ترجمات عبرية

هآرتس: إسرائيل انتقلت من معركة لمنع إقامة دولة فلسطينية الى حرب ابادة

هآرتس 11/7/2025، مايا روزنفيلدإسرائيل انتقلت من معركة لمنع إقامة دولة فلسطينية الى حرب ابادة

مايا روزنفيلد
مايا روزنفيلد

ليس هناك الكثير من جرائم الحرب اكثر حقارة من اطلاق النار من قبل جنود جيش محتل باتجاه تجمع لاشخاص محاصرين، خائفين، الذين يتدافعون في طابور لتوزيع الطعام. في إسرائيل، الذي ذكرى كارثة يهود أوروبا ما زالت تواصل تشكيل مخزون ارتباطات الكثير من مواطنيها، فان اطلاق النار المتعمد على جمهور متعب، يائس وعاجز، يتساوق تقريبا بشكل تلقائي مع اعمال النازيين. ولكن من يقومون بالقتل هم جنود الجيش الإسرائيلي، والجمهور الذي يتم قتله هو غزي، والذي مدنه دمرت وخيامه تم اشعالها، وكل ذنبه هو انه أراد احضار قطعة خبر لاولادهم. لذلك فان تقرير “هآرتس” لـ نير حسون وينيف كوفوفيتش وبار بيلغ في 27/7 الذي كشف ان شهادات الضباط وجنود الجيش الإسرائيلي عن التعليمات التي حصلوا عليها من قادتهم، اطلاق النار على الجمهور غير المسلح لابعادهم عن مراكز توزيع الطعام رغم انهم لم يهددوا حياة احد، توجد لها أهمية صحافية واخلاقية من الدرجة الأولى.

هكذا فان صرخة المطالبة بدماء 549 من سكان غزة الذين قتلوا والـ 4 آلاف الذي أصيبوا اثناء انتظارهم لتوزيع الغذاء في الشهر الماضي، منذ اليوم الذي تم فيه تفعيل “مراكز التوزيع” في 27 أيار وحتى تاريخ نشر التقرير في “هآرتس”، ارتفعت وتردد صداها في ارجاء العالم لبضعة أيام، لكنها فشلت في اختراق جدران الانكار الإسرائيلي. سكرتير الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خرج بتصريح خاص في 2 حزيران في اعقاب التقارير الأولى عن قتل غزيين وهم في طابور لتوزيع الغذاء وعبر عن صدمته العميقة من ان “فلسطينيين يعرضون حياتهم من اجل الطعام”. في 22 حزيران عندما عدد “شهداء قطعة الخبز”، مثلما يسمون في وسائل الاعلام الفلسطينية والعربية، وصل الى 400، اعلن رئيس مكتب التنسيق للشؤون الإنسانية في المناطق المحتلة، “أوتشا”، جونثان فيتل، انه “في الوقت الذي تشخص فيه انظار العالم الى مكان اخر (القصد هو الحرب بين إسرائيل وايران م.ر) فانه في غزة الناس يقتلون وهم يحاولون الحصول على الغذاء. جهودهم للبقاء تواجه بحكم الإعدام” (تصريحه لصحافيين في دير البلح في 22/6).

قنوات الاعلام الرئيسية في إسرائيل تجاهلت هذه التصريحات كما تجاهلت تصريحات سابقة لها وبعدها. فقط كشف شهادات الجنود والضباط في “هآرتس” نجح في اختراق الدرع الاصم واثار عاصفة جماهيرية في إسرائيل، وان كان ذلك حدث بسبب اعمال القتل، وبدرجة اكبر بسبب كشفها.

لكن بدون التقليل من أهمية كشف “هآرتس” فان شهداء قطعة الخبز، 640 شخص، حوالي 22 في المئة من بين 2900 فلسطيني قتلوا بنار الجيش الإسرائيلي في القطاع منذ بداية فتح مراكز التوزيع المحمية في 27 أيار وحتى 2 تموز؛ وان 10 في المئة من بين الـ 6454 قتيل، الذين تم احصاءهم هناك بين موعد استئناف القصف الإسرائيلي في غزة في 18 آذار و2 تموز (البيانات حسب تقرير “اوتشا” في 3/7). من اجل فهم تموضع شهداء قطعة الخبز في صورة القتل والدمار الشاملة مطلوب تسليط الضوء على مجمل مكونات المرحلة الحالية في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل في القطاع.

الانتقال الى المرحلة الحالية حدث في اعقاب قرار استراتيجي لإسرائيل، خرق اتفاق وقف اطلاق النار الذي وقعت عليه مع حماس في كانون الثاني 2025، والعمل على تدمير شامل لقطاع غزة. الخرق شمل ثلاث خطوات، أو لبنات أساسية، التي تستكمل بعضها البعض. الأولى هي عدم تنفيذ الانسحاب من محور فيلادلفيا الذي كان يجب تنفيذه في نهاية المرحلة الأولى في الصفقة. لو ان إسرائيل انسحبت من فيلادلفيا لكانت المساعدات للقطاع تم ادخالها من معبر الحدود مع مصر، الذي كان سينتقل الى سيطرة مصر. هذا لم يحدث. التداعيات الحاسمة لهذا الخرق كان يمكن تقديرها فقط باثر رجعي إزاء الخروقات التي جاءت في اعقابه.

المرحلة الثانية هي منع مطلق لادخال المساعدات الى القطاع بدءا من 2 آذار. من اجل فهم حجم الكارثة التي تسبب بها هذا الخرق للفلسطينيين، يجب التطرق في البداية الى ادخال مساعدات الطوارئ وتوزيعها في الـ 15.5 شهر التي سبقت وقف اطلاق النار وخلاله. من اليوم الأول للهجوم في غزة (7/10/2023) استخدمت إسرائيل وسائل كثيرة لمنع ادخال الغذاء والأدوية والمعدات الطبية والوقود الى القطاع، ومنع أو تشويش توزيعها. لقد قصفت مؤسسات ومنشات إنسانية (مستشفيات، عيادات، ملاجيء عامة، مخازن غذاء، منشات تحلية المياه وما شابه)، وقتلت وجرحت المئات من رجال الطواقم الطبية، ومنعت ادخال المساعدات الى مناطق كثيرة ووصول طواقم الاغاثة الى هذه المناطق.

لكن مجمل هذه الوسائل لم ينجح في احباط منظومة خدمات الطوارئ التي بنيت في القطاع طوال 23 سنة، بين تشرين الأول 2000 وتشرين الأول 2023، ردا على الازمة الإنسانية المتواصلة التي اوجدها الحصار، الاغلاق، الهجمات العسكرية المتكررة من جانب إسرائيل. هكذا على سبيل المثال، الاونروا، وهي اكبر هذه المنظمات، وهي منظمة مخضرمة واكثر ثراء بالموارد من بين منظمات الإغاثة الدولية العاملة في القطاع، نجحت في توفير خدمات طبية لـ 15 الف مريض كل يوم، رغم شل 15 مركز من بين 22 مركز طبي ثابت لها، ونجحت في توزيع رزم مساعدة ومياه للشرب لمئات الاف العائلات رغم التهجير المتكرر لها من قبل الجيش الإسرائيلي.

في الليلة بين 18 و19 اذار بدات إسرائيل في تنفيذ اللبنة الثالثة من خرق وقف اطلاق النار: استئناف عمليات القصف المكثفة على كل المراكز السكانية في القطاع مع عمليات تهجير جماعي للسكان ودفعهم الى مجمع مقلص الذي حجمه اقل من 20 في المئة من مساحة القطاع. طبيعة القصف وحجم الضرر الكبير لها لم تكن تختلف بصورة جوهرية عن الاضرار التي عرفها القطاع في الأشهر التي سبقت وقف اطلاق النار. ولكن منع ادخال المساعدات خلق نقص في الغذاء والأدوية والوقود، الامر الذي تفاقم كلما طالت أيام الهجوم وادى الى شل شبه مطلق بمنظومة إغاثة الطوارئ.

المخازن الكبيرة للاونروا في جنوب القطاع، التي يتم منها نقل التموين لعشرات المنشات ومئات مراكز التوزيع، فرغت في شهر نيسان. في الوقت الذي فيه الجوع والنقص انتشر وازداد والاف الشاحنات المحملة بالغذاء والأدوية انتظرت على أبواب القطاع بسبب رفض إدخالها. الامر الصادم بشكل خاص هو منع ادخال الوقود الذي يشل انتاج الكهرباء في القطاع. بدون كهرباء لا يمكن تشغيل منشات تحلية المياه، وحدث نقص شديد في مياه الشرب. بدون كهرباء المستشفيات تقلص الى الحد الأدنى تشغيل المولدات فيها، وقدرتها على انقاذ الحياة سيقل. يصعب تحمل التقارير اليومية لمدراء المستشفيات التي ما زالت تعمل في القطاع، وهي تتحدث عن جموع المصابين ومرضى الكلى والسرطان، والأطفال الخدج وحتى المرضى بامراض بسيطة الذين حكم عليهم بالموت.

الصرخة العالية والمتواصلة التي اطلقتها مجموعة طويلة من منظمات الإغاثة وحقوق الانسان إزاء الكارثة الإنسانية المتعاظمة، لم تنجح في وقف إسرائيل، لكنها اجبرتها في النهاية الى ادخال المساعدات الى القطاع، لكن برعاية الدعم الأمريكي فعلت ذلك بالقطارة وحسب شروطها. بدلا من السماح لالاف الشاحنات التي تنتظر الدخول وملء المخازن لمنظمات الإغاثة والمستشفيات، وبدلا من السماح لالاف العمال المدربين في الاونروا ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى بتوزيع المواد الغذائية والمياه والبطانيات ومواد التنظيف في 400 نقطة توزيع التي تستخدمها لذلك، استخذمت إسرائيل صندوق المساعدة لغزة الأمريكي أربعة مراكز توزيع في منشات تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي وحمايته. وهذه تحولت الى افخاخ موت.

ان خرق وقف اطلاق النار مع حماس تم التخطيط له مسبقا كخطوة تستهدف زيادة المس بسكان غزة عن طريق دمج القتل الجماعي، تدمير البنى التحتية الحيوية والتهجير بالاكراه، الى جانب منع المساعدات الإنسانية وتحييد منظمات الإغاثة وخدمات الطوارئ القائمة. كل عامل من عوامل هذه العملية هو جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية. ودمجها لا يمكن اعتباره الا افظع الجرائم ضد الإنسانية، سواء من ناحية النية التي وراءها او من ناحية النتيجة.

نظرا لان هذه الجريمة الفظيعة تتواصل حتى كتابة هذه السطور، وأيضا وقفها عن طريق وقف النار لا يضمن ان لا تستأنف في المستقبل، ونظرا لانه أيضا حتى لو توقفت فانه لا يوجد غفران لها، من المهم محاولة فهم ما الذي يسمح بحدوثها.

يبدو أنه يوجد لمؤسسات الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها الأدوات والاليات لمنع حدوث هذه الجريمة الأكثر فظاعة من جميع الجرائم، او على الأقل القضاء عليها في مهدها، حيث ان كل واحد من مكوناتها هو بمثابة خرق خطير جدا للقانون الدولي والمواثيق ذات الصلة التي وقعت عليها إسرائيل وكان يمكن ان تكون ملتزمة بها. من يتابعون يعرفون انه في هذه المرة “العالم لم يصمت”، على الأقل ليس المؤسسات الأكثر أهمية في المجتمع الدولي. من أيام الحرب الأولى تم بذل جهود محمومة للأمم المتحدة لوقف جرائم الحرب الإسرائيلية، في لجان الأمم المتحدة، الجمعية العمومية ومجلس الامن، ولكن هذه تم احباطها مرة تلو الأخرى بواسطة الفيتو الأمريكي في مجلس الامن، الذي يلغي القوة التي أعطيت لهذه المؤسسة، وفي الواقع سبب وجودها. الحماية التي تعطيها أمريكا لإسرائيل بواسطة الفيتو التلقائي يضعها فوق القانون الدولي ويسمح لها بخرق بصورة منهجية كل قرارات الأمم المتحدة والمواثيق، وأن تتبول من الشرفة على الأمم المتحدة وعلى مبادئها.

في هذا السياق يجب التذكير بان ا ستخدام الفيتو الذي يسمح باستمرار جرائم الحرب في غزة هو حالة متطرفة لنفس النهج، الذي بواسطته تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بمواصلة السيطرة على المناطق المحتلة منذ 58 سنة رغم ان سيطرتها على الفلسطينيين وعلى أراضيهم هو خرق فاضح للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بما في ذلك قرار التقسيم (181)، الذي بفضله قامت إسرائيل.

لكن مع كل أهمية الفيتو فان افظع الجرائم لم تكن لتحدث وتستمر لولا “التصور المشترك للقيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل التي تسمح بتنفيذها واستمرارها”. الحرب في غزة لم تكن لتحدث كما حدثت، ولم تكن لتتطور كما تطورت بسبب مصالح سياسية شخصية لبنيامين نتنياهو، لو كان استمرارها مخالف لتصور القيادة الأمنية العليا لكان من المرجح ان يؤدي ذلك الى وقفها. التصور هو الرؤية الاستراتيجية التي توجه القيادة الإسرائيلية منذ ان ادارت ظهرها للحل السياسي الذي يقوم على إقامة دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل وإقامة علاقات سليمة بينهما. هذا التصور يفترض إمكانية استمرار السيطرة على المناطق المحتلة والسكان الفلسطينيين الى الابد، وتوفير قدر كبير من الامن الشخصي والرفاه الاقتصادي لاغلبية المواطنين الإسرائيليين.

حتى 7 أكتوبر الافتراض المرافق لهذا “التصور” هو ان الوسائل العسكرية الرئيسية المطلوبة لضمان استمرار هذه الثنائية هي قمع أي مظهر من مظاهر المقاومة الفلسطينية في المناطق وحماية ذاتية للراي العام الإسرائيلي. الهجوم القاتل لحماس في 7 أكتوبر أدى الى تغيير الرؤية بالنسبة للوسائل، لكن التصور بقي على حاله. انه يمكن مواصلة الاحتفاظ الى الابد بالمناطق المحتلة، وأيضا توفير الامن لمواطني إسرائيل، لكن لا يكفي بالقمع والحماية، مطلوب حرب إبادة. في الـ 21 شهر الأخيرة نحن نشاهد انتقال لإسرائيل من الحرب التي استهدفت منع إمكانية إقامة دولة فلسطينية في المناطق المحتلة الى حرب هدفها منع الفلسطينيين من مواصلة العيش في هذه المناطق.

ليس سكان غزة هم الهدف الان، ويشاهدون فظائع حرب الإبادة بكل رعبها، أيضا سكان الضفة الغربية. حيث ان 40 الف من سكان مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس تم اقتلاعهم من بيوتهم في “عملية تدمير غير مسبوقة” التي بدأ بها الجيش الإسرائيلي في كانون الثاني 2025 (في ذروة وقف اطلاق النار في القطاع)، وموعد انتهاءها غير معروف. عشرات البيوت تم تفجيرها ومحوها، أوامر هدم (التي الالتماس ضدها تم رفضه في المحكمة العليا)، تهدد مئات البيوت الأخرى، بنى تحتية دمرت تماما وعشرات الاف المهجرين الذين فقدوا كل عالمهم لا يعرفون ماذا سيجلب لهم اليوم. في الأشهر الستة الأولى في 2025 وثقت “اوتشا” ليس اقل من 740 اعتداء لمستوطنين التي انتهت باضرار في الأرواح او الممتلكات في اكثر من 200 تجمع في مناطق مختلفة في الضفة الغربية (4 هجمات كل يوم بالمتوسط). من 492 فلسطيني الذين أصيبوا في هذه الاعتداءات، 340 أصيبوا على يد المستوطنين والباقين على يد الجنود.

منذ 7 أكتوبر والضفة الغربية مغلقة كليا. مئات البوابات الحديدية والحواجز تقيد حركة السكان نحو قراهم او أماكن سكنهم. اكثر من 100 الف عامل الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبل الحرب فقدوا مصدر الرزق، ومثلهم عشرات الاف أصحاب المصالح التجارية الصغيرة والعمال المحليين. نسبة البطالة التي كانت 15 في المئة قبل الحرب قفزت الى حوالي 35 في المئة، حسب تقدير حذر، وكل ذلك بدون الإشارة الى الاقتحامات اليومية للجيش في القرى ومخيمات اللاجئين والمدن، التي كل هدفها هو القاء الرعب، والاف المعتقلين، نصفهم في الاعتقال الإداري، الذين لم يكن لهم أي علاقة بهجوم حماس، والذين يموتون في السجون تحت ظروف لا يستوعبها العقل.

نحن، معارضو الاحتلال في إسرائيل، القدامى والشباب، ما تبقى مما كان في السابق يشكل معسكر سلام واسع ومفعم بالامل، لم ننجح في وقف حرب الإبادة في غزة. ولكن ما يفعله الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في الضفة ما زال يمكن وقفه. وهذا يجب ان يكون مهمتنا الان. التاريخ لن يغفر لنا اذا فشلنا في ذلك.

 

 

مركز الناطور للدراسات والابحاث Facebook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى