ترجمات عبرية

هآرتس: الدولة قربان على مذبح ارض اسرائيل

هآرتس 7/11/2025، دافيد اوحنا: الدولة قربان على مذبح ارض اسرائيل

 في 4 تشرين الثاني 1995، اليوم الذي قتل فيه اسحق رابين قبل ثلاثين سنة، ارادت ارض إسرائيل ان تحل محل دولة إسرائيل. يبدو ان اسطورة دينية – قومية متطرفة قدمت كقربان الشخص الوسيم الذي جسد بشكل واضح روح إسرائيل التي ميزت السنوات الـ 19 العجاف بين حرب التحرير وحرب الأيام الستة. ويشرح صحيح ادرا رابا ان جدنا إسحاق قد تم تقييده بالفعل، وتم تقديمه كقربان، حيث ان اسمه لم يتم ذكره أبدا في الفصل بعد محاولة التقييد.

اثناء المحادثة التي اجريتها قبل ثلاثين سنة مع رحيل رابين، شقيقة اسحق رابين (التي تحتفل الآن بعامها المئة) التي تعيش في كيبوتس منارة، دخل الغرفة حفيدها غال. قبل بضعة اشهر من ذلك غال احتفل بسن البلوغ وحتى أنه قرأ الجزء الأسبوعي في التوراة، الذي حفظه عن ظهر قلب مع معلمه من كفار بلوم. على سؤالي أجاب بان موضوع الجزء الأسبوعي كان عقد اسحق. وعند سماع أقواله رحيل احضرت من غرفة العمل النهائي لعقد اسحق، الذي كتبه ابنها يفتاح وهو في الصف 12 قبل 28 سنة.

في مقدمة عمله كتب يفتاح بأنه جذبته واقعية الموضوع. “في كل مرة يكون فيها على الأب التضحية بابنه، الشخص يجب عليه التضحية بنفسه من اجل عقيدته، حياته أو تحقيق العدالة التي هي فوق كل شك”. قبل قتل رابين باسبوع دشن معرض “اسحق” الفنان الدانماركي بيتر برندايس في متحف تل ابيب، الذي وصل الى هناك من لقاء مع الملك حسين في عمان، وتشرف بالقاء كلمة. بدون رحمة وبشيء من السخرية قال انه هو نفسه، خلافا لاسحق التوراتي، لم تكن لديه أي نية لتقديم نفسه كقربان. وبعد ستة أيام قتل.

قبل ثلاثين سنة، امام انظارنا وبصورة متعمدة، هيأ الإسرائيليون حياة اسحق رابين، مستغلين مواد حياته من اجل الامل بالسلام. اسحق، الذي هو ابن “روزا الحمراء”، التي سميت هكذا بسبب تطرفها الاشتراكي، المعادي للدين، وابن نحاميا، المقاتل في الكتيبة العبرية والذي دافع عن الحي اليهودي في البلدة القديمة في القدس بجسده، والذي عاش والديه في حيفا، لكن اسحق الشاب الذي ولد في البلاد والاسطوري ولد في القدس. مع ان الامر يتعلق بحقيقة سيرته الذاتية فانه يصعب تجاهل مقارنتها بضحية مشهورة أخرى، المصلوب، الذي نقل مسقط رأسه كما يليق بالمسيح بفضل الذاكرة المسيحية المجددة من الناصرة (حيث عاشت عائلته ومن المرجح انه ولد فيها) الى بيت لحم، حيث كان من المفترض أن يولد المسيح.

في بناء سيرة ذاتية اسطورية هناك محاولة للارتقاء من الجسد والدم الى المواد الأسطورية من اجل منح القربان معنى تجنيدي. رابين تربى في بوتقة الصهر الصلبة لابناء الجيل الثاني من حركة العمل، في مدرسة باسم تشيرني خوفسكي في تل ابيب، على يد المربي المعروف اليعيزر شموئيلي، وفي المدرسة الزراعية خضوري عند المدير الأسطوري شلومو تسيمح، الذي كان قائد في البلماخ وحارب في القدس، والكثير من طلابه كانوا طبق الفضة لدولة اليهود.

في احتلال القدس القائد الاسطوري في حرب الأيام الستة استكمل كوديعة للأجيال ما نقص استكماله في حرب الاستقلال. الزعيم الذي اعاده التاريخ للمرة الثانية لرئاسة الحكومة، تم اعداده لتجسيد دوره التاريخي في صنع السلام. ديغول الإسرائيلي، الذي أمر بتكسير عظام الفلسطينيين في الانتفاضة الأولى، يتصالح معهم بمصافحة تاريخية، هو محرر المناطق ومعيدها. وفي النهاية المأساوية – يجسد الإسرائيلية العلمانية سقط ضحية في مسيرة ضد العنف، برصاص قاتل يرتدي القبعة المنسوجة، على انغام “اغنية للسلام” في أسبوع كان فيه فصل التوراة الأسبوعي هو فصل فيرئيه، الذي تدور احداثه حول ربط إسحاق، كما ربطت إسرائيل دولة إسرائيل.

أوسلو كان نقطة تقاطع تاريخية، وأيضا نقطة تقاطع أظهرت في حينه، والان ايضا، للاسرائيليين والفلسطينيين الخيارات المتاحة لهم للمستقبل. من جهة، هل ستوافق م.ت.ف، في الأراضي التي تخضع حاليا لسيطرتها الأمنية والمدنية في الضفة الغربية، على مسار حماس الشمولي الذي يحبط أي حل مستقبلي؟ هل ستستمر في التلعثم في ادانة الفظائع التي ارتكبت على يد أبناء شعبها في 7 أكتوبر؟. من جهة أخرى، هل سيواصل الإسرائيليون صم الاذان والقلوب إزاء المظالم التي ارتكبها المستوطنون المشاغبون باسمهم؟. منذ اللحظة التي اندلعت فيها الحرب في غزة وزعت وزارة الاستيطان عليهم طائرات بدون طيار وسيارات رباعية في الضفة الغربية، وفي غضون ثلاثة اشهر تم طرد اكثر من 80 تجمع رعاة من هناك، واضيفت 120 بؤرة استيطانية، بموافقة ضمنية من الجيش الإسرائيلي والشرطة (هاجر شيزاف، “هآرتس”، 25/10). هنا تتبلور رؤية مناهضة لاوسلو بشكل بطيء.

هذه الوقائع تدفن كما يبدو حلم أوسلو، الذي سيكون الى الابد مرتبط بذكرى اسم رابين. ولكن خلافا لكثيرين، انا أقول ان اتفاق أوسلو لم يفشل في نقطة انطلاقه. عمليا، هو كان انعطافة تاريخية مهمة، تاسيس اعتراف تاريخي غير مسبوق من قبل الإسرائيليين بوجود الشعب الفلسطيني. طريق طويلة سرنا فيها منذ مقولة غولدا مئير بانه “لا يوجد شعب فلسطيني” وحتى المصافحة التاريخية بين رابين وزعيم م.ت.ف، ياسر عرفات، على العشب في البيت الأبيض. كثيرون نسوا انه قبل فترة قصيرة من التوقيع على الاتفاق حكم على ايبي نتان بالسجن ستة اشهر بسبب التقائه مع أعضاء في م.ت.ف خلافا للقانون. والان، مرة واحدة (في الواقع بعد محادثات مطولة بين يوسي بيلين وأبو علاء) في أوسلو تم شق الطريق للاعتراف المتبادل بين دولة إسرائيل وم.ت.ف.

جميع النزاعات والصراعات والتفسيرات والنقاشات، لا يمكن ان تقلل من أهمية القفزة الكبيرة التي قامت بها إسرائيل بقيادة رابين (بمبادرة من شمعون بيرس): اعتراف رسمي بوجود الشعب الفلسطيني، الذي تم غرسه في وعي الإسرائيليين، وهو انجاز ثوري لا يمكن محوه. هناك من باركوا ذلك وهناك من عارضوا. ولكن منذ ذلك الحين لا احد يمكنه التنكر لمجرد وجود الواقع التاريخي الذي يسمى الشعب الفلسطيني، كما فعل رؤساء حكومات إسرائيل السابقين. يجب عدم الاستخفاف بالانجاز التاريخي لمناحيم بيغن، التوصل الى اتفاق سلام مع اكبر أعداء إسرائيل (مصر)، لكن ذلك كان اتفاق سلام بين دولتين سياديتين، كيانين قائمين. انجاز أوسلو هو في تحويل غير القائم الى قائم، العدم الى وجود، المنفي الى موجود. عمليا، هذا العمل الثوري مطلوب له جرأة وقوة، وعي تاريخي وقوة حسم، التي تجتمع في الوقت المناسب وتحول الشخص الذي يتولى منصب رسمي الى زعيم تاريخي. أي ذاكرة نحمل من صورة اسحق رابين؟ ما هو المرتبط اكثر في الذاكرة باسمه – القتل الأول لرئيس حكومة في إسرائيل أو اتفاق أوسلو بسبب الانطلاقة التاريخية المقرونة به؟.

يوجد لنا “ذاكرة ترميمية” تتغير باختلاف وظائفها، وتغير نظرتنا للماضي التاريخي. في هذه العملية نحن نعيد بناء حقائق الماضي بهدف ملاءمتها مع اهداف الحاضر. في عملية إعادة البناء الانتقائية للاحداث التاريخية أو ابطال الماضي تستخدم ممارسات التأكيد أو المحو، التكثيف أو الاختزال. هاكم ما قاله رابين في 1994 في مقابلة مسجلة اجراها معه عاموس غيتاي، وتنشر هنا لأول مرة. في نهاية المقابلة تحدث رابين عن مشاركته في حصار جيب الفالوجة في 1948، الذي كان من بين المحاصرين فيه الرائد جمال عبد الناصر. لقد قال: “نحن اقترحنا على المحاصرين أن ياتوا لتناول الغداء معنا في كيبوتس غات، مع وعد بعودتهم سالمين. ناصر جلس بجانبي ونظر الى شعار البلماخ وسألني عن معناه. انا شرحت له. ثم قال: “هذه الحرب التي نخوضها معكم هي حرب خاطئة، ضد العدو الخطأ وفي الوقت الخطأ”. المثير للاهتمام ان رابين فهم من هذه الكلمات، كما شهد في تلك المقابلة، ان الطريق الى السلام ستكون أطول مما توقع، وأيضا ان “السلام” لا يتم فرضه”.

الدوافع او الاحتياجات تؤثر على طريقة بناء كل اسطورة وعلى دورها في المجتمع، السياسة والذاكرة التاريخية. لو ان رابين قتل في وقت قريب بعد حرب الأيام الستة برصاصة جندي اردني مثلا، عند المدخل المشهور في البلدة القديمة مع موشيه ديان وعوزي نركيس، لكانت صورته ستكون مقدسة في نظر اليمين أيضا، ولكانت الأسطورة اتخذت معنى مختلفا، بل ومعاكسا، للمعنى الذي شكل من قبل شباب الشموع في ميدان ملوك إسرائيل.

في هذا الميدان في مركز تل ابيب السعيدة، اندلعت الأسطورة المعاكسة – الدمج بين الأسطورة االقومية المتطرقة – ارض إسرائيل الكاملة – وبين الثيوقراطية اليهودية المأنسنة على صورة القاتل يغئال عمير، الامر الذي اخترق حسب فهمه، جوهر التمييز العلماني واليساري. في هذا الموقع العلماني تم اغتيال رابين في 1994، كمتماهي مع اتفاقات أوسلو، ولم يقتل في 1967 كمحرر للمناطق، أو في 1948 كقائد بطولي في حرب تحرير وطنية.

ارض إسرائيل تحتل شيئا فشيئا دولة إسرائيل، دونم وراء دونم وعنزة بعد أخرى، ولا نعرف انها تقترب أكثر. ما الذي يجب علينا فعله إزاء هذا التوجه؟ اذا كنا نريد الحياة فيجب علينا الاستعداد وتفكيك ورقة وراء أخرى وان نكشف هذا المبنى اللاهوتي – السياسي المتهالك لارض إسرائيل من البحر الى النهر، وأن نقوض الفكرة البغيضة المتمثلة في إعادة بناء الأسطورة التوراتية، وان نعيد – مثلما حاول رابين – العقلانية والاعتدال والإنسانية الى عقل وقلب الإسرائيليين.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى