ترجمات عبرية

هآرتس: بتعاون استثنائي، انكشف ماضي قرية فلسطينية هجرها أهلها ودمرت

هآرتس 19/12/2025، اريئيل دافيدبتعاون استثنائي، انكشف ماضي قرية فلسطينية هجرها أهلها ودمرت

جمال عيد ما زال يتذكر وبمحبة كيف كان في صباه عندما اخذه والده في الثمانينيات لزيارة قرية الآباء الحديثة، التي اضطرت عائلته الى تركها في حرب الاستقلال في 1948. عيد الان هو موظف في بنك، ابن 64 سنة، ويعيش في البيرة في الضفة الغربية. هو يتذكر كيف ان والده اراه انقاض بيت العائلة وحقول الزيتون التي ما زالت قائمة، وما كان ذات يوم يمثل معقل القرويين الفلسطينيين، الذي يقع بين تل ابيب والقدس.

زيارات تراثية كهذه الزيارات ليست امر نادر في أوساط الفلسطينيين الذين يمكنهم الوصول الى التجمعات التي تم اقتلاع عائلاتهم منها في أيام النكبة. ولكن في الفترة الأخيرة كانت انقاض الحديثة في مركز نشاطات مجموعة أخرى مختلفة كليا: طاقم علماء الاثار والمؤرخين في جامعة تل ابيب، الذين يحققون في هذا الموقع من اجل استعادة تاريخ القرية.

هذا المشروع يعتبر مبادرة نادرة في دولة ما زال التيار السائد فيها يجد صعوبة في الاعتراف بدور إسرائيل في معاناة وتشريد اكثر من 700 ألف لاجيء فلسطيني في 1948. وبصورة متميزة اكثر، قام الباحثون بالتعاون مع لاجئي الحديثة الناجين واحفادهم، بما في ذلك عيد، بالحصول على اذن منهم للتنقيب والكشف عن بيوت اجدادهم، ومن اجل جمع شهادات شفوية عن الحياة في القرية وعن نهايتها المفاجئة.

بدأوا بالتفجير (تقريبا)

مثل الكثير من مئات القرى، التي هجرت في 1948، بنيت الحديثة على تلة كانت تتشكل من طبقات من الاستيطان البشري الذي تراكم خلال آلاف السنين. تلة الحديد، كما تعرف باللغة العبرية، هي موقع اثري مهم في إسرائيل. ولكنها بقيت حتى فترة قريبة غير مكتشفة بدرجة كبيرة. في العام 2018 قرر علماء الاثار في جامعة تل ابيب وفي كلية نيو اورليانز اللاهوتية المعمدانية تغيير هذا الواقع. ومنذ ذلك الحين حققوا اكتشافات مدهشة حول ماضي هذا الموقع البعيد. من بين هذه الاكتشافات كشف الباحثون عن حصن ضخم يعود الى بداية العصر الهليني إضافة الى رسائل عمرها 2700 سنة، تشير الى وجود مجتمع مختلط من بني إسرائيل ومهاجرين آخرين جاءوا في اعقاب اعمال الطرد التي نفذها المحتلون الآشوريون في القرن السابع قبل الميلاد.

لكن الدافع للتحقيق في التاريخ الأقرب لهذا الموقع، هو اكتشاف متواضع جدا: قنبلة يدوية لم تنفجر، التي تم العثور عليها في موقع حراسة يرجح أنه بني في القرية الفلسطينية اثناء الحرب في 1948. هكذا شرح البروفيسور عيدو كوخ، عالم الاثار التي يترأس البحث. كوخ قال انه في اعقاب الاكتشاف تواصل مع صديقه البروفيسور يوآف الون، الباحث في تاريخ الشرق الأوسط في تل ابيب، وسأله اذا كان يرغب في القيام بشيء آخر.

هكذا فانه في العام 2022 ولد مشروع قرية الحديثة. هذا المشروع الذي هو بتمويل الصندوق الإسرائيلي للعلوم، يقترح منهج جديد للتحقيق في القرى الفلسطينية المهجرة من خلال الجمع بين علم الاثار والبحث التاريخي وجمع الشهادات الشفوية. وقد قال الون لصحيفة “هآرتس”: “إسرائيل دائما عملت على طمس هذه القرى من الذاكرة العامة، ليس فقط من خلال المحو الفعلي، بل أيضا، على سبيل المثال، من خلال غرس الأشجار فوق الأنقاض، مثلما حدث في قرية الحديثة. نحن نخالف التيار السائد ونسعى الى تسليط الضوء على هذه القصة. يوجد لنا دور في توثيق الرواية، التي هي جزء لا يتجزأ من تاريخ الموقع وتاريخ كل الدولة”.

نكشف عن الأرض والشهادات

حتى الان تقريبا لم يقم علماء الاثار الإسرائيليون في التحقيق في بقايا من تلك السنوات. وذلك لعدة أسباب، من بينها ان استخدام الأدوات الاثرية للتحقيق في الماضي القريب هو تطور جديد نسبيا في هذا المجال. إضافة الى ذلك منذ اقامتها انصب اهتمام إسرائيل على علم الاثار وكثيرا استخدم هذا المجال لأغراض سياسية، لا سيما لتاكيد ارتباط الشعب اليهودي بالأرض وتبرير قيام الدولة الحديثة. لذلك فانه ليس من الغريب ان يفضل علماء الاثار بشكل تقليدي البحث عن آثار من عصر التوراة وتجاهل االتراث التهجير الفلسطيني، الذي ما زال قضية حساسة جدا وقادرة على احداث انقسام سياسي في الدولة. في نفس الوقت ما زال مؤرخون لهم آراء مختلفة متباينين حول ما اذا كانت دولة إسرائيل الفتية قد وضعت خطة متعمدة لتهجير الفلسطينيين بشكل قسري، أو اذا كانوا في معظمهم قد هربوا اثناء القتال أو استجابوا لدعوة قيادتهم مغادرة بيوتهم.

على الرغم من ان القانون الإسرائيلي ينص على ان القطع الاثرية التي صنعت بعد العام 1700 ليست من الاثار القديمة، الا ان علماء الاثار في إسرائيل يظهرون اهتمام متزايد بالتنقيب العلمي عن الماضي القريب، كما يتبين من الحفريات الأخيرة التي قامت بها سلطة الاثار الإسرائيلية في يافا وفي القدس وفي أماكن أخرى، حيث تمت دراسة الطبقات الحديثة أيضا، حسب اقوال كوخ.

مع ذلك فان التنقيب في قرية الحديثة هو المشروع الاثري الثاني في إسرائيل الذي يركز على قرية فلسطينية تم تهجير سكانها. المشروع الأول نفذه أيضا طاقم في جامعة تل ابيب، الذي ركز على قرية قادش في الجليل الأعلى، التي هرب سكانها الى لبنان في 1948. كوخ قال: “احد الأمور التي اقولها لطلابي هو ان هذا ما زال ماض. هذا ماض قريب. ويمكننا ان نتعلم أشياء عن أناس عاشوا قبل سبعين أو ثمانين سنة، تماما كما نستطيع ان نتعلم عن الذين عاشوا هناك قبل 2800 سنة”.

حتى الان لم يقم الطاقم الا بحفريات محدودة في 2023. وفي الصيف الماضي في مناطق مفتوحة في الحديثة مثل الساحات والطرق. ويعود هذا جزئيا الى نقص المتطوعين خلال حرب غزة، لان علماء الاثار لم يرغبوا في الكشف عن بيوت الفلسطينيين المدمرة بدون اذن منهم، الذي تم الحصول عليه في هذه الاثناء. حسب اقوال كوخ فان احد اهداف الحفريات هو الوصول الى طبقات اكثر قدما في الحديثة في محاولة للإجابة على سؤال ما اذا كانت القرية قد تاسست فقط في القرن التاسع عشر أو كما تشير السجلات في محاكم القدس بانها كانت ماهولة بالفعل في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر.

في غضون ذلك عثر علماء الاثار في الطبقة التي تقع تحت القرية التي تم تهجيرها في 1948 على قطع اثرية تعود للعصر الحديدي. وقد قالوا انها يمكن ان تكون مرتبطة بالغزو الآشوري لمملكة إسرائيل. كوخ قال: “نحن سنعود الى هناك لدراسة العصر الحديدي في المستقبل، لكن أصول قرية الحديثة ستكشف في وقت لاحق”. إضافة الى ذلك كشفت العينات الأولية عن أدوات كان يستخدمها السكان في الحياة اليومية، لا سيما الخزف الذي يعود للقرن التاسع عشر والمستورد من أوروبا: كؤوس خزفية وغلايين واواني طهي من قبرص.

نظرا لان هذه القطع لا تعتبر آثار بحسب القانون الإسرائيلي – الذي لولا ذلك لقام بتصنيفها كملكية للدولة – فقد صرح علماء الاثار بانهم سيعيدون أي قطعة يتم اكتشافها الى جمعية اللاجئين الفلسطينيين للحديثة فور انتهاء ابحاثهم. مع ذلك، يبدو ان الإنجاز الأبرز للمشروع حتى الان هو إرساء شراكة متينة بين الباحثين وبين لاجئي قرية الحديثة، الذين ينتشرون بشكل رئيسي في منطقة البيرة قرب رام الله وفي عمان في الأردن.

المسؤول الرئيسي عن خلق هذه العلاقة هو رامي أبو حامد، وهو طالب دكتورة في جامعة بار ايلان ومتخصص في دراسة اللغة والادب العربي المعاصر، لا سيما الفلسطيني والأردني. أبو حامد اجرى مقابلات مع عشرات اللاجئين واحفادهم، بينهم 13 من سكان القرية القدامى. أبو حامد يقول، وهو من سكان الجليل ويصف نفسه بانه عربي إسرائيلي: “في البداية كان هناك خوف وتردد، بل ان البعض شككوا في نوايانا. ولكن نحن بنينا علاقة معهم بالتدريج من خلال الشفافية التامة. أنا جلست مع قادة جمعية اللاجئين واطلعتهم على البحث وجاوبت على استفساراتهم”.

بالتدريج تحولت الشكوك الى اهتمام وتاثر بالمشروع، الذي يعد بتوفير التوثيق للحياة التي انقطعت بموجة التهجير في 1948. “انا ارحب بكل خطوة يمكن ان تدفع قدما بالعثور على بقايا أو أشياء تربطني من جديد بجدي وجدتي وآبائي”، قال جلال العطشان، وهو مصور (64 سنة) ونائب رئيس جمعية لاجئي الحديثة في البيرة.

حسب أبو حامد فان المقابلات اتاحت إعادة بناء التاريخ الاجتماعي والاقتصادي للقرية، بما في ذلك العلاقات بين العائلات التي عاشت في الحديثة وصلتها باقرب تجمع يهودي قبل إقامة الدولة، وهي قرية الشباب في بن شيمن. ويشير أبو حامد الى ان الصورة العامة تظهر علاقات داخلية هادئة، ولم تكن هناك اتصالات عميقة وواسعة مع اليهود، ولم يكن هناك صراع مفتوح أيضا.

إضافة الى ذلك تركز الشهادات أيضا على أيام الهرب من قرية الحديثة، الذي كان في تموز 1948، بعد سقوط مدينة اللد ومدينة الرملة في ايدي القوات الإسرائيلية وتهجير السكان في اطار “عملية داني”. العطشان قال: “كان اطلاق نار وانفجارات متفرقة، لكن الاخلاء (قرية الحديثة) كان في معظمه بسبب الخوف، اذ سمعوا وشاهدوا عمليات القتل والتهجير في القرى القريبة، لا سيما اللد والرملة”.

لقد لجأ تقريبا 900 شخص من سكان قرية الحديثة في البداية الى قرى عربية قريبة، على امل العودة الى بيوتهم بعد انتهاء الحرب. وفي الأسابيع التالية تمكن بعضهم من التسلل بين حين وآخر من اجل اخذ الطعام أو الأغراض الثمينة، لكن هذه الزيارات توقفت بسرعة، اذ ادرك السكان بان القرية سقطت كلها في ايدي الإسرائيليين. وتفرقوا بالتدريج في عدد من القرى، بعضها اكثر ودا وكرم ضيافة من غيرها، حيث وجدوا فيها ملجأ مؤقت. وانتقل آخرون الى رام الله وضواحيها واستقروا هناك. وقد استقرت بعض العائلات في عمان عاصمة الأردن الذي ضم اليه الضفة الغربية في العام 1950 ومنح الجنسية الأردنية للفلسطينيين الخاضعين لسيطرته. أما المجتمع الذي كان متماسك في السابق فقد تشتتت الان. ووفقا لالون فان الشهادات الشفوية تستحضر مشاعر المعاناة، وربما أيضا الخجل، الى جانب الفقدان والحنين للقرية.

كوخ أضاف بانه في اطار المشروع نفذ الباحثون عملية ترقيم للصور الجوية القديمة للمنطقة قبل الحرب وبعدها على الفور، من اجل إعادة انتاج خارطة لقرية الحديثة وتشخيص وظيفة وملكية كل مبنى.

نزهة على القبور

حسب اقوال كوخ فانه كثيرا ما يطالبه الإسرائيليون في مرات كثيرة تفسير لماذا بادر الى اطلاق مثل هذا المشروع، خاصة المسؤولون في الصندوق القومي الإسرائيلي (الكيرن كييمت) المالك الحالي لاراضي قرية الحديثة. وقد أوضح وقال: “الناس يعتقدون ان هناك اجندة سياسية، لكن الحقيقة هي ان هذا هو جزء من تاريخ الموقع. نحن لسنا بصدد اثبات أي شيء، لانه لا يوجد ما يثبت. كانت هناك قرية ثم اختفت. آثارها ما زالت باقية. واذا تجاهلت هذه الاثار فانا سافشل في دوري كباحث”.

حسب اقوال عيد، موظف البنك من البيرة، فان احفاد لاجئي قرية الحديثة يظهرون حماسة متزايدة في ضوء النتائج الأولية للمشروع. وقد قال في محادثة هاتفية مع صحيفة “هآرتس”، ترجمها أبو حمد من اللغة العربية: “الشباب، لا سيما الجيل الثالث، لديهم مشاغلهم الخاصة وقد بدأوا ينسون قرية الحديثة. هذا المشروع أعاد احياء اهتمام الجيل الشاب بالقرية واحياء رغبتهم في التعرف على تاريخها وعاداتها وكل ما يتعلق بها”.

الطرفان يقولان بان هجمات حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023 والحرب بعدها في غزة لم تتسبب بالضرر لمنظومة العلاقات بين الطرفين. المثير للدهشة هو ان تداعيات الحرب أفادت علماء الاثار قليلا: حسب كوخ فانه في تشرين الأول 2024، خلال هجوم صاروخي إيراني على إسرائيل، سقطت شظية من صاروخ اعتراض على التلة واشعلت حريق، الامر الذي أدى الى إزالة أشجار الصبر والنباتات الكثيفة التي كانت تخفي جزء من القرية، الذي تم الحفاظ عليه بصورة جيدة نسبيا.

أبو حامد أضاف بان مبادرات مثل مشروع الحديثة تساهم في بناء الثقة وتضعف الصورة النمطية التي كونها الفلسطينيون عن الإسرائيليين. “هم يرون ان هناك إسرائيليين قادرين على التحدث معهم وجها لوجه، ويدركون الألم الذي عانوا منه والخسارة التي سببتها الحرب. هذا يهدئهم، وربما يتيح للطرفين التقارب قليلا وتخفيف التوترات، على الأقل على المستوى الشخصي”، قال.

مع ذلك، جراح النكبة لم تندمل بعد، وهي تفتح بسهولة. وتذكر العطشان زيارته الأخيرة في الحديثة مع الباحثين الإسرائيليين ومدح عمل الطاقم، لكنه اعرب عن اسفه لحالة القرية وقال: “لقد تالمت من رؤية في المقبرة العليا موقع للتنزه حيث كان الناس يدوسون على قبور اجدادنا. لقد حزنت من تدمير القرية بشكل كامل وتسويتها بالأرض تقريبا ولم يبقوا أي بيت أو أي شيء يربطنا باجدادنا”.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاثFacebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى