهاد وحشية غير مسبوقة من قبل الشباك، الذراع التنفيذي للنظام صاحب النفوذ المطلق. وقد تنتهي هذه الحملة بموته.

أنا ارغب في رواية قصة الاعتقال الإداري لداود من اجل تسليط الضوء على التحالف المشين والمستمر بين الشباك وبين النظام القضائي في إسرائيل بكل هيئاته، الذي لولاه لما كان اعتقاله ممكن. يكمن جوهر هذا التحالف في منح النظام القضائي لجهاز الشباك صلاحية مطلقة في تقرير مصير سكان المناطق المحتلة وحبسهم لفترة طويلة بدون الزامه بتقديم أي دليل يثبت ارتكابهم أي جرائم أو نية ارتكاب جرائم. على مدى عقود الاحتلال تسبب هذا التحالف في ظلم لا يغتفر لعشرات آلاف الفلسطينيين ومئات الآلاف من أبناء عائلاتهم وكل المجتمع الفلسطيني. في هذا العصر الذي تشن فيه إسرائيل حرب إبادة في غزة وتحارب فيه استمرار وجود الفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، يعرض هذا التحالف بين النظام القضائي والشباب داود والآلاف غيره لخطر الموت.

أنا تعرفت على داود قبل 30 سنة تقريبا، خلال فترة كنت أقوم فيها باجراء بحث ميداني انثروبولوجي في مخيم الدهيشة كجزء من شهادة الدكتوراة. بدأت البحث في 1992 قبل الانتخابات التي أوصلت اسحق رابين الى الحكم بفترة قصيرة، وقبل بضعة اشهر من بدء المفاوضات السرية التي أدت الى التوقيع على اتفاق أوسلو. كانت تلك فترة انتقالية شهدت تغييرات جذرية في حياة الكثيرين من سكان الدهيشة. كان الشعور بالتغيير واضح في المحادثات والمقابلات التي اجريتها مع عشرات النشطاء السياسيين، الذين في معظمهم كانوا من السجناء الذين اطلق سراحهم، والذين سجنوا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بسبب نشاطهم في المنظمات التي تنتمي لـ م.ت.ف، التي حظرتها إسرائيل كلها منذ الأيام الأولى للاحتلال.

بعد تشكيل السلطة الفلسطينية في 1994 انخرط كثير من هؤلاء النشطاء، لا سيما المنتمين لحركة فتح، في الجهاز الإداري والأمني للسلطة. في المقابل، انسحب آخرون، بمن فيهم جزء كبير من أعضاء الجبهة الشعبية التي كانت تحظى بشعبية كبيرة في الماضي البعيد، من العمل السياسي المنظم. واتجهوا نحو التعليم العالي والتدريب المهني والعمل في المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، أو جربوا حظهم في مشاريع تجارية صغيرة، وعندها ظهر ان فجر عهد جديد قد بزغ.

داود عمل في تلك الفترة كمعلم للعلوم والرياضة في مدرسة الوكالة للبنين في الدهيشة، وكان يشارك في نشاطات تطوع مع الأطفال والمراهقين. حتى ذلك الحين كان الجميع يطلقون عليه لقب “الأستاذ” تقديرا لكفاءته التربوية، وليس كدلالة على وظيفته. في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان ناشط في الجبهة الشعبية واعتقل عدة مرات بسبب ذلك. ولكن في بداية التسعينيات، حتى قبل أوسلو، انسحب من صفوف الجبهة بسبب خيبة الامل من مسارها السياسي.

سوية مع عدد من الأصدقاء أسس في 1994 “ابداع”، وهو اول مركز ثقافي ورياضي للشباب في مخيم الدهيشة. وقد سبقته مؤسسات اجتماعية اقامتها الحركات المنبثقة عن المنظمات الفلسطينية، لكن النشطاء فيها عانوا من الملاحقة المستمرة من قبل السلطات الإسرائيلية. ابداع أقيمت كمؤسسة عامة مستقلة غير تابعة لاي تنظيم، بهدف التركيز على تطوير الخدمات المجتمعية وتعزيز قدرة الأطفال والشباب.

يضيق المجال لحصر كل النشاطات والخدمات التي قدمها المركز واسهامه في مجتمع الدهيشة، الذي خضع مجددا بعد سنوات أوسلو القصيرة المليئة بالامل، للسيطرة العسكرية الكاملة لنظام الاحتلال. ارغب ان اذكر مجموعة رياض الأطفال والمدارس التمهيدية، حيث يتعلم حاليا فيها مئات الأطفال الصغار من المخيم، وصفوف الفنون والحاسوب والموسيقى للأطفال والشباب، ومكتبة الأطفال الكبيرة للاعارة، واوركسترا الشباب وفرقة الرقص الفنية التي حظيت ذات مرة بشهرة عالمية. وفي مجال الرياضة أسس مركز ابداع نوادي لكرة القدم وكرة السلة والكرة الطائرة (للبنات)، التي فازت على مر السنين بكل الألقاب في الدوري الفلسطيني، أيضا يقدم المركز دورات رياضية للفتيات والسيدات. في مجال الصحة العامة يعقد مركز ابداع محاضرات للتوعية لمختلف الفئات المستهدفة، وافتتح مركز للمتابعة والدعم لمرض السكري يساعد مئات المرضى وغير ذلك الكثير. إضافة الى ذلك يمتلك مركز ابداع نادي ثقافي ودار ضيافة (استقبلت الكثير من الزوار الأجانب في أوقات اقل سوءا). ويضم طاقم المركز العشرات من الموظفين والمتطوعين، جميعهم تقريبا من سكان مخيم الدهيشة.

الأغلبية المطلقة للخدمات تقدم بدون مقابل أو مقابل مساهمة رمزية. الرسوم الشهرية للحضانات ورياض الأطفال تقل عن 10 في المئة مما يدفعه الإباء في إسرائيل، الذين يتلقون اعانات حكومية كلاملة. حتى هذه العشرات من الشواقل أصبحت عبء ثقيل على الناس في هذه الأيام، كما اخبرني داود في آخر حديث لنا عن هذا الموضوع، قبل اعتقاله بفترة قصيرة. منذ بداية الحرب في غزة تضيق إسرائيل الخناق على الضفة الغربية، حيث يمنع العمال الذين عملوا في إسرائيل من دخول أراضيها، وتصادر أموال الضرائب من السلطة الفلسطينية، الامر الذي يجعل موظفيها يتقاضون بين نصف وثلث الراتب. أيضا تم تخفيض رواتب المتقاعدين بشكل اكبر، وتدمر القيود الصارمة على الحركة الشركات الصغيرة والكبيرة. ليس من الغريب اذا ان الناس لا يملكون ما يدفعونه.

عندما عرفت عن اعتقال داود السابق في كانون الثاني 2024 اعتقدت في البداية ان هناك خطأ. فما الداعي لان يقدم جهاز الشباك على اعتقال مدير مركز مجتمعي عمره 65 سنة، ولم يعتقل ولو لمرة واحدة منذ الانتفاضة الأولى؟ ولكن بعد بضعة أيام اصدر قائد المنطقة مذكرة اعتقال اداري بحق داود. عندها بدأت ادرك ان الامر قد لا يكون خطأ. الاعتقال الإداري يمكن من سجن شخص لفترة محددة، التي هي قابلة للتمديد المتكرر، بدون تقديمه للمحاكمة. وهذا اجراء استثنائي (مصدره في لوائح الطوارئ لحكومة الانتداب البريطاني)، ويفترض استخدامه باعتدال ولاغراض وقائية، أي لإحباط أي اعمال تشكل تهديد امني. كما يبدو، وفر النظام القضائي الإسرائيلي أيضا أدوات تتيح الحماية من استخدامه التعسفي: اذ يجب ان يصدق قاضي عسكري على امر الاعتقال، ويمكن الاستئناف عليه امام المحكمة العسكرية، واذا لزم الامر يمكن تقديم التماس للمحكمة العليا.

لكن عمليا، كل هذه القيود والتحفظات يتم الدوس عليها بوحشية من قبل نظام الاحتلال ومعاونيه. تلجأ الحكومة الإسرائيلية بشكل متكرر الى الاعتقال الإداري، على الاغلب على نطاق واسع. فمنذ 1967 تم اعتقال عشرات الآلاف من سكان المناطق المحتلة، كثير منهم اكثر من مرة. في بداية كانون الأول 2025 بلغ عدد المعتقلين الإداريين في مصلحة السجون الإسرائيلية 3350 معتقل، أي ثلاثة اضعاف عدد السجناء الأمنيين الذين تمت محاكمتهم (1254 معتقل)، الامر الذي يشير الى ان الاعتقال الإداري اصبح الخيار المفضل لدى النظام (معطيات منظمة حماية الفرد). لذلك فان الاستخدام واسع النطاق لهذا الاجراء غير وقائي، بل هو عقابي وقمعي بوضوح. فهو يلحق ضرر بالغ بآلاف الأشخاص الذين لم يشاركوا في أي عمل عنيف أو خطير. ويجعل حياة عشرات الآلاف من عائلاتهم بائسة، ويبث الرعب والخوف في مجتمعاتهم – وهو على الأرجح هدفه.

على الرغم من وجود قنوات رسمية يفترض انها توفر الحماية من الاعتقال الإداري الا انه في الواقع من المستحيل تحقيق ذلك. وتعتبر قضية داود الذي يتمتع بأفضل تمثيل قانوني خير دليل على ذلك. فحسب الأدلة الواردة في ملفه ينسب اليه الشباك نشاط في الجبهة الشعبية أو في خدماتها، وهو ما يرتبط عمله في المركز الاجتماعي كما تقول محاميته التي تنفي كل الاتهامات الموجهة اليه. والأدلة المزعومة لهذا الاتهام توجد فيما يعرف بـ “المواد السرية” التي لا يسمح للمحامين بالاطلاع عليها.

ان سرية الأدلة والمصادر في قضايا الجرائم الأمنية تحول الإجراءات القانونية في هذه القضايا الى مهزلة، لكن التشويه القانوني يكون اشد وطأة في حالة الاعتقال الإداري. لان سبب الاعتقال ليس جريمة محددة بل نشاط يفترض انه يضر بامن المنطقة، ومع ذلك لا يطلب من الشباك اثبات ان النشاط الذي ينسبه لشخص معين قد تسبب بالفعل بهذا الضرر. ببساطة يعفيه النظام القانوني من عبء الاثبات.

ان خضوع النظام القانوني في إسرائيل لنظام الاحتلال بشكل عام، ولجهاز الشباك بشكل خاص، يعتبر من أوضح مظاهر نفوذ الاحتلال المفسد، اذا لم يكن الاوضح على الاطلاق. انه خيانة مستمرة لالاف القضاة والمحامين (في النيابة العامة) لقواعد السلوك المهنية التي من المفروض ان تلزمهم، الامر الذي يعطي الشباك سيطرة مطلقة على حياة سكان المناطق المحتلة. في المقابل، النظام يكافيء هؤلاء المسؤولين بمناصب رفيعة ورواتب كبيرة وتكريمات. يدفع ملايين سكان المناطق المحتلة ثمن هذه الخيانة المنهجية منذ 58 سنة، وفي العام الـ 59 للاحتلال قد يدفع داود حياته ثمنا لها.

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى