هآرتس: المباني التي تنهار في غزة لا تنهار فقط على الفلسطينيين، بل علينا ايضا

هآرتس 8/9/2025، يولي تمير: المباني التي تنهار في غزة لا تنهار فقط على الفلسطينيين، بل علينا ايضا

ابراج عالية في مدينة غزة تنهار وتخلف وراءها الغبار. هناك ما يسلي في مبنى يسقط. الانهيار الجزئي، بعد ذلك الانهيار السريع، في النهاية اختفاء المبنى في سحابة غبار تملأ الهواء، الخيام حوله تمتليء بهواء سام، وهذه طريقة اخرى قاتلة لتعرض حياة من يعيشون فيها للخطر، ودفعهم بقدر الامكان الى نهاية الوجود الانساني – ضحايا عرضيون، يطلقون على ذلك. ولكن لا يوجد أي شيء عرضي في الوحشية والدقة التي يتم القيام بها ضدهم. اذا كان هناك مخطوفون في المحيط ايضا هم لن يهربوا من ضجة الانهيار والغبار والاختناق.
المباني تنهار لان دولة اسرائيل قد قررت، خلافا لكل منطق عسكري أو انساني، ان وقت هذه المباني العالية قد حان. رغم معارضة المستوى العسكري والادراك بان اسرائيل تحارب الآن نفسها، وتقرر ليس فقط مصير المخطوفين، بل ايضا مصيرها هي نفسها، وتحسمه نحو تدهور فعلي واخلاقي خطير. من يخطط الآن لانهيار البرج القادم. سنقابله بعد سنة أو سنتين كشخص اصيب بصدمة المعركة وسنحضه بقوة لانه لم يبق أي شيء آخر لنفعله.
الآن، حيث تنهار المباني العالية، يجب علينا الخروج الى الشوارع ودعوة الجيش للسير خلف المنطق السياسي والعسكري لرئيس الاركان وضباطه، ووقف الحرب حتى لو أمرته الحكومة بالعمل بشكل مختلف. هذه خطوة متطرفة، لكن رئيس الاركان لا يمكنه ان يقود الجنود الى شرك الموت، أو في افضل الحالات الى العذاب النفسي في المستقبل.
لا توجد ولن توجد لحظة اخرى. الان لن يكون بالامكان التوارع والقول باننا لا نعرف بأنه منذ فترة طويلة بلغ السيل الزبى. نحن نعرف اننا نحكم على الفلسطينيين بالمعاناة الزائدة، التي تولد الكراهية، ونحكم على اولادنا بتبلد مشاعر اخلاقي وضرر عاطفي دائم. الجنود في غزة ليسوا مثلما ذهبوا. نحن سنحمل لسنوات قادمة اعاقتهم النفسية مع آباءهم وازواجهم واولادهم. من يصمت الان فهو يتجاهل الدرس الصعب الذي تم تعلمه في كل حروب العالم: الجنود، القتلى، من يقصفون ويدمرون البيوت، الذين يربت المجتمع على اكتافهم ويقول لهم: “هذا عمل جيد”، سيقابلون اعمالهم ذات ليلة في لحظة ازمة.
نحن، من نجلس في البيوت، نعتقد ان الضرر تجاوزنا. نحن ايضا ستتم ملاحقتنا، في الاحلام وفي الوقائع، في دولة اسرائيل وفي كل العالم. ليت الجنود يقومون بهذه المهمة باسمنا.
هل يمكن وقف هذا الانجرار التفكيري والحربي والتفكير بطريقة مختلفة؟ في 1 آب 1940، في ذروة عملية الفتك، كتبت فرجينيا وولف من لندن المشتعلة تحت القصف الشديد: “افكار عن السلام في زمن القصف من الجو”. نص قصير وعميق، تناولت فيه معنى الحرب ودور الوعي – خاصة وعي النساء – في حالات الطواريء. وولف كانت على قناعة بان تفكير النساء يستطيع الاشفاء. هي لم تلتقي مع الوزيرة اوريت ستروك أو مع دانييلا فايس أو ليمور سون هار ميلخ. ربما لو أنها التقت معهن لكانت متفائلة أقل.
في شيء واحد وولف محقة: الحرب تبدأ بالوعي. المعارك تجري ليس فقط في ميدان الحرب أو في السماء المليئة بالقصف، بل هي تبدأ ايضا في فكر أي شخص. من اجل حدوث الحروب فان الناس يجبرون على استيعاب قيمة القوة، الهرمية والتفوق القومي (وولف اعتقدت ان هذه فكرة ذكورية). لذلك، اذا اردتم وقف الحرب فيجب تغيير طريقة التفكير والتصور الداخلي.
وولف تدعو الى رؤية النضال المناهض للحروب كعمل دائم لتغيير الافكار وخلق ثقافة تدفع قدما بالحوار وليس السيطرة، والتضحية بالنفس والاخلاص في تربية الاولاد على عدم الكراهية أو عبادة السلاح.
من الصعب الاحتفاظ بافكار سلمية في الوقت الذي فيه طائرات تقوم بالقصف؛ الحرب تفرض الخوف بشكل تلقائي والاخلاص الاعمى. “في أي لحظة ربما ستسقط قنبلة على هذه الغرفة حقا”، كتبت وولف. “في ثانية التوتر هذه كل الافكار تتوقف، كل المشاعر باستثناء الرعب… في اللحظة التي ينتهي فيها الرعب فان العقل ينطلق ويستعيد نفسه بشكل تلقائي أو غريزي… اصوات الاصدقاء تعود… اذا اردنا تعويض الشاب عن فقدان الهالة فيجب اعطاءه فرصة للتعبير عن مشاعره الابداعية… يجب علينا تحريره من الآلة، واخراجه من السجن الى الهواء الطلق”.
كم نحتاج من الشجاعة كي نقول الحقيقة اثناء الحرب، خاصة عندما تكون تتعرض للهجوم. في الوقت الحالي، في اسرائيل وفي غزة ايضا، الكفر بنظرية الحرب الخالدة يجب اسماعه. المباني التي تنهار في غزة لا تنهار فقط على الفلسطينيين، بل علينا ايضا. واذا لم نقم بتغيير الوعي، من عقلية الانتقام والكراهية الى عقلية الحياة والامل، فلن نستطيع الخروج من السجن الحربي الى الهواء الطلق والعودة الى الحياة.
مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook